“إن خليت خربت” سلوكيات اجتماعية ترمم الأمل وتكرّس الفكر التطوعي التكافلي.. وأخرى غارقة بالأخطاء!

“إن خليت خربت” سلوكيات اجتماعية ترمم الأمل وتكرّس الفكر التطوعي التكافلي.. وأخرى غارقة بالأخطاء!

شعوب وعادات

الجمعة، ١٥ سبتمبر ٢٠١٧

صور عن ممارسات سلبية وخاطئة لا تردعها القوانين تتكرر أمامنا بين الحين والآخر، ونشعر بالأسف والخزي لوجودها في مجتمعنا، خاصة حين تتحول لثقافة شعبية متداولة بين الأفراد، فتختفي مظاهر الاحترام والمحبة بين الآخرين، وتسود بدلاً عنها حالة من الفوضى، واللامسؤولية، وغياب الأخلاق أو مظاهر التعاون الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وربما تكون حالة التدافع التي تحصل بين الحين والآخر أمام وسائل النقل العامة إحدى تلك الصور الكثيرة، وكم كان مؤسفاً ما شاهدناه قبل أيام حين قام بعض الشبان بدفع سيدة عجوز حاولت الصعود إلى وسيلة نقل عامة، في وقت كان يتجمع فيه عشرات الركاب المنتظرين للركوب في أحد المواقف قرب شارع الثورة، فارتسمت علامات الحزن والاستياء على تلك السيدة التي لم تكن تمتلك مؤهلات الصعود في وسائل النقل العامة من عضلات، وقدرة على التحمّل بسبب عمرها الكبير، وجسدها الضعيف!.

ليست حالة وحيدة

وتتكرر الأمثلة التي نشاهدها يومياً، أو القصص التي نسمع عنها في المجتمع لحالات كثيرة تراجعت فيها النواحي الإنسانية، وغاب التكافل الاجتماعي عن صورها، فما أكثر الأمثلة التي تشبه قصة السيدة العجوز، وغيرها من القصص المشابهة التي لا تراعي الآخرين، أو تقدر عملهم، مثل القصة التي رواها أمامنا أبو قصي عامل النظافة الذي بدا الاستياء عليه من تصرفات البعض برمي القمامة في الشارع رغم وجود أماكن مخصصة لرميها، يقول ذلك العامل: أمر مؤسف جداً أن يعتقد البعض أن عامل النظافة تترتب عليه لوحده مسؤولية تنظيف المدينة من الأوساخ والقاذورات، وحتى لو كان هذا الأمر صحيحاً لا يعني أن نقوم برمي الأوساخ متعمدين كما حدث قبل أيام حين قام بعض الشبان برمي مخلفات طعامهم أمامي في الشارع، رغم وجود سلة مهملات قريبة في المكان، ومضوا غير عابئين بأوساخهم التي شوّهت منظر الشارع، وقدمت صورة مؤسفة عن طبيعة المجتمع لدينا، أما إيناس، الطالبة الجامعية، فتبدو مستاءة هي الأخرى من الحالة السلبية التي يظهرها البعض حين تكون واقفة في الباص مثلاً دون أن يحاول أحد الشباب منحها كرسياً للجلوس، أو حين تقف في الشمس فترة طويلة دون أن يساعدها جسدها أو طبيعتها كفتاة في التدافع مع الأشخاص الذين ينتظرون وسائل النقل أيضاً.. قصة أخرى حدثت مع أبي حسام، الرجل الأربعيني، الذي ترك منزله المستأجر في أكثر ليالي الشتاء الماضي برداً دون أية رحمة أو شفقة من قبل المالك، ودون أي اعتبار لوضعه، ووجود أطفال لديه في المدارس، ويكمل أبو حسام: عن أي تكافل اجتماعي يمكننا الحديث في ظل ضعف العلاقات بين الأهل والأقارب، وما بتنا نعيشه من ظلم وقسوة وجور في سنوات الحرب السوداء!.

أكثر إيجابية

في المقابل ربما لا تكون الصورة مظلمة تماماً، فهناك حالات كثيرة تجلت فيها الرحمة والإنسانية، وظهر خلالها سلوك يمثّل ما نحتاجه فعلاً في أوقات الحرب، وهناك صور وقصص إيجابية من الجانب الآخر يتحدث عنها البعض، فيتحدث علي، الشاب الثلاثيني، عن قصة حدثت معه منذ سنة مضت حين توقف له شخص لا يعرفه وأقله في سيارته بعد أن شاهده مقطوعاً على الطريق، في وقت كان يشهد أزمة مرور، وقلة في وسائل المواصلات، وقال: كم كنت ممتناً لذلك الرجل وسلوكه النبيل، وتتحدث فرح، الشابة العشرينية، عن انتسابها لجمعية عمل تطوعي قدمت من خلال العمل فيها المساعدة للكثير من الأشخاص، سواء من الناحية المادية المتمثّلة بوجبات الطعام للفقراء والمحتاجين، أو الزيارات لأماكن كثيرة، والدعم المعنوي لجرحى الجيش ومصابيه، ولأسر الشهداء، والعائلات الفقيرة والمحتاجة، وتختم فرح: يجب أن نعمل دائماً على زرع بذور المحبة، فالحرب وإن كانت قد أخرجت أسوأ ما في نفوسنا، وغيّبت التكافل الاجتماعي عن الكثيرين منا، لكنها أيضاً أظهرت الخير الموجود عند البعض، والذي يجب أن يكون نموذجاً للمتبقين منا، وتختم الفتاة بالقول: “إن خليت خربت”!.

اختبار فعلي

يؤكد الدكتور إبراهيم ملحم، المتخصص في علم نفس الاجتماع، والمدرّس في جامعة البعث، أن الكوارث والحروب تمثّل في الحقيقة فترات اختبار فعلية لسلوك الإنسان، وتجسّد السلوك الحقيقي له، ومن المتوقع في الحروب أن تظهر الكثير من القصص والنماذج التي ترسّخ الفردية، والأنانية، وتغيّب مظاهر التكافل الاجتماعي، فالسلوك المدني الإنساني انعكاس لبعدين أساسيين هما: التربية الاجتماعية، والحالة الثقافية، وللأسف لم يكن مجتمعنا متفوقاً في هذه الأبعاد الأساسية في الفترة التي سبقت الحرب، فلا يمكن أن يتجسّد نظام التكافل إلا بالتحرر أو التقييد، بكليهما، فالتحرر خلال الأزمة من صلب القيم الاجتماعية، والتحرر من أساسيات المجتمع الفاضل، وهنا المشكلة الكبرى، لأن السلوك انعكاس للخلفية الثقافية الأيديولوجية للشخص، وللثقافة بشكل عام، وهشاشة هذه الثقافة هي انعكاس للتربية والتعليم.

وعي جماعي وحلول

في المقابل يتحدث الدكتور ملحم عن حالات أظهرت وأبرزت وعياً جماعياً تمثّل بنضج الفكر الاجتماعي عند بعض الفئات الاجتماعية، وتمثّلت بظهور الفكر التطوعي التكافلي لدى شرائح الشباب، خاصة أن هذا الأمر كان ملفتاً، ودل على نضج حقيقي، وإن كان بمبادرات أغلبها ذات ألوان مناطقية، ومذهبية، ودينية، وحتى سياسية، لكن هذه النتيجة متوقعة، وهي ثقافة الحروب، فرغم ظهور هذه الجمعيات بطابع شبابي، إلا أنها في الواقع كانت بدعم وإيحاء من منظمات متنوعة سياسية، ودينية، وغيرها، فالنضج الحضاري لبعض المناطق دفع البعض للعمل الإنساني بتسميات دينية قد تتبع الكنيسة، وقد تتبع الأوقاف، وهذا الأمر ليس مرتبطاً بمجتمعنا فقط، وإنما كل المجتمعات تتصرف بطرق مشابهة، فلا هدف إنسانياً بالمطلق، ولا توجد جمعية إلا ولها هدف مبطن حتى لو لم تكن معروفة في مرحلة البداية، ولكن أياً يكن تنوع الجمعيات، وزيادة عددها فهو ينم عن وعي وتفاعل اجتماعي نحن بحاجة إليه، ويختم الملحم بأنه في المرحلة التي تلي الحرب من المهم جداً إعادة النظر بموضوع تمويل الجمعيات، ولاسيما الشبابية، وتفعيل نظام البطالة والتقدم الاجتماعي للمحافظة على رأس المال الاجتماعي، بمعنى أن نقدم معونات حقيقية للمحتاجين، وهذه المعونات ليست مادية فقط، وإنما تأمين فرص عمل للفرد عبر بوابات حقيقية وفعلية للعاطلين عن العمل تسهم بخفض العبء عن الجمعيات، فالدعم المادي حين نبحث عن تعزيز التكافل الاجتماعي يكون مع دعم شامل من كل النواحي الأخرى النفسية أو الاجتماعية، وهو يعتمد نظام ما بعد الصدمة للحروب أو الكوارث.

لمجتمع أفضل

لعلها أكثر الصور التي تستحق الاحترام والتقدير في مجتمع يهتم بالمظاهر أن نبحث في زمن الحرب عن تعزيز التكافل الاجتماعي، وتمتين أواصره، فهو الوجه الآخر للعدالة الاجتماعية، والاثنان يكمّلان دوراً واحداً يتعلق بالمحافظة على اتزان المجتمع واستقراره، فحين يتكفّل المجتمع بشؤون كل فرد فيه من كل ناحية من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والصحية، يسود التواضع، ويبنى المجتمع القوي الذي ننشده.

محمد محمود