مهنة التصوير.. تفقد حضورها الاجتماعي أمام تقنيات السيلفي.. وحاملو الكاميرات الجوالة يفقدون مصدر رزقهم

مهنة التصوير.. تفقد حضورها الاجتماعي أمام تقنيات السيلفي.. وحاملو الكاميرات الجوالة يفقدون مصدر رزقهم

شعوب وعادات

الجمعة، ٣ مارس ٢٠١٧

ربما انتهى إلى غير عودة عصر نقف فيه، ونحن بكامل أناقتنا، وتحضيراتنا بانتظار مصوّر يلتقط لنا صورة تذكارية في مكان ما من شوارع دمشق أو أزقتها، صورة فورية للذكرى تظهر لنا سريعاً لتوثّق ذكريات جميلة عشناها، كان الأمر حينها يشبه السحر، ونحن نحصل في التوقيت نفسه على تلك الصورة دون انتظار مراحل التحميض أو الطباعة، في حين أصبحنا اليوم نكتفي فقط بالحصول على هاتف حديث بميزات متوسطة لنكون مؤهلين لتوثيق الكثير، والكثير من الأحداث، والتفاعل معها ملتقطين آلاف الصورة الفورية، هذا العصر الجديد الذي ماتت فيه مهنة التصوير الفوري، وعاش آخر مصوريها مراحل احتضار، وانتقال لنجد بعضهم على أرصفة الطرقات يحاولون كسب العيش بسبل أخرى بعيداً عن سؤال الناس واستجدائهم.

بسطة متواضعة

جرابات، كفوف مطاطية للجلي، وبعض الاكسسوارات بسيطة كل ما كان على بسطة “أبو فراس” أحد المصورين الفوريين القدامى الذين عرفتهم مدينة دمشق، كان يبسط بتلك الأشياء البسيطة دون كاميرته الفورية التي رافقته سنوات طويلة تحت جسر فكتوريا في شارع الثورة، علّ هذا العمل الشريف يكفي الرجل سؤال الناس وحاجتهم بعد أن أعلنت التكنولوجيا الرقمية، وعصر الصورة السريعة موت مهنته سريرياً، إذ يوضح لنا أن أفلامها نفدت وأدوات تحضيرها نفدت اليوم من السوق، لتصبح تلك المكنة الغالية كجسد غادرته الروح، وفارقته الحياة بعد رحلة طويلة أنتجت فيها آلاف الصور التذكارية لمدينة دمشق والعابرين فيها.

حديث ذكريات

حديث شيّق، واستعراض ممتع لشريط من الذكريات عن صور ولحظات، وثّقت تفاصيل عديدة في مدينة دمشق، استعادها أمامنا المصوّر الجوال أبو فراس في حديث امتّد معه لما يقارب الساعة في مكان جلوسه المعتاد منذ أكثر من أربعين سنة تحت جسر فكتوريا، يقول الرجل السبعيني الذي بدت مظاهر الشيخوخة على ملامح وجهه الهادئ: في عام 1972 كانت بدايتي مع رحلة التصوير، وكانت الصور الملتقطة جميعها باللون الأبيض والأسود، الأسعار كانت منخفضة جداً وبسيطة، إذ كان ثمن الصورة الواحدة لا يتجاوز الـ 50 قرشاً،  بعد ذلك تطورت الصور إلى الملون، ثم تطورت في عام 1979 إلى التصوير الفوري، وكانت كلفة الصورة الواحدة ثماني ليرات، حينها كانت الحياة أكثر هدوءاً، وأقل صخباً من أيامنا هذه، تخيّل أن بعض الناس اعتقدوا في تلك الفترة أن التصوير الفوري هو عملية سحر، وأثارت هذه الصور في بداية انتشارها رهبة الناس وخوفهم، كان بإمكانك أن تلمس البساطة والصدق والعفوية في وجوههم، وهو الأمر الذي راق لي كثيراً، لذا حرصت منذ بداية عملي كمحترف للتصوير أن أتواجد بينهم في أكثر الأماكن حركة وازدحاماً، كنت أشعر بالراحة والاطمئنان بين الناس، ولم أكن أشعر بالخوف من شيء، ومع أنني عملت في استوديو تصوير لمدة زمنية، لكنني وجدت في الحياة بين الناس وحركتها المتعة الأكبر، لذا أحظى بشعبية كبيرة في هذه المنطقة، ولدي الكثير من الزبائن الذين التقطت لهم صوراً تذكارية ما زالوا على تواصل معي، وزيارات مستمرة حتى اليوم.

هكذا كنا

يتوقف العم أبو فراس عن الحديث قليلاً، يبحث بين أشيائه الموزعة حوله عن محفظة صغيرة، يُخرج منها صورة قديمة بالأبيض والأسود، ويستعرضها أمامنا، في تلك الصورة الملتقطة في عام 1972 تبدو مدينة دمشق على مساحة واحدة ممتدة من ساحة المرجة حتى جبل قاسيون، يشرح الرجل كيف أن جسر فكتوريا لم يكن موجوداً بعد، ولم يكن كل العمران الذي نعرفه اليوم موجوداً كذلك.

يعيد أبو فراس الصورة إلى محفظته، يبتسم قليلاً، وكأن الزمن أعاده إلى حلاوة تلك اللحظة التي التقط صورته فيها، ويتابع حديثه: كنت أتنقل أنا وعدد من المصورين القلائل في تلك الفترة إلى مناطق عديدة في مدينة دمشق وريفها، من الغوطة إلى الزبداني، إلى عين الخضرة، والربوة، وغيرها، لأوثق بصوري ملامح دمشق، والجمال الذي تحتويه، وكانت في أرشيفي صور نادرة لمدينة دمشق، وجبل قاسيون حين كان الطريق إليه ترابياً فقط.

ذهبت مع الحرب

ومع حديث الذكريات تتغير ملامح الرجل، وتختلف تقاسيم وجهه، ويظهر الأسف في القادم من حديثه حين يوضح ما حل بأرشيفه الخاص المتضمن آلاف الصور، منها ما يتجاوز 200 صورة أثرية ونادرة، يقول أبو فراس: ما احترق قلبي لأجله هو أن كل تلك الصور وما تختزله من ذكريات تبخرت في الهواء بعد أن تدمر منزلي في منطقة التضامن نتيجة الأحداث الأخيرة، والحرب على سورية، فالحرب تركت بصمتها المدمرة على كل ذكرياتي، وقضت على كل أرشيفي الخاص، وهذا ما يؤلمني حقاً، وإضافة إلى كل ذلك ذهبت عدتي في التضامن، وسرقت جميعها، كاميرات قديمة، وفلاشات تتجاوز قيمتها المادية الـ 150 ألفاً، لكن قيمتها المعنوية أكثر من ذلك بكثير، كاميرا فورية هي كل ما تبقى لدي مؤخراً كنت أتفنن بالتصوير بها، وكان لدي الكثير والكثير من الأفكار لتطويرها، لكن انتهاء أفلام التصوير للكاميرات الفورية من السوق أجهز على البصيص الأخير حتى لا تموت هذه المهنة.

إرادة حياة

ولا يخفي أبو فراس استياءه من عصر الكاميرات الرقمية التي أصبحت الصورة السريعة فيها مشاعاً للجميع دون أية خصوصية، أو طقوس ترافق عملية التصوير، يوضح المصور: صور الديجيتال لا يوجد فيها أي احتراف، ولا تعطي المراحل نفسها التي كنت أقوم بها، فكاميراتي الخاصة قمت بالتعديل عليها، وكانت لدي أفكار كثيرة لتطوير المهنة التي أحببتها، أما الديجيتال فتصور من تلقاء نفسها، وأنا أهوى صناعة الصورة، والاحتراف بإظهارها، لذا أرفض الانتقال إلى هذا النوع من التصوير، حتى لو كان العنوان العريض لما سيقال بأني تحولت من مصور إلى بائع جرابات في جسر فيكتوريا، فالتصوير هواية وفن وتذوق قبل أن يكون صناعة واحترافاً، يختم المصور السبعيني حديثه قائلاً: إذا كانت التكنولوجيا قد أعلنت موت مهنة التصوير الفوري لعدم وجود بضاعة وأفلام لها، لكن إرادة الحياة مازالت متجسدة بما لدي من عزم، وإصرار، وحب للحياة، لأنني لا أرضى البقاء دون عمل، وأجاهد لآخر نفس.

محمد محمود