«خط النار» من عين العرب.. إلى أثينا!

«خط النار» من عين العرب.. إلى أثينا!

أخبار عربية ودولية

السبت، ٣١ يناير ٢٠١٥

شكّل تحرير مدينة عين العرب السورية (كوباني) محطة حاسمة في الصراع بين مختلف القوى المتواجدة على الساحة السورية والقوى المؤثرة فيها.

ولم يكن تحرير عين العرب مجرد معركة عسكرية بين مقاتلي «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي السوري، الذي يرأسه صالح مسلم، وبين مسلحي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ــ «داعش»، فقد حملت معركة كوباني، ومن ثم تحريرها، من الدلالات التي لا بد أن تفرض نفسها، وتنعكس في أكثر من ساحة، وتغيّر من التوازنات على أكثر من مستوى.

١ ــ إن تحرير عين العرب أولاً هو انتصار للعدالة والكرامة الإنسانية على ذهنية التوحش التي يحملها «داعش»، وحيثما ينكسر هذا التنظيم تكون خطوة لإعادة الاعتبار للإنسان ككائن حر. إنها خطوة إلى الأمام في مواجهة قاطعي الرؤوس ومستعبدي المرأة ومدمّري القيم الأخلاقية، واستباحة الدم البشري من دون حدود.

٢ ــ تحرير عين العرب هو انتصار كبير لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، الذي صمّم منذ البداية، ورغم الحصار الخانق وعدم التكافؤ في موازين القوة، على الصمود وعدم الاستسلام، وتفضيل الاستشهاد على الاستسلام، ليعطي بذلك مثالا للأجيال اللاحقة، ليس فقط الكردية بل السورية والشرق أوسطية.

٣ ــ وبما أن «الاتحاد الديموقراطي» هو النسخة السورية من «حزب العمال الكردستاني»، فإن شرارة الانتصار تلفح أيضا «الكردستاني» في تركيا، الذي يمكن أن يعتبر نفسه منتصراً من دون أي تردد.

ولا شك أن هذا الأمر جاء في وقت حساس جداً ومهم للغاية. إذ أن المفاوضات بين الحزب وبين الدولة التركية قائمة منذ أكثر من سنتين، من أجل إيجاد حل للمشكلة الكردية في سوريا. ويجيء تحرير «كوباني» ليعطي زخماً قوياً لأكراد تركيا للدفاع عن مطالبهم، وعدم تقديم تنازلات كبيرة، بل العمل على انتهاج الخيار العسكري لمواصلة النضال لتحصيل مطالبهم، في حال فشل المفاوضات مع الدولة التركية. ومثل هذا التأثير سيحرج الحكومة التركية، ويضعها أمام ضغوطات أكبر لتقديم تنازلات منعاً لظهور البديل، وهو الصدام وتخريب الاستقرار الداخلي.

٤ ــ ان انكسار «داعش» في عين العرب هو انتصار لكل القوى التي تحاربه. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار النظام في سوريا ضمناً أحد الرابحين من هذه المعركة، كونه يشكل الهدف الأكبر لـ «داعش». وبمقدار ما يضعف «الدولة الإسلامية» بمقدار ما يحسب ذلك نقطة لصالح النظام السوري وللقوى المتحالفة معه.

٥ ــ لكن هذا يجب ألا يحسب تلقائيا بهذه الطريقة. إذ أن تعزيز أكراد سوريا لموقفهم بعد تحرير المدينة، وربما لاحقا في أكثر من جبهة، سيعزز موقعهم على طاولة المفاوضات عندما يحين الوقت لحل الأزمة السورية. وهنا سوف يكون الأمر مرتبطا بشكل أساسي بموقف القوى السورية الأخرى، سواء الدولة السورية أو قوى المعارضة الأخرى، إذ أن الأكراد يريدون الحكم الذاتي أو أي وضع يجعلهم يشعرون أنهم يديرون أنفسهم بأنفسهم ضمن وحدة الكيان السوري. وبمقدار اقتراب النظام والمعارضة من هذا المطلب، أو رفضهم له، تتحدد العلاقة، بل أيضا مستقبل الوحدة الجغرافية لسوريا. إذ أن رفض المطالب الكردية سيجعلهم يلجأون إلى خيارات أكثر تطرفاً، مثل الانفصال.

٦ ــ ويأتي تحرير عين العرب ليشكل هزيمة لأكثر من طرف، وفي مقدمة هؤلاء تركيا وحكومة «حزب العدالة والتنمية» والرئيس رجب طيب اردوغان.

إذ انه مع بدء تقدم «داعش» نحو عين العرب لم يخف اردوغان تحديداً ابتهاجه، لا سيما عندما بشر في مطلع تشرين الأول الماضي بأن «كوباني» على وشك السقوط، وهو ما أثار احتجاجات واسعة في المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا، انتهت إلى مقتل أكثر من 40 مدنيا على يد قوات الأمن التركية. والجميع يتذكر كيف أن اردوغان اندهش من إعطاء العالم هذه الأهمية لمدينة صغيرة لا أهمية لها، بحسب تعبيره. والهزيمة الكبرى لأردوغان ورئيس الحكومة احمد داود اوغلو أنهما اشترطا تقديم الدعم لعين العرب بتخلي الأكراد السوريين عن فكرة الحكم الذاتي في سوريا، وهو ما جوبه برفض صالح مسلم لذلك. إن تحرير «كوباني» هو انكسار لأردوغان وحكومته، ورغبتهما في رؤية المدينة، ومعها طرح الحكم الذاتي، يسقطان وسط الدماء والخراب، الأمر الذي لم يتحقق لهما.

ولم يخف اردوغان هدفه الأساسي من دعم «داعش» لإسقاط «كوباني»، وهو محو فكرة الحكم الذاتي من رؤوس الأكراد السوريين. إذ قال بعد تحرير عين العرب إنه يرفض الحكم الذاتي هناك، وإنشاء منطقة على غرار الفدرالية الكردية في شمال العراق إذ أنها، بتعبيره، مصدر عدم استقرار للمنطقة، كما انه لا يريد رؤية «شمال سوريا» على غرار «شمال العراق». ولا شك أن اردوغان هنا يكشف عن عدائه لأي نزعة استقلالية كردية في تركيا، قبل أن يرفضها في سوريا أو العراق. وهو ما يطرح بالطبع علامات استفهام كبيرة حول ما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات بين أنقرة و»حزب العمال الكردستاني»، في ظل هذا الرفض التركي للمطلب الكردي الأساسي، وهو الحكم الذاتي أو ما شابه.

كما كان مثار تهكم وسخرية أن يقول نائب رئيس الحكومة بولنت ارينتش إنه يجب ألا ينسى احد الدور التركي في تحرير عين العرب، في إشارة إلى فتح ممر عبر الأراضي التركية لقوات البشمركة لتمد «كوباني» بالمقاتلين والسلاح.

٧ ــ وهذا ينقلنا إلى رابح آخر من معركة تحرير عين العرب، بل ربما كان، إلى جانب التضحيات الكردية، العامل الأساسي في دعم الأكراد لتحرير المدينة، أي الولايات المتحدة. لقد تحولت عين العرب إلى نقطة تصارع بين الإرادات التركية والأميركية. فتركيا كانت رفضت الانضمام إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، بل لم تسمح حتى بفتح قاعدة «اينجيرليك» أمام الطائرات الأميركية لتضرب «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق. فكان القرار الأميركي أولاً بتقديم مساعدات عسكرية عبر الجو إلى عين العرب رغما عن انف تركيا. وكان هذا رسالة أولية أميركية إلى تركيا من أن سقوط المدينة خط احمر. واستكملت هذه الرسالة بضغط كبير على أنقرة لفتح ممر عبر تركيا لكي تعبر عبره قوات من البشمركة الكردية في العراق، ومعها ضمناً، وبصورة غير علنية، مقاتلين من «الكردستاني». وكانت موافقة تركيا على فتح هذا الممر ضربة قاضية لصورة اردوغان المنحني رغما عنه للإملاءات الأميركية. وانتهاء معركة «كوباني» الآن بتحريرها، تعني وضع النقطة الأخيرة على حرف حرب الإرادات التي حسمت بانكسار الإرادة التركية أمام الإرادة الأميركية.

٨ ــ لكن العامل الأميركي الكبير في تحرير عين العرب سوف يترك آثاره المستقبلية على خرائط النفوذ للقوى الدولية، ومنها أن واشنطن وضعت نفسها، وبعيون الأكراد كذلك، كحامية للأكراد في سوريا وتلقائيا في تركيا، وهذا سيجعل الورقة الكردية في الشرق الأوسط، ومنها العراق بالطبع، أكثر طواعية بيد واشنطن، بخلاف ما كان تاريخيا من دعم روسي لأكراد المنطقة، لا سيما في تركيا، انطلاقا من عوامل ايديولوجية ماركسية أو نضال ضد الأنظمة التابعة للأميركيين، ولا سيما في تركيا.

٩ ــ ومع أن أكراد العراق لعبوا دوراً مهماً في صمود عين العرب، وتحريرها، غير أن برقية «رئيس» إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني لأردوغان، وشكره على مساهمته بتحرير «كوباني» تكشف شعور البرزاني بأن النتائج تصب لمصلحة «الكردستاني» بقيادة غريمه اللدود عبد الله أوجلان، وبأن دعم البشمركة للمدينة كان أيضاً تحت الضغط.

وليست برقية البرزاني إلى اردوغان سوى محاولة لمنع تجيير تحرير المدينة إلى أوجلان وصالح مسلم، وتقوية موقعهما، كما في الصراع الإقليمي، كذلك في الصراع على تزعم أكراد الشرق الأوسط. ورغم لهجة البرزاني السلبية، فإن «حزب العمال الكردستاني» كان أكثر عقلانية، فلم ينظر، في بيان له، إلى تحرير «كوباني» سوى انه انتصار لأجزاء كردستان الأربعة، أي بما فيها إقليم كردستان العراق.

١٠ ــ وهناك دلالات أخرى ومهمة ومعبّرة لتحرير عين العرب، وتتصل بالانتخابات اليونانية، فالقليل يعرف أن حزب «سيريزا»، الذي انتصر في الانتخابات النيابية اليونانية وبات زعيمه أليكسيس تسيبراس رئيس الحكومة اليونانية الجديدة كان قد ذهب وفد منه مع بدء حصار «داعش» لعين العرب الى مدينة سوروتش التركية المقابلة للمدينة، معبرا عن تضمانه مع المقاتلين الأكراد فيها، واعتراضاً على سياسة حصار الحكومة التركية لعين العرب. ولحزب «سيريزا» علاقات عضوية مع «حزب الشعوب الديموقراطية» الكردي في تركيا والموالي لأوجلان كما مع «حزب الحرية والتضامن» اليساري هو الآخر.

ان انتصار تسيبراس في اليونان اعتبر انتصارا لـ«حزب الشعوب الديموقراطية» في تركيا، وللحركة الكردية عموما. بل إن رئيس الحزب الكردي صلاح الدين ديميرطاش بات يعرف على انه تسيبراس تركيا، وتسيبراس على انه ديميرطاش اليونان.

من هذه الزاوية، لا بد أن يخفي مسؤولو «العدالة والتنمية» انزعاجهم من فوز تسيبراس، ليس فقط لأنه وقف إلى جانب عين العرب، وضد مشاركة تركيا في حصارها، بل لأن فوز اليسار اليوناني سيشكل حافزاً إضافياً لتصب أصوات معظم اليسار التركي، بل أيضاً من غير اليساريين، لصالح «الشعوب الديموقراطية» الكردي. ومنشأ هذا الانزعاج أن التكتل خلف الحزب الكردي سوف يتيح له إمكانية أن يتجاوز العشرة في المئة الضرورية للدخول إلى البرلمان. وإذا ما حدثت المفاجأة، ونال «الشعوب الديموقراطية» هذه النسبة أو أكثر، فهذا يعني حرمان «حزب العدالة والتنمية» من الحصول على أكثر من 40 نائباً، يمكن أن يحصل عليهم الحزب في ما لو لم يحصل الحزب الكردي على العشرة في المئة، فتذهب المقاعد الكردية في جنوب شرق تركيا إلى «العدالة والتنمية».

إن نجاح «حزب الشعوب الديموقراطية» في نيل العشرة في المئة سيحرم «العدالة والتنمية» من الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان، وبالتالي إفشال خطة اردوغان لتعديل الدستور في البرلمان، والانتقال إلى نظام رئاسي ينقل الصلاحيات إليه كرئيس للجمهورية.

تداخلت خيوط اللعبة في الشرق الأوسط، وهذه المرة امتدت لتلفّ الحدود التركية مع اليونان، لتجد أنقرة نفسها داخل خط نار، يمتد من ديار بكر إلى أثينا مرورا بـ«كوباني».