العقول الغربية الباردة: لنعمل بصبر.. وننتظر رحيل بوتين!

العقول الغربية الباردة: لنعمل بصبر.. وننتظر رحيل بوتين!

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٧ مارس ٢٠١٥

سيكون من الأفضل تثبيت صورة شخصية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لا فرق إن كان مبتسماً أو عابساً، لتكون خلفية ترفيهية لهذه الكلمات التي ترددها علناً مراكز أبحاث غربية: «جميعنا نتفق على أنه من المستحيل ممارسة تأثير على فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، لكن علينا التفكير بطرق أخرى في الوصول والتأثير. نعم نحتاج إلى ديبلوماسية مع بوتين والرجال الذين حوله، لكن دائماً مع الإبقاء في ذهننا الرؤية على المدى الطويل أن روسيا لن تبقى دائما تحت حكم هذا النظام».
كان ذلك جزءاً من خلاصات مطولة، حملتها بضعة مراكز أبحاث تناوئ علنا السياسة الروسية، وتسهر على توسيع النفوذ الأوروبي، لتضعها أمام المشرعين في البرلمان الأوروبي. هنا لا داعي للف والدوران، تماما كما فعلت صاحبة تلك الكلمات البروفسور ماري ميندراس، الباحثة في مدرسة باريس المرموقة للعلاقات الدولية والعلوم السياسية.
ما تدعو إليه ميندراس بوضوح هو نداء يأس تجاه إمكانية العمل مع موسكو، ومواصلة المطامح الأوروبية في مدّ النفوذ إلى الشرق المتاخم لروسيا. هكذا تقول للأوروبيين إنه لا أمل في موازنة كهذه، إلا في روسيا ما بعد بوتين.
سألتها «السفير» في مقابلة إن كان هذا الاستنتاج دقيقا، فأجابت، من دون تردد، «نعم، سيكون هناك في النهاية روسيا ما بعد بوتين بالطبع».
حتى الآن أمضى بوتين 15 عاماً على رأس السلطة في روسيا، منذ خلف بوريس يلتسين الذي كان عينه رئيسا للوزراء. في العام 2008 اختار ممارسة القيادة من موقع رئيس الوزراء، مع وضع ديمتري ميدفيديف في الرئاسة، قبل أن يعود إلى تبادل المنصبين بعد ترشحه لانتخابات العام 2012.
شراكة مختلفة مع روسيا
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما المخطط لملء هذا الانتظار، إذا كانت مراكز أبحاث لا ترى أملا للنفوذ الأوروبي إلا بروسيا ما بعد بوتين؟ نطرح السؤال على الباحث الألماني يورغ فوربريغ، من مركز الأبحاث المعروف «جيرمان مارشال فاوند» الذي يعمل على توثيق علاقات واشنطن مع أوروبا. يرد مرجحاً أن الصدام بين الغرب وروسيا سيتواصل بأشكال مختلفة: «لا مجال لنهاية الصراع هنا، لكن ما أراه على المدى الطويل هو أن يتوسع الاتحاد الأوروبي ليضم دولا مثل أوكرانيا، مع شراكة مختلفة مع روسيا». ويضيف «ما دام السيد بوتين هناك لن يكون هناك شراكة، لكنه ليس شخصاً أبدياً، وحين يذهب، ربما ستكون هناك فرصة لإقامة شراكة بناءة مع روسيا».
طبعاً قصة الصراع باتت معروفة. بدأت مع محاولة الأوروبيين توسيع نفوذهم إلى دول الجوار الروسي، وتحديداً إلى أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا والقائمة مفتوحة على دول أخرى. الدول الثلاث وقعت اتفاقيات شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي العام الماضي، فأثارت غضب موسكو التي ترى ذلك تعدياً على نفوذها التقليدي. يقول الكرملين محاججاً إن هذه الدول ستكون مستقبلاً، وفق سيناريو الأوروبيين، في فلك حلف شمال الأطلسي أيضاً.
يرفض الأوروبيون هذه القراءة، والأهم أنهم يصرون على عدم التفاوض مع روسيا حول اتفاقياتهم مع الدول الشرقية. هنا يرفعون شعار أنها دول ذات سيادة، وشعبها يقرر أين تتجه وليس الكرملين. لكن المسألة، عملياً، صارت خيار مفترق طرق، لأن اتفاقية الشراكة مع الأوروبيين تقول، بوضوح شديد، إنه لا يمكن للدول الشرقية الانتماء في الوقت ذاته إلى المشروع الروسي المنافس (الاتحاد الأوراسي). إما تجارة حرة مع التكتل الأوروبي، أو تجارة حرة مع التكتل الأوراسي.
هكذا اندلعت الحرب الأوكرانية منذ عام تقريباً، ولا يبدو أنها توشك على الانطفاء. تصاعد التوتر، وتحدث حلف شمال الأطلسي عن «تغير البيئة الأمنية» في أوروبا. صعّد الجانبان تحركاتهما العسكرية، من مناورات لا تتوقف وتعزيز وجود قطعهما العسكرية على التخوم. الخوف من الحسابات الخاطئة، جعل البعض يدعو إلى ترك الدول المجاورة لروسيا في نطاق محايد، وأن تكون بمثابة الجسر بين روسيا والغرب.
هذه الدعوات يرفضها، جملة وتفصيلاً، من يروجون لأفق «روسيا ما بعد بوتين». يقول فوربريغ، مفنداً أسباب رفضه، «إذا عدنا للتاريخ فهذا أمر غير ممكن، لقد جربنا هذا الحل. دول الجسر تم سحقها، وأخاف أن يحصل اليوم الشيء ذاته. روسيا لا تسمح لهذا الجسر بالوجود، لأنها تريد أكثر من جسر».
فكرة الجسر، أو بالأحرى الفضاء العازل، طبقت بعد الحرب العالمية الثانية. ضمن السوفيات وجود أنظمة صديقة حولهم، في عموم أوروبا الشرقية، إلى البلقان، ثم فيتنام الشمالية وكوريا الشمالية، وصولا إلى لاوس وكمبوديا وأفغانستان. لكن دول «الأطلسي» لم تعتبر هذا «النفوذ» دفاعياً، وبدأت حروباً تحت شعار كبح «المد الشيوعي». كانت الحرب أداة أساسية، إضافة إلى تفعيل تمويل «نشر الديموقراطية»، كما في حال الدعم لدول مثل تركيا وفيتنام الجنوبية وكوريا الجنوبية وإيران وألمانيا الغربية واليونان.
موسكو ترفض «الجسر»
على كل حال، لا تريد روسيا صراحة الآن أن تكون هذه الدول الشرقية «جسراً»، فهي تعتبر أن غايته في النهاية هو عبور النفوذ الغربي إليها. كانت تلك الخلاصة التي أوصلها من يعرف بوتين جيداً، منذ بداية الصراع. وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قال إن بوتين يرى بيقين ما يحدث في أوكرانيا باعتباره «بروفة» لما يريد الغرب فعله في روسيا. بكلمات أخرى، يرى القيصر الروسي أن كل قصة الديموقراطية هي «حصان طروادة»، كي يحاول الغرب إيصال حكومات مؤيدة له، حتى لو بإرادة رأي عام يساند ذلك ويرى مصالحه في خيار كهذا.
نفس القراءة تقريباً قدمها باحثون غربيون، لكن بترجمة تنطلق من الخصومة مع موسكو. قالوا إن «بوتين في حاجة ماسة ليبقى في السلطة، ولا يمكنه تحمّل تكاليف مغادرتها نظراً إلى طبيعة النظام الروسي»، وربطا بذلك «لكي يبقى في السلطة يحتاج إلى إيقاف التحول للديموقراطية داخل بلده، وفي البلدان التي حولها».
هذه قناعات ثابتة، تتبناها البروفسور الفرنسية ميندراس، وتضيف إليها قناعة أخرى هي مبدأ «رفض الجسور» مع روسيا «بوتينية». سألناها عن سبب هذا التصلب، فقالت إنه «من المستحيل إبقاء منطقة رمادية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، أو بينها وبين الناتو، فقد أثبت التاريخ أنها منطقة خطيرة وغير مستدامة»، قبل أن تردد بإصرار ان «ما تحتاجه هذه الدول هو الانتماء إلى فضاء أمني، فلا يمكن تركهم من دون أفق أمني، لأنه إذا بقوا معلقين فإنهم سيسقطون في النهاية في الفلك الروسي».
ونتيجة هذا التصادم كانت خسائر ماثلة للدول «الجسور»: أوكرانيا ممزقة بحرب، جورجيا عاشت ذلك في العام 2008 وتصادمت مع روسيا لتفقد إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ومولدافيا تعدّ الأيام تحسبا لوضع مشابه في إقليمها الانفصالي «ترانسنستريا».
ويردد الأوروبيون أن كل ما يفعلونه هو ترويج أنفسهم، والشراكة معهم، كنموذج مغر لهذه الدول. يقولون إن للجميع الحق في توسيع نفوذهم، بالأدوات السلمية المشروعة، وان ما يقدمونه هو بالنتيجة في مصلحة هذه الدول. لكن هذه المصلحة تجعل شعوب هذه الدول تدفع ثمناً ليس بقليل.
الأوروبيون يدفعون الدول الشرقية لتتخذ خياراً الآن، لكن روسيا تقول لها ان الاختيار ليس من حقها ما دام الأمر يتعلق بأمنها القومي. الجار الشرقي يقول: حسناً إن لم تفهم فسأحطم أنفك لو اخترت الارتباط بهم، والجار الغربي يوشوش في الأذن الأخرى: حتى لو أصبت بعطب الآن، فإنك ستشفى وأيام الرفاه ستعوضك عن آلام الآن.
هكذا صار كل طرف ينافس لكسب دول «الجسر» مستخدماً نقاط قوته. وفق ذلك، يمكن القول إن الأوروبيين مضوا إلى هذا الصراع عن سابق إصرار وتصميم. برلين خرجت بأنه يجب البدء بسياسة «احتواء» جديدة لروسيا، كالتي طبقت بعد الحرب العالمية الثانية. مستشارتها أنجيلا ميركل شددت على أن ممارسة روسيا «الفيتو» على توجهات جوارها أصبحت من الماضي.
بوتين يكسب بالنقاط
كل هذا نتج منه ما يسمى «الصراع المجمّد»، إذ لا أحد يتزحزح كثيرا ولا ضربات قاضية. الصورة الإجمالية تقول إن روسيا ليست في موقع قوة بما أنها مضطرة للقتال في حديقتها الخلفية. لكن بنظرة مقربة، للمرحلة الحالية من الصراع، يبدو أن بوتين يكسب بالنقاط، ليس فقط لأن الدول الأوروبية منقسمة الآن، بين من يؤيد عقوبات أشد وبين من يتريث قلقاً من الآثار الاقتصادية. شعبية بوتين بلغت مستوى قياسياً، تجعل، من الأرعن، التفكير بخسارته أي انتخابات مقبلة. بات بعض الروس يتعجب من حدة المشاعر القومية التي تسود بلادهم، وأحد الصحافيين الروس العاملين في بروكسل قال، حين سألناه عن ذلك، إن «الرأي العام مع بوتين تماماً. لا مشكلة لدى أبي وأمي الآن في أن نخوض الحرب».
تأكيدا لهذا المنحى، يقول خبراء أوكرانيون إن العمل على «روسيا ما بعد بوتين» ليس له معنى. هذا ما قاله فيكتور سولكوف، رئيس معهد أبحاث «غورشينيان» في كييف، خلال حديث مع «السفير». لم يخف إحباطه وهو يلفت إلى أن «المشكلة الآن ليست مع بوتين فقط، إنها مشكلة مع المجتمع»، مضيفاً «المجتمع الروسي دعم ستالين بنسبة 52 في المئة، أما الدعم لبوتين الآن فهو حوالى 85 في المئة. ليس بوتين فقط، بل العديد ممن حوله، يريدون المضي في الحرب والصراع».
حتى بحسابات الداخل الأوكراني، لا يمكن القول إن روسيا تخسر. إنها تكسب من إخفاقات الآخــرين، وهو ما يظهر من استطلاعــين للــرأي يظهران عدم رضى الأوكرانيين عن حكومتهم.
في ظل هذه النتائج، وخصوصا مع الشعبية المتزايدة لبوتين، يفكر الأوروبيون جدياً بإطلاق شبكة تلفزيونية تتوجه لجمهور الداخل الروسي وتحاول التأثير عليه بلغته. الفنلندي أركادي موشيز، هو أحد الباحثين المختصين بالشأن الروسي، نصح النواب الأوروبيين بالعدول عن هذا الخيار. وقال موضحاً أسبابه إن «المجتمع الروسي الآن مغلق جدا ويعيش أدلجة مكثفة، لذا لا أعتقد أنه يمكن الوصول إلى الكثير من الروس»، مستدركا أن الأولوية هي التوجه إلى «المجتمعات الناطقة بالروسية في الدول الشرقية والاتحاد الأوروبي (تحديدا دول البلطيق، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، التي كانت سابقا في الفضاء السوفياتي)، لأن هناك نسبة عالية من استهلاك الإعلام الروسي، وهذا يؤثر في المجتمعات داخل دولنا».
وفي بلاد موشيز، مدير برنامج «أبحاث روسيا والجوار الشرقي» في المركز الفنلندي للعلاقات الدولية، أيضاً حوالي 70 ألف ناطق بالروسية. مع ذلك، يشدد على أن أداة التأثير الأهم هي في مكان آخر: «علينا ألا ننسى الحجة الجوهرية لدى روسيا وبوتين، بأنهم قوة نووية، وعبر هذا المنطق يمكنهم أن يأخذونا رهائن لوقت طويل جداً».
هذا الكلام ليس مجرد تكهنات، فبعد تصاعد التوتر استعادت روسيا بعض عادات ماضيها كقطب عالمي. صارت المدمرات الروسية تخترق تكرارا الأجواء الغربية، مذكرة بقدرة القاذفات الاستراتيجية على حمل السلاح النووي حتى خليج المكسيك.
وفق كل تلك المعطيات، هل من الحكمة البناء على، والعمل لـ «روسيا ما بعد بوتين»؟ نسأل الباحث الألماني فوربيغ، فيقول مبتسما «نعم، لقد كبرت في ألمانيا الشرقية، وكان علينا الانتظار لفترة معتبرة حتى انتهى كل ذلك، لذلك لست فاقداً للصبر».
النفس الطويل، العمل ببرود، لم يكن من دون فائدة للأوروبيين. بعدما تحطمت دول «المنطقة العازلة» تباعاً، كانوا هم الرابحين، ومعهم الحليفة واشنطن. معظم دول أوروبا الشرقية انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك دول البلقان التي انضم بعضها والآخر ينتظر على القائمة.
من المفيد التذكير بأن عمل فوربيغ في معهد «جيرمان مارشال» هو إدارة صندوق تمويل «الديموقراطية البيلاروسية»، ويستهدف الدولة التي يعدها الأوروبيون «آخر الديكتاتوريات» في القارة، كما أنها حليف قوي لروسيا وجزء من مشروعها «الاتحاد الأوراسي». وفقا لتلك الخلفية، يمكن فهم خيار الصبر الذي يعول عليه: «صحيح أنه من الصعب جدا لأصوات روسية بديلة الآن أن تعبر عن نفسها، لكني أعتقد أنها موجودة، وستكون مسموعة مجدداً مهما كانت ضغوط البروباغندا الروسية والمضايقات السياسية».