«امرأة رائعة» ... في مواجهة مجتمع لا يرحم

«امرأة رائعة» ... في مواجهة مجتمع لا يرحم

سينما

السبت، ٣١ مارس ٢٠١٨

لقطة من «امرأة رائعة»

 

عقب فوز «امرأة رائعة» بأوسكار أفضل فيلم أجنبي احتفت رئيسة الدولة التشيلية ميشال باشليت بالجائزة مع صُناعه، تقديراً لتتويج عالمي هو الأول من نوعه للسينما في تشيلي. على رغم أن مخرجه سباستيان ليليو من الوجوه المرموقة، وسبق أن توجت المهرجانات الكبرى أعماله خصوصاً فيلمه «غلوريا» 2013.
 
ثمة أوجه للشبه بين الشريطين في تمركزهما التام حول «امرأة» لا تكاد تغادر إطار الشاشة، فحبكة «غلوريا» دارت حول بطلة تحمل هذا الاسم، جسدتها بولينا غارسيا ونالت جائزة أفضل ممثلة من مهرجان برلين لذلك العام، وهي سيدة في منتصف العمر، تعاني الوحدة وتسعى لعيش حريتها وحياتها وعدم إهدار أي لحظة منها. أما حبكة «امرأة رائعة» فتدور حول «مارينا» (دانييلا فيغا) وهي أيضاً امرأة متحولة تمردت على هويتها كرجل، وعاشت قصة حب مع رجل أعمال عجوز يدعى «أورلاندو» (فرانسيسكو رييس)، يكبرها بنحو عشرين عاماً.
 
 
 
ضد الجميع
 
في الشريطين يأخذ الصراع بعداً دونكيشوتياً، فكلتا المرأتين تسعى بمثالية لاختيار هويتها، وحريتها، ونمط حياتها، مهما كان الثمن، لكنهما تواجهان بقسوة وثقل وشراسة المجتمع. «غلوريا» خاضت معركتها الأساسية مع أسرتها. أما «مارينا» فكانت معركتها مع أسرة عشيقها الذي فارق الحياة فجأة بأزمة قلبية.
 
فالمجتمع لا يسمح للمرأة أن تكون ذاتها، ولا يسمح لرجل أن يختار طواعية أن يتحول إلى امرأة ولا يقبل هويتها الجديدة، فالمرأة مهما كان عددها في أي مجتمع، تظل تعامل بصفتها «أقلية»، وغير كاملة الأهلية، بل هي موضع شبهة دائماً. هكذا ارتاب طبيب المستشفى في أن «مارينا» قد تكون سبب الوفاة المباغتة لـ «أورلاندو». وهو ما سعت الشرطة لإثباته حيث وضعتها في قفص الاتهام، وأخضعتها لاختبار مهين بإجبارها على التعري.
 
وفي مشهد آخر، تقف «مارينا» في المنتصف بين «شقيق المتوفى» و «الشرطي» مع لقطات مكبرة لنظرات عينيها وهي تراقب حوارهما بخوف وارتباك، وإشارة الأخ إلى أن «المسألة حساسة»، وكأنها محاولة لإخفاء وجودها من المشهد كله، على رغم أنه الوحيد بين أفراد الأسرة الذي أبدى تعاطفاً معها.
 
معظم المشاهد التي جمعتها بالآخرين من أفراد شرطة وأطباء وأسرة المتوفى، كانت بمثابة استجواب قاسٍ مهين، أسئلة كثيرة محرجة، تنتهك خصوصيتها، وتطعن فيها، وترغب في إدانتها وفرض العقاب عليها. فالابن يسألها مستنكراً: «أهذا كل شيء؟! كنتِ معه، ثم مات!» ثم سرعان ما يطردها من الشقة.
 
وعندما تلتقيها الزوجة السابقة تحرص أن يكون اللقاء خلسة في مرأب السيارات، وليس في البيت، ولا تتردد في احتقارها قائلة: «عندما أنظر إليك لا أعرف ما الذي أنظر إليه!».
 
 
 
جرأة القضية
 
على رغم جودة الشريط من الواضح أن فوزه بالأوسكار يرتبط أيضاً بقضيته الجريئة نسبياً، والتي تعبر عن فئة مهمشة تتعرض للضرب والإهانة والإذلال في معظم المجتمعات.
 
وإذا كان فيلم «الفتاة الدنماركية» 2015 والذي سبق أن رشح لأربع جوائز أوسكار وذهبت منها جائزة أفضل ممثلة لإليشيا فيكاندر، تناول قرار التحول، وإصرار البطل على القيام بالعملية الجراحية اللازمة، فإن فيلم «امرأة رائعة» أخذ خطوة أبعد، حيث تظهر المرأة متحولة بالفعل، لكنها تسعى لتكريس هويتها الجديدة ضد رغبة المجتمع وعدم تعاطفه معها.
 
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن احتفاء المهرجانات والجوائز بتلك النوعية من الأفلام، بمثابة دعم أيديولوجي، وانحياز لقضايا المهمشين من السود والنساء والمتحولين، ما يجعل حظوظها في التتويج تفوق أفلاماً أخرى. وكأن هذا التتويج بمثابة اعتراف، يوازي صك الاعتراف المجتمعي الذي ظلت البطلة «مارينا» طيلة 100 دقيقة تسعى لنيله، فهي لا تريد من الآخرين سوى قبولها كما اختارت أن تكون.
 
لذلك رفضت إغراء الحصول على مال لقاء الاختفاء من حياة أسرة الفقيد، بل تنازلت طواعية عما تركه في عهدتها مثل الشقة والسيارة. وكرّس الفيلم لها «بورتريهاً» نبيلاً بلا ضغينة، حيث تعمل نادلة في مطعم وتغني أحياناً في ملهى، ولا ترد الإساءة إلى الآخرين، وإنما فقط تتجنب أذاهم. ومن ثم تكتسب قضية الفيلم مزية أخرى، في تفكيك أشكال السلطة المجتمعية، التي لا تلقي الاهتمام عادة، مقارنة بالتركيز على السلطة السياسية المباشرة.
 
 
 
الحب والزيف
 
طيلة الشريط تسير «مارينا» في الشوارع وتقطع طرقات، لتأكيد كينونتها في أعين الآخرين. كما يأخذ هذا السير بعداً رمزياً، لتأكيد إصرارها على استكمال اختيارها، وعدم التراجع عنه. لذلك لجأ المخرج إلى بعض المشاهد التعبيرية على رغم المنحى الواقعي للشريط، مثل مشهد المرأة وهي تواجه ريحاً عاصفاً تكاد تطيح بها، لكنها تحافظ على ثباتها وتحديها، كما تتأمل صورتها مهتزة في مرآة كبيرة، قبل أن تواصل سيرها مع انعكاس صورة مزدوجة لها في واجهات المحال. وثمة حضور لافت لانعكاس المرايا في لقطات كثيرة، معظمها كانت متوسطة ومكبرة. ولا تكشف شخصيتها عن أبعاد كثيرة باستثناء مجابهتها للموقف الراهن عقب وفاة عشيقها. فهي اتسمت بقدر من المسالمية أو السلبية الدرامية باستثناء مواقف قليلة جداً، منها مواجهتها لكامل أفراد الأسرة والوقوف فوق سيارتهم، وإصرارها على استرداد كلبتها. وعلى رغم حرص الأسرة على استبعادها التام من مراسم الجنازة والعزاء، تنجح بالحيلة ودفع رشوة لمسؤول الجنائز، في توديع شريكها، والتعبير عن حبها الحقيقي له. مقابل موقف الأسرة الذي اتسم بالزيف الاجتماعي والنفاق والأنانية والجشع والجبن أيضاً. ونادراً ما أظهر أفرادها تعبيراً حقيقياً عن محبتهم للفقيد مثلها.
 
 
 
لغز المفتاح
 
لعل المقطع قبل الأخير كان من أضعف مقاطع الفيلم، فالكاميرا ظلت تتابع «مارينا» الحائرة وهي تحمل مفتاحاً برقم «181» ثم بالمصادفة أثناء خدمة أحد الرجال في المطعم تدرك أنه مفتاح خاص بالمركز الصحي «فنلنديا» الذي كان يتردد عليه عشيقها، فتذهب إلى هناك كمن تبحث عن شيء مخفي في خزانته، وبالفعل تفتحها من دون أن يتم الإفصاح عما عثرت عليه، ثم تخرج مسرعة وتأخذ سيارة أجرة إلى أحد العناوين، وهكذا ظل المقطع بكامله مبهماً!
 
مع ذلك نجحت «مارينا» في توديع حبيبها واستئناف حياتها، وتجاوز ألم الفقد بأغنية حزينة في الختام. مثلما نجحت، حتى بمشاهدها الصامتة، في فضح زيف المجتمعات التي ترسخ قواعد النفاق والانتهازية، ثم لا تقبل الاعتراف بالمختلفين المنتمين إلى الحلقة الضعيفة، والهوية المتمردة، مهما عبروا عن نبل ومحبة، بل إنها تبقى أكثر شراسة ضد من كل من يحاول كسر قواعدها والخروج عليها.