صربيا اليوم.. أوكرانيا الغد؟ حين يكون القلب مع روسيا.. والعقل مع الغرب

صربيا اليوم.. أوكرانيا الغد؟ حين يكون القلب مع روسيا.. والعقل مع الغرب

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٩ أغسطس ٢٠١٤

التفتت البائعة بحيرة إلى صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كانت مطبوعة على أحد القمصان، وبدت مثل لون فاقع معزول وسط التذكارات الكثيرة التي تعرضها واجهة متجرها. كانت ترد على سؤال أجنبي عابر عن سبب عدم انتشار صورة كهذه، فقالت: «ربما لا يريدون إخافة السياح الأوروبيين».
كان جواباً كافياً ليضحك الإثنان، ويكمل الغريب سيره بين مرتادي حديقة «كاليمدان» في قلب العاصمة الصربية بلغراد. الكثير من المتفرجين كانوا متحلقين حول لاعبي الشطرنج الموزعين، حيث وضعت العديد من طاولات اللعب الاسمنتية تلبية لشعبية هذه الرياضة.
إجابة البائعة ليست بعيدة عن حركات الحكومة الصربية على رقعة شطرنج الساحة الدولية. الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا يعني بلغراد في الصميم. الصرب هم أيضا حائرون في موقعهم بين الشرق والغرب، تحت ضغوط مباشرة من الطرفين. هناك العلاقة التاريخية مع روسيا، لكن من جهة أخرى الأولوية المعلنة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بعض الصرب يعي تماما هذا المأزق الجغرافي والسياسي. أحدهم ديمتري، استاذ اللغات الجرمانية، الذي يقول «بلدنا وضعه معقد، فنحن لسنا الغرب ولسنا الشرق. بالنسبة لنا الغرب يبدأ من جارتنا كرواتيا، لكن ليس لنا أيضاً الطبيعة الشرقية لروسيا».
أكمل هذا الشاب الثلاثيني دراسته في ألمانيا، ويحاول الآن تأمين حياته مع زوجته الطبيبة. لكنهم قطعوا الأمل من البقاء في صربيا. البطالة وصلت عشرين في المئة، مع غلاء كبير في المعيشة والإيجارات السكنية.
لذلك ينتظر ديمتري تأشيرة عمل من استراليا، ولا يتردد في الحديث عن المسار الأفضل لبلاده: «أعتقد أن مواصلة التقارب مع الغرب ودخول الاتحاد الأوروبي هو الخيار الأفضل، الاتجاه إلى روسيا لن يقدم أي أفق اقتصادي مطمئن». تقديره الشخصي أن الصرب منقسمون نصفين حول الوجهة الأفضل لبلادهم.
الخطوة الأولى للالتحاق بالنادي الأوروبي جاءت بعد سنوات من الشروط والممانعة. القادة الصرب المتهمون بجرائم حرب، خلال حروب التسعينيات، سلّموا واحدا تلو الآخر. آخر العقبات كانت النزاع المعلق مع إقليم كوسوفو، ورفض بلغراد لاستقلاله. حسم الصرب قراراهم بأن دخول الاتحاد الأوروبي أولوية تحتاج تضحيات. عقدت جولات طويلة من التفاوض، بوساطة أوروبية، وتم توقيع الاتفاق العام الماضي. لم تمض أشهر حتى وفت بروكسل بوعدها، وأعلن رسمياً انطلاق مفاوضات عضوية صربيا، بداية هذه السنة.
لكن الحديث عن انقسام المؤيدين بين روسيا والغرب يثير دهشة المصور الفوتوغرافي ميلوش. اعتبر ما سمعه طرفة جيدة في نهاية يوم عمله الطويل: «عمري تقريباً أربعون سنة وأعتقد أني أعرف ميول الرأي العام هنا بما يكفي». يطرح مباشرة تقديراته: «الجميع يعرف أن طبيعتنا كشعب تشبه طبيعة الروس، نحن مثلهم وأنا متأكد أن 90 في المئة من الناس يؤيدون روسيا». يشدد على أنه لا يمكن إغفال دور الدين، لكون الشعبين يتبعان الكنيسة الأرثوذوكسية.
يردد الصرب المثل الشهير «الصديق وقت الضيق» لتوضيح هذا القرب. العلاقات التاريخية بين البلدين جبلتها أزمات وحروب لم تنقطع. في كل المصائب كان الصرب يجدون اليد الروسية الممدودة. كانت النجدة التي أسعفتهم في الحرب العالمية الأولى، وحليفهم في الثانية. بقيت الداعم الوحيد لهم في سنوات الحصار الدولي والعقوبات طوال التسعينيات، أيام مغامرات الرئيس الصربي سلوبودان ميلوزوفيتش.
لا يحتاج أهل بلغراد لمن يذكرهم بكل ذلك. ينطلق لسان النادل الشاب ميركو بشلال من الأمثلة المشابهة. عند الحديث عن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه فصله عن أميركا، متذكراً قصف الحلف الأطلسي لبلغراد، في حرب كوسوفو 1999. يتساءل بنبرة منفعلة «كيف لي أن أحب أميركا، لقد جاؤوا وقصفوا بيوتنا. كيف تحب من يقصفك»، ثم يقفز إلى الضفة الأخرى: «أنا متأكد أن اكثر من 90 في المئة من الصرب يدعمون روسيا والرئيس بوتين، رغم كل حديث الغرب عن الديموقراطية لكن ولا رئيس عندهم يقيم مؤتمراً صحافياً لساعات ويرد على كل الأسئلة».
اللافت بالفعل أنه كلما سألنا شخصاً مؤيداً للتقارب مع الاوروبيين، كان يقول إن المجتمع الصربي منقسم نصفين. لكن كل شخص مؤيد لروسيا كان يصر على أن مؤيديها هم، مع تكرار الرقم، أكثر من 90 في المئة.
لكن بالطبع لا تريد الحكومة الصربية إجراء احصاءات كهذه. الحزب التقدمي الصربي، من يمين الوسط (المحافظين)، همه الأول أن تكون البلاد تليمذاً نجيباً بعيني بروكسل.
آخر الآمثلة جار الآن: ردت روسيا على العقوبات الغربية بإيقاف الصادرات الزراعية منها، وهو ما سبب نقصاً في السوق الروسية. الأوروبيون ناشدوا الجميع عدم زيادة صادراتهم لروسيا لسد النقص. سارعت حكومة بلغراد لتأكيد أنها ستمنع بشدة أي زيادة في تصدير تلك المنتجات لحليفها التقليدي.
يأتي ذلك رغم أن روسيا، حتى الأمس القريب، كانت الدولة الكبرى الوحيدة التي وقفت مع صربيا. مع ذلك، أوراق موسكو الآن ليست حاسمة. هناك التعويل على العلاقة التاريخية وتقارب الشعبين، وهذا مهم في أي استفتاء شعبي. اقتصادياً، تعتمد صربيا، بما يفوق 80 في المئة، على صادرات الطاقة الروسية، من غاز ونفط. إسم وإعلانات «غازبروم»، عملاق الغاز الروسي، منتشرة وهي تهيمن على أكبر شركة طاقة صربية.
بالمقابل يشكل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لصربيا، مواصلا البحث، لنفسه ولحلفائه، عن بدائل جدية للطاقة الروسية واستثماراتها.
لكن العضوية الأوروبية ليست المشكلة لموسكو، فعينها على تمدد الحلف الأطلسي. الضامن الآن هو إعلان صربيا أنها دولة محايدة عسكرياً منذ العام 2007. كان ذلك قبل أن تدخل الحلف ألبانيا وكرواتيا، أعداء الأمس القريب، ما جعل صربيا شبه محاصرة بالكامل بدول الناتو.
لكن التغير الأبرز هو تركيبة البيت الداخلي الصربي. في نيسان الماضي فاز الحزب التقدمي الصربي بالغالبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية، ليحكم بدون حاجة لائتلاف وتسويات. إنها سابقة في صربيا ما بعد ميلوزوفيتش. لم يكن ذلك ليخلق مشكلة لو لم يكن رئيس الحزب، ورئيس الحكومة الحالي، الكسندر فوتشيتش (1970).
الرجل حرباء سياسية، إنقلابي على نفسه. بنى مسيرته في اليمين المتطرف، كان يحتفل في الشوارع بمعاداة الغرب، ويمجّد مجرمي الحرب المطلوبين دولياً. عمل سنتين وزيراً للإعلام نهاية التسعينيات، وله تاريخ أسود أيضاً في محاربة الصحافة. لكنه انتقل فجأة، العام 2008، إلى الحزب التقدمي ليصير رئيسه لاحقاً. لا ينكر ماضيه، لكنه يقول إنه نادم وتغير. هدف فوتشيتش المعلن هو العضوية الأوروبية، وألا يفعل أي شيء يغضب بروكسل.
حتى الآن لم يطرح الحاكم الجديد عضوية «الناتو». لكن صربيا منضوية في برنامج الحلف «الشراكة من أجل السلام»، الذي يعد إطاراً للطامحين بالعضوية، مثل أوكرانيا الآن.
حكومة بلغراد تجد نفسها مضطرة علناً لطمأنة الصرب بأن النيران الأوكرانية لن تصلهم. لكن شكوكهم قائمة، وهم يرون كيف انقلبت أوكرانيا على حلفها التاريخي مع موسكو، لتضعها في مأزق صراع اليوم وحربه.
في هذا الجو السياسي تواصل بلغراد مغادرة صورة العاصمة المعزولة دولياً.
هناك من يراقب هذه التغيرات بشكوك خمرتها التجارب. إنه العطار ناونوت الذي أمضى جلّ حياته (66 عاماً) في متجره، وسط شارع «الملك بيتر» المتفرع من أطراف قلعة بلغراد. عند سؤاله إن كان الأفضل لبلاده الاتجاه إلى روسيا أم حضن الأوروبيين، يترك مشاغله مصراً على رواية حكاية: «هناك عائلة يهودية أوروبية ثرية اشتمت اقتراب الحرب العالمية الثانية. وضعت الخريطة أمامها لترى المكان الأكثر أمنا في العالم من الحرب القادمة. اختاروا جزيرة صغيرة في المحيط الهادئ. نجوا برؤوسهم، لكن خلال الحرب دخل اليابانيون وصاروا يقصفون حتى تلك الجزر الصغيرة، وسجنوا العائلة حتى نهاية الحرب». رغم الإلحاح بتكرار السؤال، لكنه يردد: «الاختيار صعب، فأنت لا تعرف ما الذي سيحدث غداً».
تتغير بلغراد لكن فخامة وسطها القديم يبقى عنوانه «فندق موسكو». كان استثماراً ضخماً عندما افتتحته الامبرطورية الروسية قبل أكثر من قرن. لا يزال يذكر بتاريخ حلفاء يقفون أمام اختبار يمليه صراع اليوم، وربما يجعل نقلات الشطرنج المسترخية محض رفاهية.