بوتين لن يسمح بهزيمة حلفائه.. وبرلين لن ترضخ في أوكرانيا

بوتين لن يسمح بهزيمة حلفائه.. وبرلين لن ترضخ في أوكرانيا

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٤ نوفمبر ٢٠١٤

لا شيء في أفق الأزمة الأوكرانية يدعو للتفاؤل: بصيص الأمل الوحيد، الذي تطلب أشهرا من الوساطات، تم القضاء عليه الآن. التفاهمات الهشّة على حافة الانهيار، والمسؤولية تتقاذفها أطراف الصراع. وسط كل ذلك، ارتفعت لهجة التحدي إلى مستوى غير مسبوق. الكرملين توعّد بأنه لن يسمح بهزيمة متمردي الشرق الأوكراني، وبرلين الآن ترد بأنها لن ترضخ لسياسات روسيا.
في الوقت ذاته، اتخذت حكومة كييف قرارا غير مسبوق بقطع التمويل الحكومي عن مناطق الانفصاليين. من الآن فصاعداً لا تمويل للخدمات ولا رواتب ومعاشات تقاعد، وعلى زعماء الانفصاليين عبء تأمين موارد عيش مناطقهم.
علامات اليأس ظهرت واضحة في كلام وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، بعد لقائه القيادة الروسية في موسكو الثلاثاء الماضي. قال شتاينماير، الذي لا يحب عادة العبارات القانطة، «لا يوجد سبب يدعو للتفاؤل في الوضع الحالي».
زيارة رئيس الديبلوماسية الألمانية جاءت في محاولة لمنع انهيار اتفاقية مينسك، التي أقرّت وقف إطلاق النار في العاصمة البيلاروسية بعد قمة جمعت زعماء أوروبيين مع القيادة الأوكرانية والروسية. هذه الهدنة كانت الاتفاق الوحيد الملموس بين يدي وسطاء الأزمة، والمنخرطين فيها، لكن توقيعه في بداية أيلول الماضي لم يوقف القتال إطلاقا.
استمرت المعارك الجانبية، خصوصا حول مطار دونيتسك، المدينة الكبرى في المناطق الانفصالية التي تضم أيضا إقليم لوهانسك. كلا الطرفين تبادلا الاتهامات عن خرق وقف إطلاق النار. الانفصاليون قالوا إن كييف تنتهز الهدنة لحشد قوات أكبر من أجل المعركة المقبلة. وردت الحكومة الأوكرانية بأن الانفصاليين هم من خرقوا الهدنة «43 مرة» خلال قرابة شهرين ونصف الشهر من توقيعها.
ومع ذلك مرت أسابيع من التفاؤل بإمكانية بناء تسوية. رحب الغرب بسحب حشد من القوات الروسية من على الحدود مع أوكرانيا، وأقر حلف شمال الأطلسي بأن آلاف الجنود الروس تراجعوا، مع ترسانة أسلحة ثقيلة كانت تصاحبهم.
لكن هذا التفاؤل لم يصمد طويلا. منذ أيام يداوم «الأطلسي» والمسؤولين الغربيين، على تكرار التحذير من عودة الحشد، مع عبور أرتال من القوات من روسيا إلى المناطق الانفصالية. أكد «الناتو» أن الأسلحة العابرة تشمل الشاحنات المصفحة والمدفعية وأنظمة صواريخ متطورة.
مع ذلك تواصل موسكو نفي صحة ذلك، مشددة على عدم انخراطها في الدعم العسكري. لكن العواصم الغربية تذكّر دائما بما حدث في شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا، حين انتشر العسكريون الروس مع معداتهم ورفضت السلطات الروسية الإقرار بوجودهم.
الحديث عن هذه الإمدادات كان سبقه قيام كييف بخطوة أثارت سخط موسكو والانفصاليين. أعلن الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو نشر قوات إضافية في الشرق، مبررا بأن هدفها هو الدفاع عن المدن التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة المركزية.
هذا التصعيد بلغ ذروته مع إعلان بوروشينكو قطع كل التمويل عن الخدمات العامة، التي تقدمها الدولة الأوكرانية لمناطق الانفصاليين. هذا التمويل لا يمكن الاستهانة به، وقطعه يعني تجميد 2.6 مليار دولار، وبعضه يذهب لدفع رواتب ومعاشات تقاعد آلاف الباقين في الشرق. حساسية هذه الخطوة، التي جاءت الأسبوع الماضي، تبدو واضحة من امتناع القيادة الأوكرانية عن اتخاذها، رغم أشهر من الحرب المستمرة منذ أشهر.
أهمية القضية لا تتعلق فقط بالأموال، على ضرورتها، بل تتصل بالرمزية الكبيرة التي تمثلها. وتقول القيادة الأوكرانية الآن لسكان المناطق الانفصالية أنها لم تعد مسؤولة عنهم، ما يكرس واقع انفصالهم عنها. يقف ذلك متناقضا مع إعلاناتها السابقة المصرة على «وحدة أراضي أوكرانيا».
هذه الأهمية الرمزية لم تخطئ بروكسل قراءتها، وكان واضحا أنها ليست راضية عما قام به بوروشينكو. هذا ما أكده لـ«السفير» مسؤول أوروبي رفيع المستوى، منخرط بالعمل على الملف الأوكراني في الاتحاد الأوروبي. وقال إن «العديد من وزراء الخارجية الأوروبيين غير موافقين على ما قامت به كييف، نحن أيضا لا نرى أن قطع التمويل هو خطوة حكيمة».
لتوضيح أسباب الرفض، اضطر المسؤول الأوروبي إلى المقارنة مع الوضع السوري. آخر شيء يفكر فيه الأوروبيون هو امتداح حكام دمشق، ومع ذلك شرح بأن «رغم خلافنا معه لكن النظام السوري يقوم بسياسة صحيحة، فإذا أردت أن تؤكد إصرار الدولة المركزية على وحدة أراضيها فمن المهم الاستمرار في تقديم التمويل للخدمات العامة، حتى لو كانت في المناطق تحت سيطرة خصومك».
هذه الخطوة هاجمتها موسكو بحدة وقرأت فيها تمهيدا لتصعيد عسكري في الحرب. علق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على ذلك بالقول إن كييف «تمهد الطريق لغزو آخر من أجل حل القضية عبر القوة».
تشخيص أكثر تحديدا يقدمه فلاديمير تشيخوف، السفير الروسي لدى الاتحاد الأوروبي. حين سألته «السفير» عن رأيه، قال إن قادة أوكرانيا «يقومون بخنق الشرق، إنهم يعزلونه ويدفعونه خارج البلد».
لكن روسيا ترفض ذلك، طالما أنها تريد حكما أكبر للانفصاليين؟ يرد تشيخوف «لأننا نريد حلا سياسيا، نحن لا ندعم انفصالا كاملا».
بررت كييف خطوتها عبر سلسلة من الشعارات، منها إعلانها أن قطع التمويل هدفه وقف إمدادات «يستخدمها الإرهابيون». وقالت إن خطوتها تأتي ردا على الانتخابات التي أجراها الانفصاليون، بداية هذا الشهر، حين تم انتخاب رئيس للجمهورية التي أعلنها الانفصاليون. موسكو هي الوحيدة التي اعترفت بشرعية هذه الانتخابات، في حين أدانتها واشنطن وبروكسل.
وجهت هذه الخطوات ضربة قوية للتفاهمات الهشة أساسا. بعد اتفاق مينسك، وافق البرلمان الأوكراني على اقتراح قدمه بوروشينكو لإعطاء «وضع خاص» لمناطق الانفصاليين، مع حكم ذاتي واسع تقوده حكومة انتقالية لثلاث سنوات. كان القرار يفترض إجراء انتخابات محلية بداية تشرين الثاني الحالي، لكن الانفصاليين أجروا انتخابات على أساس آخر هو أنهم جمهورية مستقلة.
بهذه الطريقة يتلاشى التقدم البسيط الذي كان يعول عليه الوسطاء الدوليون. إضافة إلى الرد عبر قطع التمويل، قام بوروشينكو بسحب عرض «الوضع الخاص» الذي قدمه للانفصاليين. هذا التزامن تؤكد عليه سفيتلانا كونونتشوك، وهي واحدة من كبار محللي «المركز الأوكراني للأبحاث السياسية المستقلة» في كييف. وقالت، لـ«السفير»، إن خطوة قطع التمويل تستهدف الضغط على خصوم كييف في اتجاهين «ربما تعتقد كييف أن قادة هذه المناطق سيكونون في حالة يائسة للحصول على أموال (للمؤسسات العامة والمتقاعدين)، و سيكونون أكثر استعدادا للتعاون مع كييف والبدء في تقديم تنازلات».
وترى كونونتشوك أن الهدف الثاني يتجلى في كون «بعض التمويل لهذه المناطق سيأتي ربما من موسكو، كما هو الحال في ترانسنيستريا (الإقليم الانفصالي الموالي لروسيا في مولدافيا، ولكن هذه المناطق هي أكبر من ترانسنيستريا، وسيكون دعمها مكلفا جدا بالنسبة لروسيا».
في هذا الوقت تعاني كل من موسكو وكييف صعوبات اقتصادية. الاقتصاد الروسي يتضرر بوضوح من العقوبات الغربية، مع استمرار انخفاض أسعار النفط الذي تعتمد عليه الموازنة. وفي المقابل، يعيش الاقتصاد الأوكراني أزمة أشد بكثير، فهو يسير على حافة الانهيار منتظرا التمويل من قروض الغرب ومساعداته.
ما ينذر بتصعيد الحرب في أوكرانيا هو ظهور لهجة الخلاف والتحدي، خصوصا من جهة ألمانيا التي كان التعويل عليها في إيجاد أرضية وسطية. المستشارة أنجيلا ميركل قالت، من على منبر علني قبل أيام، إن الاتحاد الأوروبي لن يرضخ لموسكو كما فعلت ألمانيا الشرقية. واعتبرت، على هامش قمة العشرين، بلهجة متوعدة أن «الأمور كانت تسير هكذا قبل 40 سنة، ولا أرغب أبدا بالعودة لذلك الوضع».
في المقابل، صعّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من هذا التحدي لكنه وجهه إلى واشنطن. وقال إن موسكو «لن تخضع» للولايات المتحدة، لأن محاولات إخضاعها «لم تنجح على مر التاريخ». ترجمة هذا التحدي، المتصلة بالأزمة الأوكرانية، هي توعد بوتين بأنه لن يسمح أبدا لقادة كييف وحلفائها بهزيمة الانفصاليين.
كل هذا ينذر بتصعيد الحرب الدائرة، إلا إذا تراجع الطرفان عبر تنازلات لا يبدو أنهما يرغبان بها. ما يزيد من المخاوف هو ما أعاد تشيخوف التذكير به، أمام مؤتمر أمني في بروكسل، قائلا إن الثقة المعدومة هي الحاكمة الآن، لافتا إلى أن الصراع الحاصل بين الغرب وروسيا «ليس حول أوكرانيا بحد ذاتها، كما أنه لم يبدأ بالأمس».