آل سعود والوهابية و«داعش»: ثالوث الشؤم- الوهابية في قلب الجدل

آل سعود والوهابية و«داعش»: ثالوث الشؤم- الوهابية في قلب الجدل

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٨ نوفمبر ٢٠١٤

في ظل الهامش الضيق لحرية التعبير في الصحافة السعودية، والذي تختلف أبعاده، وقد يتلاشى كلياً، تبعاً للظروف السياسية الداخلية أو الخارجية؛ يُضطر الكُتّاب عادة إلى تكييف أقلامهم مع المناخ العام عند اختيار المواضيع التي يتناولونها بالنقد أو التحليل؛ وذلك لتجنب المضايقات، أو تجنب قرار بالإيقاف والمنع عن الكتابة.

ويمكن أن نأخذ طريقة التفاعل مع «الوهابية» مثالاً على ذلك، فبعدما كان نقدها في وسائل الإعلام إشكالياً، وواحداً من الخطوط الحمراء التي يُعرّض تجاوزها، الأفراد والمؤسسات، للمساءلة أو الإيقاف؛ كما حدث مع كل من الكاتب والأكاديمي خالد الدخيل، والإعلامي عبد الرحمن الراشد؛ حين مُنع الأول من الكتابة في صحيفتي «الاتحاد» الإماراتية، و«الحياة» السعودية، على أثر سلسلة مقالات تناول فيها الوهابية، وتعرض الثاني للفصل من قناة «العربية»، لمدة يومين، بعدما بثت القناة وثائقياً حولها، أو كما حدث مع رئيس تحرير صحيفة «الوطن» السعودية الأسبق جمال خاشقجي، حيث أُقيل من منصبه لسماحه بنشرمقالٍ ينتقد الوهابية.

في الآونة الأخيرة، يشهد الإعلام المرئي والصحف موجة من النقد والتشريح، العلني، للوهابية، ما يدفعنا إلى التساؤل عمّا قد يعنيه هذا التوجه حالياً، وخاصة أنه يأتي بالتزامن مع مشاركة السعودية في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».

تنوّعت أساليب الكُتّاب في تعاطيهم مع الوهابية، فهناك من حرص على وضع الحركات الجهادية السلفية في سياقها التاريخي والسياسي، وعدم الاكتفاء بالمراجعات الدينية، كما فعل الكاتب خالد الدخيل في سلسلة مقالات، منها مقاله (مراجعات «الوهابية» تأخرت كثيراً)، ويرى فيها أنّ أهم ما تمخض عنه ظهور «داعش» هو ما يبدو أنه مراجعة فكرية لأدبيات الحركة الوهابية، وأن هذه المراجعات يجب أن تستمر وتتعمق، مع توجيهه النقد لما اتّسمت به أغلب المراجعات من طغيان النَفََس الديني عليها، وتجاهل الإطار التاريخي والمعطيات الاجتماعية والسياسية.

من ناحية أخرى، اتجهت بعض الأقلام إلى محاولة خلق تمايز بين أيديولوجيا السعودية، وأيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية، أو نفي وجود علاقة بين الوهابية والتنظيم. كما فعل كل من سعود السرحان ونواف عبيد في مقالهما المعنون (السعوديون قادرون على سحق «داعش»)، حيث حاولا التأكيد على أن السعودية ليست المنبع لظهور «داعش»، بل اعتبراها الهدف الرئيس للتنظيم؛ لأن طريقه نحو الخلافة يمرّ عبرها، فهي أرض الحرمين، المكي والنبوي. كما حرصا على نفي اتباع منهج السلف أو «الوهابية» عند «داعش»، معتبرين أنّها تتبع «مذهب الخوارج»، المناقض تماماً للسلفية.

وفي السياق ذاته، كتب عبد الله بن بجاد العتيبي مقالاً بعنوان («داعش» بين الوهابية و«الإخوان المسلمين»)، هدف من خلاله الى تثبيت أن تنظيم الدولة الإسلامية لا ينتمي إلى الوهابية بل إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ويمكن أن نصنف هذا المقال، والمقالات المشابهة له، باعتبارها تمثل امتداداً للحملة الإعلامية ضد جماعة «الإخوان المسلمين»، التي أعلنتها السعودية جماعة إرهابية، مطلع هذا العام.

ويرى البعض أنّ الوهابية باتت تشكل عبئاً على الدولة السعودية، وطالب بالانفصال عنها، مثل الكاتب حمزة السالم، الذي وصف الوهابية في مقاله (السلفية على فراش الموت)، بالمتخلفة «تخلفاً شديداً عن جميع مظاهر التطور الإنساني»، في الوقت نفسه الذي وصف فيه الدولة السعودية بـ«المواكبة للحضارة الحديثة»، معتبراً أنّ التناقض بين جسد الدولة وروحها هو سبب بقائها وعدم انتهائها مثل طالبان، مطالباً بالتخلي عن روح الدولة - الوهابية - لأنها تسبب مشكلة في تركيبة المجتمع السعودي، ما يجعلها تمثل عبئاً على الدولة، بعدما كانت مصدر عزتها وقوتها، ووافقه في ما ذهب إليه كتّاب آخرون، مثل عبد السلام الوايل في مقاله (نحن والوهابية بين الامتنان والنقد).

أما الشيخ حاتم العوني، الأكاديمي في جامعة أم القرى، وعضو مجلس الشورى (سابقاً)، فقد تحدث في برنامج (لقاء الجمعة) على قناة «روتانا» عمّا وصفه بـ»الغلو في التكفير عند الوهابية». وربط بين استباحة «داعش» للدماء، وبين كتاب «الدرر السَنِيَّة». وقال: «إن أكبر تهديد اليوم يأتينا من الجماعات التي فهمت منهج السلف فهماً خاطئاً».

إنّ نقد الوهابية ومراجعتها ليس بالأمر الجديد، فقد تعرّضت الحركة للكثير من النقد الداخلي والخارجي. لكن الجديد الآن هو أن هذا الانفتاح على نقد الوهابية لا يناقش غلوّها وتشددها، كما جرت العادة، وإنما يمسّ في جوانب كثيرة منه ارتباطها بالدولة، ويأتي صريحاً بعدما كان يُمرّر تحت غطاء «نقد الصحوة»، والأهم من كل ذلك أنه يأتي في ظل تغيرات إقليمية ودولية هامة. مرّ الفكر السلفي بمراحل عديدة، وطرأ عليه العديد من التغيرات، ويخطئ من يتعامل مع الوهابية باعتبارها تياراً واحداً متجانساً، أو أن لها أيديولوجيا متماسكة متعلقة بنظرتها للدولة وشكل نظام الحكم، فالاتجاهات والأفكار متنوعة داخل ورثة الوهابية، وخاصة مع دخول الأفكار «الإخوانية» على الخط، واختلاطها بالنهج السلفي، وإنتاجها لتيارات مثل «السرورية» و«التيار الإخواني السعودي». ويمكن القول إن سماح السعودية بالوجود الأميركي على أرضها، فترة حرب الخليج، كان له إسهام كبير وجوهري في إبراز هذه التباينات والاختلافات داخل الحالة الإسلامية، ففي حين ركز التيار الجامي (نسبة إلى الشيخ محمد أمان الجامي) على طاعة ولي الأمر طاعة مطلقة، والتحذير من معارضته لما قد تؤدي إليه من «فتن» وإخلال بالأمن؛ تبنّى تيار الصحوة، الذي يشكل مزيجاً من الوهابية والإخوانية، خطاب معارضة سياسية للدولة. فعلى سبيل المثال، عمد عدد من رموز التيار الى إصدار «مذكرة النصيحة»، ومن أبرز مطالبها إعادة الاعتبار للعلماء ودورهم في الحياة العامة باعتبارهم أهل العقد والحل، ومكافحة الفساد، وتوزيع موارد البلاد على المواطنين بالتساوي. كما أعلن عدد من مثقفي الصحوة تأسيس «لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية» للدفاع عن «حقوق الإنسان» التي تقرّها الشريعة؛ الأمر الذي وضعهم في مواجهة مع السلطة ومؤسساتها الدينية ذات التوجه السلفي التقليدي، التي ترى أن مهمتها تتركز على الإصلاح الديني، تاركة أمور الحكم للساسة أو ولاة الأمر، مع تبني نهج «النصيحة السرية للحاكم» من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في المقابل، تتبنّى جماعات السلفية الجهادية فكرة حمل السلاح والجهاد كوسيلة للتغيير، وترى أنها تحيي نهج السلف الصحيح (أو بالأحرى نهج الوهابية الأصلية) عن طريق إحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، ومن أهم خصائص هذا التيار أنه يرفض كلّ أشكال النظم الحاكمة القائمة، حيث تجاهد أنظمة الحكم في الدول الإسلامية، (لكفرها) أو عدم شرعيتها، إلى جانب جهاد الكفار أو المحتلين، مع رفض البنية الثقافية للمجتمع ووصفه بالجاهلية. هذا الفكر الراديكالي، الذي يرى حمل السلاح طريقاً وحيداً للتغيير، هو أهم ما يميز السلفية الجهادية عن غيرها من السلفيات.

تُشكِّل الوهابية بالنسبة إلى السعودية مصدراً هاماً للشرعية، لهذا السبب، ولأنها موّلت، وببذخ، نشر الوهابية في أنحاء العالم، عن طريق بناء المدارس والمراكز والمساجد السلفية، فضلاًً عن تمويلها برنامجاً واسع النطاق لمساعدة «المجاهدين» الأفغان أثناء الحرب مع السوفيات، وذلك بالتنسيق مع الوكالة الباكستانية للمخابرات، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «CIA»؛ بات يُنظر للسعودية - وخاصة من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية - باعتبارها حاضنة لما يُسمى «الإرهاب» متمثلاً بالوهابية، ومركزاً مالياً وأيديولوجياً داعماً له. لذا، فإنه في كل مرة تتمّ فيها مناقشة ظاهرة الجماعات الجهادية السلفية كـ«القاعدة» و«داعش»، يُشار بأصابع الاتهام إلى السعودية بتمويل «الإرهاب»، لتجد نفسها مضطرة إلى تفنيد هذه الاتهامات والرد عليها. هذه النظرة التي ترى الوهابية مرادفاً «للإرهاب» حديثة، أي أنها لاحقة لأحداث الحادي عشر من أيلول. أما قبلها، فكانت معظم مراكز الأبحاث الغربية تُقدم الوهابية على أنها حركة موحدة إحيائية ذات طابع طهوري، مع الاعتراف بتشدّدها، دون أن يروا في ذلك أي تهديد لهم ولمصالحهم. وقد يكون سبب ذلك، هو الثقة التي كانت لدى الغرب بقدرة حلفائهم، حكام السعودية، على إحكام السيطرة على الحركة، ومنع أتباعها من التعدّي على مصالحهم.

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول؛ تحولت الحركة الوهابية في نظر الساسة والكتاب الغربيين، من حركة توحيدية طهورية، إلى حركة إرهابية مروجة لخطاب الكراهية. فتوالت الدعوات والضغوط على السعودية، لتقوم بإصلاح مؤسساتها ومناهجها التعليمية. تعاملت السعودية مع هذه الضغوط والاتهامات بطرق عدة: فعمدت الى اعتقال أعدادٍ كبيرة من معتنقي الفكر الجهادي، وخاصة بعد تفجيرات الرياض عام 2003، كما أطلقت برنامجاً إصلاحياً للمناهج الدراسية (وخاصة مواد التربية الإسلامية)، بالإضافة إلى إصدار بعض القرارات المتعلقة بالمرأة، مثل منحها بطاقة هوية، وتعيينها في مناصب عليا في الدولة، ودخولها مجلس الشورى، فضلاً عن السماح لها بممارسة مهنة المحاماة. كل ذلك إضافة إلى افتتاح جامعة الملك عبد الله «كاوست» المختلطة، يحمل دلالات كثيرة؛ أهمها تقليص سلطة المؤسسة الدينية وكبح جماحها. ويمكن اعتبار القرار الذي أصدره الملك عبد الله القاضي بإقالة عضو هيئة كبار العلماء، الشيخ سعد بن ناصر الشثري، بعدما طالب في أحد البرامج التلفزيونية بمنع الاختلاط بين الجنسين في جامعة كاوست، دليلاً على ذلك.

هذا على الصعيد الداخلي. أما خارجياً فتحاول السعودية الإظهار بأنّ طلاقاً تمّ بين السلطة والوهابية، وتقدم نفسها للخارج في نموذج الدولة الليبرالية، التي ترعى حوار الأديان. حتى إن الملك عبد الله صار يُلقَّب بـ«ملك الإنسانية»، إلى جانب لقب «خادم الحرمين الشريفين». ومع ذلك، فإنّ التوقف عن تمويل الجماعات الجهادية (علناً)، يتناقض مع ما قدمته الدولة من دعم لبعض الجماعات الجهادية، في سوريا مثلاً، كما أن الحديث عن طلاق بين السلطة السياسية والوهابية في مجال السياسة الخارجية للدولة؛ قد لا يتسق مع ما يتم تداوله عن دعم تقدمه للأحزاب السياسية السلفية في بعض الأقطار العربية. والأهم من كل ذلك، هو أن جزءاً رئيساً من التحالف ضد «داعش» يقوم على استخدام ما وصفته الناطقة الرسمية باسم الخارجية الأميركية، ماري هارف، «بالأصوات الإسلامية المعتدلة»، متمثلاً بالأزهر والمؤسسة الدينية السعودية، لنزع الشرعية الأيديولوجية عن تنظيم الدولة الإسلامية، وهنا يأتي استخدام المؤسسة الدينية التقليدية في مواجهة خطر «داعش»، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الاهتمام بنشر الوهابية حول العالم لم يتوقف. أمّا على الصعيد الفكري، فقد قامت المؤسسة الرسمية بدعم باحثين غربيين، لإجراء أبحاث ودراسات، تحاول تقديم صورة مخالفة عمّا يروّج عن الوهابية لدى الغرب، وتبرئتها من تهمة الإرهاب.

يبقى السؤال، هل يمكن أن يتمّ الانفصال بين المؤسستين السياسية والدينية على المستوى الداخلي للملكة؟ وللإجابة عنه، نحن بحاجة إلى فهم طبيعة العلاقة بين المؤسستين، وما الذي تعنيه الوهابية بالنسبة إلى الدولة. تتمثل الوهابية في الدولة على شكل مؤسسات قائمة مثل: القضاء، وزارة الشؤون الإسلامية، هيئة الإفتاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود، وغيرها، هذه المؤسسات تتسم بالمرونة بحيث تعيد إنتاج نفسها بشكل دائم ومستمر. وإذا أرادت الدولة التخلي عنها، فإنها ستكون بحاجة إلى تغييرها بالكامل مع ما تحتويه من جيش بيروقراطي مكوّن من مئات الآلاف. وليس صحيحاً أن الوهابية بمؤسساتها تشكل عبئاً على الدولة، بل على العكس، فهي تمثل مصدر شرعية مهم لها، فضلاً عن لجوء الدولة إليها كلما شعرت بضرورة ذلك. حدث هذا بعد اندلاع «الربيع العربي» في عدة أقطار عربية، حين لجأت السلطة إلى فتاوى هيئة كبار العلماء، المحرمة للتظاهرات والمحذرة من خطر الخروج على «ولي الأمر»، مع صدور أمر ملكي يحظر المساس بالمفتي وهيئة كبار العلماء. والنقطة الأهم هي استخدام هذه المؤسسات لقمع حركات المعارضة والقضاء عليها، إذ تخضع كل معارضة سياسية للمحاكمة وفقاً لقيم المؤسسة الوهابية، القائمة على طاعة «ولي الأمر». وبالتالي، فإن تخلي الدولة عن هذه المؤسسات يعني تخليها عن أسلحة هامة تستخدمها كمصدر للشرعية، ولإخضاع المعارضين.

إذا كانت الوهابية مهمة للدولة، فلماذا يُسمح بنقدها بهذا الشكل؟ الجواب يكمن في تحدي «داعش»، الذي يستلزم المزيد من تفريغ الوهابية من مضامينها الأصلية؛ والتي قد تشكل خطورة على الدولة أو تضر بصورتها، وفي الوقت ذاته تستخدمها الدولة الإسلامية اليوم لتُسقط شرعية الحكومات العربية.

ما يوصلنا بالنتيجة إلى أنه ليس هناك رغبة واضحة لدى الدولة للتخلي عن الوهابية أو استبدالها - في المدى المنظور على الأقل -، وذلك لأنها تمثل مصدراً مهماً للشرعية، ولأن الوهابية التقليدية تُستخدم لقمع ومحاربة التوجه الراديكالي لدى الوهابية الجهادية، من خلال دعم مؤسسات الدولة الدينية مثل هيئة كبار العلماء. وكل ما يحدث هو المزيد من التشذيب وتقليم الأظافر، إلى جانب محاولة إيجاد وهابية أكثر قدرة على تلبية متطلبات المرحلة الحالية.