«العدالة والتنمية»: هل حانت «لحظة الانفجار الكبير»؟

«العدالة والتنمية»: هل حانت «لحظة الانفجار الكبير»؟

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٨ مارس ٢٠١٥

تمخّض الجبل فولد فأراً. ربّما هذه حصيلة انتظار ما كان سيقوله زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان. الجبل هنا هو المفاوضات بين أوجلان والدولة التركية، أمّا الفأر فهو ما انتهت إليه ردّة فعل حزب «العدالة والتنمية»، بمن فيه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان على خطاب أوجلان.
اختلطت الأمور في تركيا ولم يعد معروفاً ما هو العنوان المركزي الذي تتمحور حوله الحياة السياسية، عشية الانتخابات النيابية في السابع من حزيران المقبل.
كانت الأنظار كلها مركّزة على خطاب أوجلان في «النوروز». ومَن كان يراهن على تطوّرات دراماتيكيّة، إنّما كان يخدع نفسه. فالصورة واضحة أمام المراقب المحايد.
لم يُرض خطاب أوجلان قادة حزب «العدالة والتنمية». فهو أعلن دعوة «حزب العمال الكردستاني» إلى مؤتمر استثنائي، لكنّه لم يتضمّن ـ أولاً ـ تاريخ الانعقاد الذي، ربّما يحصل وربما لا، وإن حصل، فلن يكون في موعد قريب من هذا الربيع، بل ربّما في وقت لا يتناسب وترقّبات «العدالة والتنمية».
وثانياً، إنّ النقطة الأكثر ترقّباً كانت بشأن الدّعوة لنزع السلاح أو إلقائه. هنا، كان أوجلان ذكياً في اختيار المفردات. لم يطالب بإلقاء السلاح، بل بإنهاء الصراع المسلّح ضدّ الجمهورية التركية. وإنهاء الصراع المسلح، لا يعني تلقائياً، بل ربّما لا يعني التخلّي عن حمل السلاح. أبقى أوجلان الباب مشرعاً أمام استمرار النضال المسلّح للحزب في تركيا وربّما خارج حدودها.
النقطة الثالثة هي أنّ أوجلان يدرك تماماً، برغم ظروف السجن والضغوط التي يتعرّض لها، أنّه لا يمكن التسليم والثقة بسلطة حزب «العدالة والتنمية» التي أظهرت أقصى الرياء والخداع خلال عمليّة المفاوضات مع «حزب العمال الكردستاني».
قبل أسبوع ونيّف من كلمة «النوروز»، كان اجتماعٌ يُعقد في قصر دولما باهتشه في اسطنبول بين نائب رئيس الحكومة يالتشين آق دوغان ونواب عن «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي يتولّى دور التواصل بين أوجلان وقيادة «حزب العمال الكردستاني» في جبل قنديل. وقد تلا الطرفان بياناً مشتركاً حول أهميّة إيجاد حلّ للمشكلة الكردية. وكان «حزب الشعوب» قد أعلن عن نقاط عشر من جانب أوجلان تعتبر أساساً للحلّ برأيه.
ربط أوجلان إنهاء الصراع المسلّح، بشكل واضح، بضرورة تلبية النقاط العشر. هذا مقابل ذاك.
غير أنّ ما كان أوجلان يتطلّع إليه، لم يكن فقط صرخة في وادي حزب «العدالة والتنمية»، بل الدولة كذلك.
وما رافق كلمة أوجلان وسبقها وتلاها، كان يعكس حسابات مختلفة تماماً لدى حزب «العدالة والتنمية» والمؤسسة العسكرية.
أبدى قادة الحزب بعض المرونة تجاه ما طرحه أوجلان من تشكيل لجنة متابعة وتقصٍّ ومراقبة من أكاديميين ومفكرين وسياسيين تنسّق أكثر المفاوضات بين الطرفين. وبرغم أنّ هذه نقطة بدأت في عهد أردوغان عندما كان رئيساً للحكومة وشكّل حينها من طرف واحد ما سُمِّي بـ «لجنة الحكماء»، غير أنّ حسابات أردوغان الآن كرئيس للجمهورية وحسابات الحكومة نفسها باتت تقع في مكان آخر.
اليوم، وبعد مرور أسبوع على كلمة أوجلان، لا أحد يناقش ما قاله. وضعت «عمليّة الحل»، على ما يبدو، في الثلاجة، بل ربّما انتقلت من كونها «عملية حلّ» إلى «حلّ للعملية»، أي طيّ صفحتها ودفنها.
لا يمكن أن ينتقل النقاش بهذه البساطة بشأن قضيّة حساسة جداً مثل المشكلة الكردية، إلى قضايا أقلّ ما يُقال فيها إنّها حسابات انتخابيّة ضيّقة وألاعيب صغيرة في خضمّ المشكلة الأكبر. وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على أنّ الدولة التركية، ممثلة الآن بحزب «العدالة والتنمية» في الحكومة والرئاسة، ليست في وارد أن تعطي شيئاً للأكراد.
وكان أردوغان استبق كلمة أوجلان بالقول إنه لا قضية كردية في تركيا. كلام دقيق وصريح ولا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، ولا إلى مفاوضات. والنتيجة التلقائية لهذا الكلام، هي وضع العصي في دواليب هذه المفاوضات. قال أردوغان إنّه يعارض تشكيل لجنة المتابعة، ويعارض بيان دولما باهتشه، ويعارض التعليم باللغة الكردية وما إلى ذلك.
المفاجأة أنّ الردّ على أردوغان جاء من جانب نائب رئيس الحكومة بولنت أرينتش الذي قال إنّ هناك حكومة تقرّر والقرار النهائي يعود إليها. وقال أيضاً إنه لا يوافق أردوغان على رأيه ويرى أنّ ما تفعله الحكومة صائب.
مواقف أرينتش خلقت سجالاً بينه وبين أردوغان، لكن الأمور تطوّرت ودخل رئيس بلدية أنقرة مليح غوكتشيك على خطّ السجال متهماً أرينتش وابنه بأنّهما من مؤيدي «الكيان الموازي»، أي من جماعة الداعية فتح الله غولين. وتطوّر السجال مع اتهام أرينتش لمليح غوكتشيك بأنّه يبيع أنقرة قطعة قطعة، وأنّ عنده مئة قضية في هذا الإطار سيكشفها بعد انتهاء الانتخابات النيابية.
وانتقل النقاش الداخلي من القضية الكردية إلى الصراع الداخلي في حزب «العدالة والتنمية». وقد يكون ذلك مقصوداً لطيّ صفحة المفاوضات مع الأكراد وعدم تقديم تنازلات، لكن قد تكون «عملية الحل» الشرارة التي أظهرت ما يعتمل أيضاً في القلوب الممتلئة صراعاً وتصفيات داخل «العدالة والتنمية».
معروف عن بولنت أرينتش اعتراضاته على العديد من سياسات الحزب. بدأت مع معارضته مذكرة الحكومة في الأول من آذار العام 2003، والتي كانت ستتيح لتركيا المشاركة في العدوان على العراق حينها. نجح أرينتش في إسقاط المذكرة التي كان يقف خلفها، في ذلك الوقت، عبد الله غول الذي كان رئيساً للحكومة، ورجب طيب أردوغان الذي كان رئيساً للحزب. وتوالت مواقف ارينتش الاعتراضيّة في أكثر من مناسبة، وهو الذي يملك موقعاً مؤثراً في الحزب، ويعتبر واحداً من الثلاثة الأقوياء المؤسسين للحزب. لكن أرينتش لم يكن يذهب بعيداً في المعارضة، وكان يفضّل التراجع وعدم الاصطدام مع أردوغان تحديداً، حفاظاً على وحدة الحزب.
اليوم يجد أرينتش نفسه خارجاً من الحياة السياسية بعدما خرج منها عبدالله غول، إذ ان النظام الداخلي لحزب «العدالة والتنمية» يحول دون الترشّح من جديد للنيابة بعد انقضاء ثلاث ولايات. لذلك، فإنّه اختار أن يبدأ بتصفية الحسابات ـ الجدّية هذه المرة ـ مع أردوغان قبل أن يخرج، وعلى قاعدة «ومن بعدي الطوفان».
ويعتبر اتهام أرينتش لغوكتشيك بالفساد اتهاماً غير مباشر لأردوغان، وهو يعيد نبش قضية الفساد التي اتهم فيها وزراء ونجل أردوغان في كانون الأول من العام 2013. وهذا يؤثّر بالطبع على قوة حزب «العدالة والتنمية» في مرحلة الانتخابات، وهو ما عكسته استطلاعات الرأي التي وجدت إرباكاً لدى ناخبي الحزب وميلاً إلى اقتراع بعضهم لـ «حزب الحركة القومية».
لعل تراجع الحزب، وإن امتلك الأكثرية، سيؤثّر سلباً على «بيت القصيد» لدى أردوغان، أي سعيه لينتصر حزب «العدالة والتنمية» بأكثريّة ثلثي المقاعد، لكي يتم تعديل الدستور والانتقال من النظام البرلماني الحالي إلى نظام رئاسي يحصر الصلاحية بيد رئيس الجمهورية ويلغي موقع الثقل الحالي لرئيس الحكومة في الدستور كرأس للسلطة التنفيذية. من هنا كانت مسارعة رئيس بلدية أنقرة التوجه إلى أرينتش بالاتهام المفضّل لدى أردوغان وهو أنّه «عميل» لفتح الله غولين، ويريد أن يترشّح أشخاص موالون لغولين عن حزب «العدالة والتنمية» للانتخابات المقبلة.
إذا كان توزيع الأدوار بين قادة حزب العدالة والتنمية حقيقياً من أجل عدم إعطاء الأكراد مطالبهم، فإنّ انفجار الصراع الحالي بين مسؤوليهم هو أيضاً حقيقي ولا يدخل ضمن توزيع الأدوار. ومع أنّ هناك حالات اعتراضيّة متعدّدة ظهرت خلال مسيرة الحزب وخرج هؤلاء من صفوفه ومنهم مثلا عبد اللطيف شينير ومير دمير محمد فرات وأخيراً استبعاد عبد الله غول عن العودة إلى الحزب، غير أنّ الصراع الحالي هو، وباعتراف الإعلام الموالي لحزب «العدالة والتنمية»، غير مسبوق، كما يعتبر الأكبر والأخطر منذ تأسيس الحزب في العام 2001.
إنّ مجرّد وجود أردوغان في موقع جديد مع صلاحيات أقل من موقع رئيس الحكومة، سوف يثير إشكاليات متعددة وهو ما قد حصل بالفعل. والإشكاليات تلك، لا تعيد العلاقات السابقة بين قادة الحزب إلى نصابها الصحيح. فسعي أردوغان لنظام رئاسي يكون هو فيه، دستورياً، الرجل القوي في البلاد، لن يمرّ من دون اعتراضات، خصوصاً من قبل من كان لهم دورهم ومن لهم طموحاتهم ومن لهم موقعهم. ومثل هذا النظام الجديد يطيح بالجميع ويحولّهم إلى مجرّد موظفين لدى رئيس الجمهورية، وهو ما يتعارض مع «الفطرة السياسية» للمسؤولين.
وقد حصل ذلك في السابق بين طورغوت اوزال ومسعود يلماز في «حزب الوطن الأم» وبين سليمان ديميريل وطانسو تشيللر في «حزب الطريق المستقيم» وبين رئيس الجمهورية السابق احمد نجدت سيزير ورئيس الحكومة بولنت أجاويد في العام 2001 حين رمى أجاويد بكتاب الدستور بوجه سيزير. وكانت النتيجة تفكّك أحزاب «الوطن الأم» و «الطريق المستقيم» و «اليسار الديموقراطي».
حزب «العدالة والتنمية» ليس استثناءً. والعد العكسي الانحداري في مسيرته قد بدأ عملياً مع انتفاضة غيزي – «تقسيم» في أيار/حزيران 2013، ليبلغ ذروة في انكسار المهابة والسمعة مع فضيحة الفساد في العام ذاته. وكلام أرينتش اليوم عن مئة قضية رشوة وفساد لدى بلدية أنقرة الموالية لحزب «العدالة والتنمية»، وبدء التحقيق القضائي في هذه المسألة، إنما يعكسان كماً هائلاً من الفساد المالي والأخلاقي السياسي، الذي لا يمكن تغطيته إلى الأبد.
لا يمكن القول إن القضية الكردية هي الضحية الأولى لانتقال السجال الداخلي منها إلى السجال حول الصراع داخل حزب «العدالة والتنمية». فبهذا السجال، أو من دونه، فالقضية الكردية ستكون الضحية في ظل عدم وجود نية صادقة لتغيير ذهنية مقاربة المشكلة لدى سلطة الحزب. لكن انفجار الخلاف داخل «العدالة والتنمية» يستحق المتابعة، وستكون له تأثيراته على الاستقرار السياسي ومستقبل الحزب نفسه، إلى جانب المشكلة الكردية والعلاقة بين السلطتين المدنية والعسكرية.