أفلام عربية في «مهرجان أبوظبي السينمائي».. الصمت والرعب والصحراء

أفلام عربية في «مهرجان أبوظبي السينمائي».. الصمت والرعب والصحراء

سينما

الخميس، ٢٣ أكتوبر ٢٠١٤

تزخر المسابقات الرسمية الأساسية في "مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي" بأفلام حديثة الإنتاج، بعضها لمخرجين يصنعون نتاجات صادمة وسجالية. "مسابقة آفاق جديدة"، في الدورة الثامنة هذه (23 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2014) مساحة لمخرجين جدد يأتون إلى المهرجان بأفلام أولى أو ثانية. مساحة لاكتشاف شباب ذوي مواهب جدّية، قد يتحوّلون إلى حرفيين لاحقين. أفلام كهذه في دورات سابقة كانت بداية احتراف، وانطلاقة لم تعد واعدة فقط، لأنها منتقلة إلى ما هو أهم: مُشاركة في صناعة صورة سينمائية عربية جديدة.
ليست المسابقة هذه معقودة على السينما العربية فقط. "مهرجان أبوظبي السينمائي" لم يُخصّص بالسينما العربية مسابقة مستقلّة، باستثناء النتاج الإماراتي (مسابقة أفلام الإمارات). للسينما العربية حيّز خاصّ بها، لكن خارج المسابقات. "السينما العربية في المهجر" استعادة لأفلام صنعها سينمائيون عرب مقيمون في دول الاغتراب أو المنافي. غير أن جديد هذه السينما منخرط في المسابقات الدولية: الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة، إلى جانب "آفاق جديدة".

رحلات الصمت

في هذه الأخيرة، هناك أربعة أفلام عربية فقط من أصل 19 فيلماً. لا أعرف آلية الاختيار وشروطه ومتطلباته. لعلّ إدارة المسابقة لم تعثر على "كُلّ" الأفضل في النتاجات العربية الحديثة. لعلّها ارتأت اختيار هذه الأفلام الأربعة لأسباب مرتبطة بجمالياتها، أو رغبة منها في توفير فرصة مُشاهدة بعض الجديد. أبرز الأفلام الأربعة: "الوهرانيّ" للجزائري الفرنسي لياس سالم. حكاية ثورة ضد احتلال، من خلال الفرد. ثوّار يواجهون محتلاً، لكنهم يسقطون في النزاعات الداخلية. "الثورة تأكل أبناءها": مقولة واضحة المعالم في الفيلم الجزائري الفرنسي. لياس سالم مستمرٌّ في استخدام السخرية أداة تعبير سينمائي، كفيلمه الأول "مسخرة" (2008). لكن السخرية في "الوهرانيّ" مريرة وقاسية، كمرارة اللحظة المُعاشة وقسوتها. الوهرانيّ (تأدية لياس سالم نفسه) معروفٌ ببسالته في مقارعة الفرنسيين. يعود بعد الانتصار إلى بلدته. يكتشف موت زوجته، ويتعرّف إلى ابنه ذي الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين. تبدأ الرحلة: رحلة انكشاف أسرار قديمة. الانفصال بين الثوّار يبدأ غداة الانتصار. هناك من انخرط في السياسة، وهناك من يريد مسافة بينه وبينها. حقيقة موت زوجة الوهرانيّ مخالفة لـ"الرواية الرسمية": هي ليست شهيدة، لأنها قُتِلَت انتقاماً من زوجها. الجريمة متخفّية في الثورة. أو ربما محميّة بها. الصمت الذي يُفرض على رفاق الوهرانيّ في ذروة النضال، أفضى لاحقاً إلى تفعيل الانشقاق بين رفاق السلاح.
هذا صمت يُشبه، قليلاً، ما يجري في "صمت الراعي" للعراقي رعد مشتّت. الموضوع مختلف. إنه زمن صدام حسين. إنها قرية في الجنوب. هناك تقاليد وثقافة محلية صارمة. هناك فتاة (13 عاماً) تختفي فجأة. وهناك أيضاً ذلك الصمت الذي يؤدّي إلى سلسلة أزمات. لكن المناخ العام ذاهبٌ إلى سؤال القتل. المقابر الجماعية، وجرائم نظام صدام، والفقدان، والأسرار المدفونة هنا وهناك: "تمّ التصوير في مناطق نائية من مدينة السماوة. فيها أشهر سجن عرفه تاريخ العراق، يُشبه إلى حدّ ما سجن الباستيل"، يقول مشتّت. والد الفتاة المختفية يريد معرفة مصيرها. يريد تحقيق ذلك بنفسه. الرحلة قاسية، كتلك الرحلات التي تبدأ في مكان جغرافي، وتكاد لا تنتهي في الروح والبيئة الاجتماعية والوقائع الحياتية.
فيلمان عربيان آخران يُشاركان في "آفاق جديدة"، أحدهما يفتتح الدورة الثامنة للمهرجان مساء اليوم الخميس: "من ألف إلى باء" للإماراتي علي مصطفى. هنا أيضاً رحلة إنسانية، كما في الفيلم الأردني "ذيب" لناجي أبو نوّار. الإماراتي يواكب سفر ثلاثة أصدقاء من أبوظبي إلى بيروت للاحتفاء بذكرى رحيل صديق لهم توفي في المدينة اللبنانية قبل أعوام. الأردني العائد إلى زمن الحرب العالمية الأولى، يرسم ملامح بيئة قبلية، وعلاقات قائمة بين أهل البقاع تلك والمحتل البريطاني والجنود العثمانيين. رحلة الأصدقاء الثلاثة مليئة بمغامرة الطريق الطويلة، وأسرار الصداقة، وذكريات الأمس، والرغبات المفتوحة على أحلام وحكايات. رحلة ذيب وشقيقه في متاهات الصحراء وخفايا الوقائع مليئة بالاكتشافات: أنماط الحياة وأخلاق الناس وتفاصيل العيش في لحظة تحوّلات كبرى. السياسة في "ذيب" متوغلة في ثنايا الحبكة: ثوار عرب وعثمانيون وإنكليز وتطلعات في اتجاه غد أفضل. النسق السينمائي المعتمد في الفيلمين مشغول ببساطة تحمل في طياتها نواة احتراف سينمائي.

وثائقيات

الأفلام الوثائقية العربية أكثر عدداً. في المسابقة الرسمية التي تضمّ 17 فيلماً، هناك سبعة منها. بعضها مقبل من جحيم الألم والأمل السوريين ("العودة إلى حمص" لطلال ديركي، و"ملكات سورية" لياسمين فضّة). بعض آخر يحفر في الذاكرة المفتوحة على تداخل الخاصّ بالعام ("الأوديسا العراقية" للعراقي السويسري سمير). هناك "لعب" في المسافات الفاصلة بين الحاضر والماضي، أو بين اللحظة وبيئتها ("صوت البحر" للإماراتية نجوم الغانم، و"المطلوبون الـ 18" للفلسطيني عامر الشوملي والكندي بول كووان، و"قراصنة سلا" للمغربية مريم عدّو والإنكليزية روزا روجرز، و"أم غايب" للمصرية نادين صليب).
الوثائقي العربي منجذبٌ إلى المعادلة السينمائية عادة: تساوٍ بين اشتغال سينمائي بصري ومادة منفلشة على وقائع وحكايات. مأزق بعض أفلامه: إسراف في الكلام. هناك راو (المخرج) يُفسّر ويقول ويبوح مستخدماً الكلمات. هذا لا يكون حسناً دائماً. هذه ثرثرة. غلبة الكلام على الصورة، وإن كانت وثائقية، تُلغي جمالية السينما. هناك مواضيع محتاجة إلى تفسير مباشر، وإلى مساحة أوسع للكلام. هذا صحيح. لكن، للسينما حقّها في الحضور. "المطلوبون الـ 18" مثلاً يُتقن تحويل الكلام إلى سينما. كثرة المعطيات وتداخلها الزمني والجغرافي يحتاجان إلى شفهيّ يقوله الراوي لتوضيح أمر، أو لتبيان علاقة، أو لبوح ما (الأوديسا العراقية). "قراصنة سلا" يروي سير مراهقين يعثرون في مدرسة السيرك على خلاص من بؤس وفقر وقلق. نجوم الغانم مستمرّة في تأريخ ذاكرة عبر شخصيات عديدة، آخرها مغنٍّ شعبيّ يريد رحلة أخيرة له في نهر أو ذكريات أو حياة (صوت البحر).
هذه أمثلة. للسينما العربية في "مهرجان أبوظبي السينمائي" تنويعات أخرى محرّضة على النقاش، كتحريضها على متعة المُشاهدة.