هل ينبغي أن نفهم إيران؟ توسّع فارسي أم خطر شيعي؟

هل ينبغي أن نفهم إيران؟ توسّع فارسي أم خطر شيعي؟

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٣٠ مارس ٢٠١٥

شاعت خلال السنوات الأخيرة في المؤلفات والكتب والمقالات والتعليقات السياسية، تصوّرات ومواقف عن خطر إيراني مزعوم يهددّ العالم العربي،  يمكن تلخصيها في فكرتين متناقضين تقول إحداهما، أن هذا الخطر له طابع قومي صرف، ولذا فهو خطر فارسي، بينما تقول الأخرى أنه خطر مذهبي، ولذا فهو خطر شيعي. وفي نطاق التدليل على صحة هذا التصوّر،

غالباً ما يلجأ مُروّجوه إلى التاريخ الإيراني ليستلّوا منه وقائع ومعطيات زائفة. إن النقد السياسي لسلوك إيران كدولة أمر مشروع لا جدال فيه، ومن حق أي شخص أن ينتقد سياساتها هنا أو هناك، لكن ليس من حق أي أحد، أن يتلاعب بتاريخ أي بلد، أو أن يُرغم وقائعه وأحداثه على قول ما لم يقله.

إن أحد أكثر أوجه التلاعب مأسويّة بتاريخ إيران في الأدبيات السياسية العربية السائدة، تتجلىّ في وجود نزعة لا حدود لها لتزييّف الوقائع وابتكار المصطلحات السخيفة، فما من ناقد لإيران إلا وزعم أن هذا التاريخ بكل ما فيه هو تاريخ أطماع فارسية أو شيعية، وأن إيران الحديثة، هي ذاتها القديمة بأطماعها التوّسعية ونزعتها ( المذهبية).

إن نقاشاً موضوعياً يبتعد عن روح الإنتقام ويتحرّى بأكثر ما يمكن من الحيادية العلمية والنزاهة، صحّة ما ينقل من وقائع وأحداث، والتدقيق فيها وفحصها والتأكد من صلابة مقولاتها، هو وحده الذي يمكنّا من تقديم فهم افضل لإيران مهما كان رأينا بها، ضدها أم معها. من حق كل ناقد لإيران أن يقررّ الموقف الذي يؤمن به، ولكن شرط أن يكون نزيهاً

وموضوعياً في معالجة وقائع التاريخ. ولئن كان ( نقد إيران) في الأدبيات السياسية العراقية- العربية وفي الدراسات الفكرية- التاريخية السائدة، انتج معرفة زائفة ومُضللة اضحت خلال العقود الماضية مادة مُهْيمنة في نظام التعليم المدرسي والدينيّ وفي وسائل الإعلام ؛ فإن التغاضي عن الحاجة الملحّة لدراسة إيران، ورفض أيّ محاولة جادّة لتقديم فهم خلاق ومغاير، سوف يؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تعميم هذه المعرفة الزائفة في المجتمع؛ بل وتحوّلها بواسطة التشهير السياسي الرخيص والتحريض الإعلامي المتواصل إلى ثقافة مجتمعية صلبة يصعب زعزعتها.
انقدوا إيران ماشاء لكم، لكن حذار من قراءة تاريخها بشكل مغلوط. لقد بيّنت وقائع وأحداث السنوات القليلة الماضية ، أن ( نقد إيران) كان يرتكز إلى ما يُزعم أنه ( تاريخ إيران الحقيقي ) فيقال غالباً، أن لها اطماعاً فارسية قديمة ومتواصلة، وأن تاريخها الحديث يؤكد ذلك. كما يُزعم أن هذه الأطماع هي من طبيعة مذهبية، وأن إيران الفارسية لا تطمع في أرض العرب وحسب؛ بل وتشكل خطراً مذهبياً ( شيعيّاً ) داهماً.

ومع تعميم هذين التصوّرين الزائفين اتتشر نوع مرضي من الخوف بات مُهيمناً على الخطاب السياسي العربي. في مصر مثلاً، وخلال حقبة حكم محمد مرسي، بلغت هستيريا ( الخوف من الخطر الشيعي) ذروتها حين قامت مجموعة من المهووسين بقتل عائلة رجل دين مسلم بطريقة وحشيّة، حين جرى سحلها في ازقة حي من أحياء ضواحي القاهرة، بحجة أنه ( شيعي) وذلك ما اضطرّ الكاتب الصحفي والمؤرخ الشهير محمد حسنين هيكل للقول خلال ندوة تلفزيونية، وهو يعبّر عن غضبه من هذا السلوك الوحشي، أنه حصل على احصائية رسمية تبيّن أن عدد الشيعة في مصر لا يتجاوز 18 الفاً؟ وللمرء أن يتساءل عن سرّ ( الشيعة فوبيا ) هذه في بلد تعداده 90 مليوناً ؟ مم تخاف هذه الملايين من المصريين؟ من 18 ألفاً ؟ هذا شئ مريع ولا يمكن تصديقه.

إن ثقافة من هذا النوع سوف تنشئ بكل تأكيد الأرضيّة الملائمة لا لتفجير النزاعات المذهبية في العالم العربي على نطاق أوسع فأوسع؛ بل وتحرث الطريق وتهيئ الظروف لظهور نمط جديد من الصراعات يحلّ فيه ( العدو الوهمي) محل ( العدو الحقيقي). بفضل التزييف والتلاعب بالجماهير والتاريخ والثقاقة القديمة، سوف يكون لدينا بديل عن الخطر الذي يهدد العرب، أي خطر الصهيونية وإسرائيل، لتصبح إيران ( والشيعة) هما الخطر الجديد. وهذا وحده كاف لتفجير صراع عربي- فارسي، بديل عن الصراع العربي-الإسرائيلي. في هذا السياق، سوف أورد الواقعة التالية وهي مهمّة للغاية في أيّ تحليل سياسي رصين: في نهاية عام 1980 وبعد أشهر من الحرب العراقية- الإيرانية زار محمد حسنين هيكل بغداد بدعوة من صدام حسين.

في هذا اللقاء سأل الرئيس صدام ضيفه : قل لي، ماذا تعتقد؟ كم يلزمنا من وقت لهزيمة إيران؟ ردّ هيكل قائلاً : أستطيع أن أقول لك انها حرب ال100 عام؟ دهش صدام حسين، فقال بعد لحظة تأمل : حسناً، دعنا نلتقي اليوم على العشاء. ساتصل بطارق عزيز لينضمّ لنا. في ذلك المساء سمع طارق عزيز رأي هيكل في مسار الحرب العراقية الإيرانية، لكنه لم يصدّق أبداً ، ولا للحظة واحدة، أن هذا التقدير يمكن أن يكون واقعياً.
بعد ثماني سنوات من هذا اللقاء اليتيم، توقفت الحرب مع إيران، لكنها فعلياً تواصلت بأشكالٍ أخرى، فالأحزاب الدينية الموالية لها ضاعفت من نشاطها العسكري والسياسي في العراق. في عام 1990-1991 كان العراق يدخل في ( الفخ الكويتي) ولتبدأ منذئذٍ حقبة سوداء من الحصار الدولي المدّمر، تصبح فيها إيران لاعباً رئيساً في الداخل العراقي ( خلال هذه الحقبة حدث ما يعرف بالإنتفاضة الشعبانية وسقطت 14 محافظة عراقية في قبضة الأحزاب الشيعية وكادت بغداد تسقط).

في عام 2003 قام الأمريكيون بغزو العراق، واصبحت إيران لاعباً رئيساً. هذا يعني أن الحرب مع إيران استمرت بوسائل أخرى، واصبح عمرها في لحظة سقوط بغداد فعلياً 23 عاماً ( 1980-2003). اليوم يصبح عمر هذه الحرب 35 عاماً. ألا يعني هذا أنها حرب طويلة قد تستمر 100 عام؟ فهل هي حرب من أجل أطماع ( قومية- فارسيّة) أم من أجل أطماع ( مذهبية- شيعيّة)؟ في المرحلة الأولى من الحرب العراقية- الإيرانية جرى تعميم تصوّر يقول إن ما يواجه العراق والعالم العربي ، إنما هو خطر فارسي، وان أطماع إيران هي أطماع قديمة
مستمرة ومتواصلة. وفي المرحلة الثانية جرى تعميم تصوّر زائف موازٍ يقول، إن إيران تمثل ( خطراً شيعيّاً )؟ اليوم، وبعد ثلاثة عقود من نهاية الحرب يجري دمج هذين التصوّرين الزائفين في صورة خطر مزدوج: إنه الخطر الفارسي- الشيعي؟
الآن دعونا ندّقق أولاً- من منظور التاريخ المُتلاعب به- في صحّة هذين التصوّرين الزائفين المخادعين .
1 : إذا كان هناك خطر فارسي قديم يهدّد عروبة العرب، فمن المهم أن نحصل على دلائل من التاريخ،تؤكد وجود أطماع فارسية في الأرض؟ متى قام الفرس بالضبط، بشن حروب ضد العراق والعرب كان هدفها الإستيلاء على الأرض ؟ ليس لدينا أي واقعة واحدة من التاريخ تؤيد مثل هذا التصوّر؟ أجل، هناك حروب في التاريخ البشري تدور حول فكرة التوسع والإستيلاء على الأرض. لكن هذا المعطى التاريخي الصحيح ، لا يتيح لنا الفرصة والحق لنفترض أن كل حرب أو نزاع حدودي هو ( اطماع قومية). كانت هناك حروب قاسية، لكنها لم تكن ذات طابع توّسعي. إن نشوب الحروب بين الدول التي تملك حدوداً مشتركة ، ظاهرة عالمية الطابع. الفرنسيون والألمان مزقوا بعضهم بعضاً في الألزاس واللورين، لكن لم تكن هناك قط أطماع فرنسية أو ألمانية في الأرض. كان الصراع يدور في نطاق المصالح والنفوذ. الأتراك والإيرانيون تقاتلوا طوال 700عام متواصلة، ولم تكن هناك أطماع في الأرض. حتى الحرب العراقية - الإيرانية في خريف 1980 التي بدأت في صورة معارك على الحدود، لم تكن في جوهرها حرباً للسيطرة على الأرض. كانت نزاعاً تقليدياً على المصالح في النفوذ والقوة. إن الحروب بين الدول لا تقوم بالضرورة من أجل أطماع في الأرض. ثمة الكثير من الأسباب والعومل التي تؤدي إلى تفجرّ نزاعات طويلة.
فهل من المنطقي الزعم أن الخطر القومي هو في الآن ذاته (خطر شيعي) قديم تعود جذوره إلى الدولة الصفوية عام 1500م؟ هذا غير منطقي تماماً، لماذا؟ لأن الفارسيّة مكوّن قومي تاريخي من مكوّنات الهويّة الإيرانية، بينما الشيعيّة مكوّن ديني- مذهبي حديث؟ فكيف يمكن دمجهما في صورة واحدة، وهما مكوّنان متصارعان داخل الهويّة الإيرانية نفسها؟
2: وإذا كان هناك من يزعم أنه خطر شيعي ( يهدد العراق والمنطقة) فهذا تزييف لا مثيل له، لإن إيران هي التي اعتنقت مذهب أهل العراق ولم تفرضه عليهم؟ إن الأثني عشرية ليست مذهباً إيرانياً يمكن لها أن تفرضه على هذا البلد أو ذاك؟ ولذا، يصبح الزعم أن الشيعة العراقيين هم ( صفويون) من أتباع إيران كذبة رخيصة روّجها مزّورو التاريخ. كان احتلال العراق في عهد الدولة الصفوية 1501م تطوراً في سياق حروب طويلة مع العثمانيين، وهؤلاء تمكنوا مرات ومرات من احتلال العراق وطرد الإيرانيين. لقد كان الصراع يدور في نطاق المصالح الاستراتيجية الكبرى بين قوتين مركزيتين في المنطقة، سعت كل واحدة منهما لتقديم نفسها على أنها القوة المهيمنة. وفي نطاق هذه الحروب، لعب المذهبان ، مذهب أهل السنة والجماعة والمذهب الشيعي، دور الغطاء الإيديولوجي أو الأداة الإيديولوجية لتبرير الصراع أو التغطية على طبيعته طوال اربعمئة عام 1500-1900م. وبطبيعة الحال، فلم يكن من أهداف الأتراك طوال هذه القرون الأربعة فرض المذهب السنيّ، كما أن خصومهم في إيران لم يسعوا إلى فرض الشيعيّة على كل سكان العراق؟ المثير للدهشة أن الذين يرّوجون لهذا الخطاب اللاتاريخي، يجهلون أن إيران خلال الصراع مع العثمانيين السنّة، اعتنقت الأثني عشرية وهي في الأصل مذهب أهل العراق؟ أي أن إيران عادت مرة أخرى تفتش في دروب التاريخ – وهذه المرة مع انهيار دولة الإسلام- عن مذهب أو رسالة أو إيديولوجيا دينية، وقد وجدتها في العراق؟ بكلام آخر، إن من يزعمون أن إيران هي التي فرضت المذهب الشيعي على العراقيين، أو صبغته بصبغتها الصفوية أو حوّلتهم إلى ( صفويين) إنما يزّورون التاريخ بطريقة فجّة، لأن إيران تخلت في هذا الوقت عن الصفوية واعتنقت مذهب أهل العراق؟ كل ما سعى إليه الشاه عباس الأكبر بعد احتلال العراق، وتمنى تحقيقه دون جدوى، هو أن يتمكن بواسطة الضغط على رجال الدين والتجار الشيعة في الكاظمية والنجف وكربلاء، وتهديدهم بالحرمان من شبكة الروابط
الروحية والتجارية مع المدن الإيرانية من الحصول على موافقتهم اعتبار ( الصفوية ) جزء من تراث الشيعية. وكان هذا أمراً مثيراً للجدل، لأن تراث الأثني عشرية في العراق هو تاريخ قطيعة مع كل الفرق الصغيرة التي خرجت عن نظرية الإمامة. لا أحد يبرئ الشاه عباس من جرائمه، فهي طاولت الشيعة والسنة معاً، لكن وبصدد هذه النقطة المحددّة، يقتضي الإنصاف التاريخي وضعها في سياقها الصحيح دون تهويل ومبالغات.
بهذا المعنى فقط، اتخذ ( الخطر الشيعي المزعوم) طابعاً خاصاً، فقد كان سجالاً داخل نظرية الإمامة الجعفرية، ولم يكن خطراً موجهاَ نحو كل المواطنين من أبناء المذاهب الأخرى. ولو كانت هناك أطماع ( مذهبية- شيعية) حقيقية، لأصبح العراق شيعياً ولتوارى أهل السنة من التاريخ؟ ألم يحوّل صلاح الدين الأيوبي مصر الفاطمية- الشيعية إلى (بلد سنيّ )؟ ألم يحوّل إسماعيل شاه الصفوي إيران السنيّة إلى ( بلد شيعي)؟ فلماذا لم يحدث الأمر نفسه مع العراق حين خضع لاحتلال الصفويين، لو كانت هناك أطماع ( مذهبية)؟ في الواقع، كان الصراع يدور في نطاق مصالح كبرى لا داخل الدين، وكانت الصفوية في هذا الوقت تلفظ أنفاسها بعد أن اعتنق إسماعيل الشاه المذهب الأثني عشري. لكن الأسرة الصفوية، ولإعتبارات تتعلق بوضعها الداخلي والتوتر المتواصل مع الجماعات الفارسية،كانت بحاجة لاعتراف رجال الدين الشيعة في العراق، بأن ( تراث الصفوية ) جزء من تراث الشيعية الجعفرية. فكيف يقال أنه فرض المذهب الصفوي على العراقيين؟ هذا تزييف للتاريخ.
3: ولتوضّيح هذا الجانب، يجب أن نلاحظ أن العرب مثلهم مثل إيران، عاشوا ما يشبه حالة تناقض أو توتر بين المكوّنين القوميّ والدينيّ داخل هويهّتم. في حالة العرب، ومع بروز حركة القومية العربية في مطالع القرن العشرين- وقبل ذلك بقليل- عاشت معظم البلدان العربية في قلب صراع بين النزعة القومية والنزعة الإسلامية. لقد غلبّت الحركة القومية نزعة العروبة على حساب نزعة الإسلام، وبالتالي، فقد شكلت حركة القومية العربية تحديّا حقيقياً للجماعات الإسلامية، نظراً لمنطلقاتها وأهدافها وأحلامها بأمة عربية، بينما كان المكوّن الديني- الإسلاموي في المجتمع العربي ينادي ب( أمة إسلامية ) واسعة تتعدى نطاق الجغرافيا العربية ؟ وفي حالة إيران، فقد عاشت إيران وماتزال، صراعاً حقيقياً بين نفس المكوّنين الرئيسيين في هوّيتها التاريخية : النزعة القومية والدين؟ وهذا حقيقي تماماً. إن الذين يرّوجون للفكرة الزائفة القائلة، إن إيران الحديثة تشكل خطراَ مزدوجاّ ( قومياً ومذهبياً ) على العرب، لا يعرفون أي شئ عن طبيعة التوتر التاريخي بين المكوّن القومي والمكوّن الديني- المذهبي في هويتها، وهو
متواصل ومستمر منذ انهيار الدولة الصفوية. في عام 1500م وبعد انتصار الحركة الصوفية- الإسلامية السجلوقية واستيلائها على المزيد من الأراضي الإيرانية، كان القوميون الفرس يدفعون بإتجاه أن يغلب الطابع القومي على شكل الدولة الحديثة ودورها، بينما سعى خصومهم إلى غلبة المكوّن المذهبي.وهكذا، تفجرّ- مع انتصار الحركة الصفوية- صراع مرير بين المكوّنين التاريخيين في الهويّة الإيرانية.
مرّ هذا الصراع بأربع مراحل كبرى:
المرحلة الأولى : صراع الحركة الصوفية - الإسلامية ( المسمّاة الصفوية ) مع القوميين الفرس.اتسم الصراع طول قرنين متواصلين من 1500 حتى عام 1700م، بكونه صراعاً مرّكباً ومتشابكاً اختلطت فيه الروح القومية بالتطلع إلى إيديولوجيا دينية تكون عقيدة الحكم. وفي نطاق هذا الصراع، شعر الفرس وهم الأغلبية السكانية في إيران، أن الأسرة الصفوية بجذورها السجلوقية ( التركية) تعمل على إقصاء المكوّن القومي الفارسي، والإعلاء من قيمة وشأن المكوّن الإسلامي المذهبي، ورأوا في محاولات الشاه إسماعيل ثم الشاه عباس(عباس الأول 1571 - 1629 ويعرف باسم عباس الأكبر) لا مجرد محاولة لامتلاك إيديولوجيا دينية تساند تطلعاته لدحر العثمانيين الأتراك؛ بل سياسة ممُنهجة لإقصاء البعد الفارسي كلياً. وهذا ما أثار حفيظة القوميين الفرس. في الواقع لم يكن من مصلحة الحركة الصفوية بما أن جذورها سلجوقية- تركية، أي حركة (غرباء) و( أجانب) أن تعليّ من شأن القومية الفارسية، وعلى العكس من ذلك،وجدت- بعد انتصارها واستيلائها على إيران- أن من مصلحتها أن يغلب المكوّن الديني- المذهبي، فهذا وحده ما يؤمن لها نوعاً من الإندماج الاجتماعي بالسكان الأصليين. وهكذا، وحين جرى التخلي عن الخطاب الصوفي- الإسلامي القديم، تلاشت الحركة وجرى رسمياً اعتناق المذهب الأثني عشري، وليصبح هو المكوّن الغالب على الدولة. في هذه الحقبة هُزم القوميون الفرس وتلاشت أحلامهم. لقد لعب اعتناق الصفويين للمذهب الشيعي – الأثني عشري، دوراً مركزياً في تحفيز شعور الأمة الإيرانية لمواصلة الصراع ضد العثمانيين في تركيا، وكان من شان ذلك، أن الصراع اتخذ طابع صراع مذهبي سني- شيعي استمر نحو 4 قرون متواصلة فوق أرض العراق ( حتى 1900م). ومع ذلك، فقد كان البُعد الحقيقي للصراع واضحاً وصريحاً ، فهو صراع أمتين قويتين، إيرانية وتركية حول المصالح الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، ولم يكن الطابع المذهبي سوى أداة في هذا الصراع.
المرحلة الثانية : القاجاريون وتوازن القومية والمذهب . إذا كان العصر الصفوي عصر تغليب المذهب الشيعي على القومية الفارسية؛ فإن عصر الأسرة القاجارية التي استولت على السلطة، كان على العكس من ذلك، عصر التوازن بين المكوّنين. كان القاجاريون من القبائل التركمانية القوية التي تمكنت من الاستيلاء على أجزاء واسعة من إيران.في عام 1719 م زحف هؤلاء بدعم من الأفغان السنّة بقيادة الغلزاي (گلزاي) على مملكة الصفويين. وفي عام 1722 م استولوا على أصفهان وقاموا بخلع الشاه حسين ثم أعدموه سنة 1726 م. في هذه الحقبة عاشت إيران حكماً مزدوجاً يتقاسمه الزند والأفشريين، أي السنّة من اصول أفغانية مع الصفويين السلاجقة القاجاريين الأتراك، حتى أن الغلزاي أنشأ 1736م حكومة ظل صفوية شكلية على راسها شاه من الأسرة الصفوية مجرّداً من السلطة.
وفي هذا الوقت انتقلت السلطة كلياً إلى القاجاريين. كان القاجاريون يلاحظون أن مشكلة الهويّة الإيرانية، تتمثل في التوتر القائم بين المكوّنين القومي والمذهبي، ولذا عملوا على إحداث نوع من التوازن يمكنّ الدولة من الإمساك بجناحي المجتمع الإيراني: القوميون والمتدّينين، ولذا تجنبوا فرض أي طابع قومي او مذهب على شكل الدولة ودورها.
وكما يلاحظ، فقد عاشت إيران طوال هذه القرون في قلب صراع بين المكوّنين الفارسي والمذهبي، ولم تكن هناك أي ظلال لأطماع فارسية في الصراع ضد تركيا العثمانية أو أيّ مطامع ( مذهبية)؟
المرحلة الثالثة : سقوط القاجاريين وصعود الأسرة البهلوية . لكن القاجاريين، وبالرغم من صلاتهم الطيبة مع الإنجليز( شركة الهند البريطانية ) لم يصمدوا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، واهتز عرشهم عام سنة 1925 حين قام رئيس الوزراء رضا خان بهلوي بخلع الشاه القاجاري أحمد ميرزا واتخذ لنفسه لقب الشاه. كان رضا خان قومياً فارسياً يكنّ كراهية شديدة لرجال الدين، ولذا سعى إلى تغليب المكوّن القومي على المكوّن المذهبي. وكان من الواضح أن العداء لرجال الدين الشيعة في عهد الشاه الأب ، ثم الإبن، هو تجسيد بليغ لهذا التوتر التاريخي بين المكوّنين.وحتى عام 1979 ومع سقوط شاه إيران محمد رضا بهلوي، لم تشكل إيران أي ( خطر شيعي ) على العالم العربي ( السنيّ ). كانت الفارسية والشيعيّة تتصارعان في قلب إيران وتصبحان مع الوقت موضوعاً داخلياً، لكنهما لم يصبحا قط، ولا في أي وقت ( سياسة رسمية ) إزاء العالم العربي.
أثناء الصراعات والأزمات الكبرى، سوف يبدو أمراً مستحيلاً فهم سلوك أي بلد أو قوة إقليمية- دولية ، واستخلاص النتائج الصحيحة من سياساتها إزاء هذه المسألة أو تلك، إلا إذا كان هناك فهم عميق يرتكز إلى معرفة علمية حقيقية
بطبيعة تكوّينها التاريخي (وهويتّها) وبنوع وطبيعة المصالح التي تثير اهتمامها، وما هي العوامل الدافعة في هذا السلوك. إن فهم ( الآخر) فهماً صحيحاً هو الذي يساعد على اتخاذ الموقف الصحيح. والحال هذه؛ فإن فهم إيران أصبح اليوم حاجة ملّحة قبل أن تضيع الفرصة وينزلق العرب في وهم الصراع ضد خطر لا وجود له بديلاً عن مواجهة الخطر الحقيقي؟
لقد خلق الأعداء الحقيقيون لنا، ولأجلنا (عدوا وهمياً ) ينتابنا الهوس ونحن نحاربه، بينما هم ينعمون بالهدوء ويقهقهون لرؤيتنا وقد أصبحنا نحارب طواحين الهواء، مثل دون كيشوت في رواية سرفانتس الرائعة. وهم يأملون، بالطبع، أن يتواصل ( وهمْ العدو) هذا، والصراع المرير والدامي ضده مئة عام أخرى؟