العدوان على غزة: نتنياهو في مأزق وكيري يجهد لإنقاذه

العدوان على غزة: نتنياهو في مأزق وكيري يجهد لإنقاذه

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٦ يوليو ٢٠١٤

نجحت المقاومة الفلسطينية، بكافة تشكيلاتها، في استراتيجيتها لاستدراج جيش الاحتلال الصهيوني إلى حرب برية وفق قوانين "حرب العصابات"، وكبدته خسائر بشرية ومادية لا يستهان بها، سيما عند الاخذ بالحسبان أن جيش الاحتلال دفع بأفضل قوات النخبة لدية، لواء غولاني للقوات الخاصة. وفرضت عليه التراجع مكرهاً عن غطرسته المعهودة والاعلان عن خسارته 34 عسكرياً (والرقم في ازدياد متسارع)، فضلاً عن إقراره بباكورة انجاز المقاومة وتدميرها عدد من أحدث مدرعاته، الميركافا، والأبرز أسر أحد جنوده كما وعدته المقاومة قبيل العدوان، وإرباك حركة الملاحة الجوية من وإلى مطار اللد.
التحقق من حجم الخسائر البشرية في جانب جيش الاحتلال سابق لأوانه، مع دخول العدوان يومه الثامن عشر، مع الإشارة إلى أن مصادر المقاومة تؤكد مقتل ما لا يقل عن 80 جندياً ونحو 360 آخرين جرحى في الحد الأدنى، قيل إنها الأكبر في خسارته اليومية العسكرية ميدانياً منذ حرب تشرين 1973.
الخسائر البشرية بين الشعب الفلسطيني هائلة بكل المقاييس نظراً لأن العدو الإسرائيلي يدرك أن المدنيين هم الخاصرة الرخوة في المسيرة الشاملة لحرب التحرير. لكن عزم الشعب الفلسطيني، بقواه ومؤيديه، على المضي في التصدي للعدوان يدفعه للقول إن ضحاياه هم جزء من ضريبة التحرير ويتمنى نيل الشهادة.
عند كل مواجهة حقيقية مع جيش الاحتلال، منذ تحرير الجنوب اللبناني في أيار 2000 وامتداداً لسلسلة المواجهات المتعددة، يلاحظ مبادرة قيادته السياسية والعسكرية السعي للتوصل لوقف اطلاق النار، خلافاً لمواجهاته السابقة التي كان العرب هم الطرف الذي يستجدي وقف العدوان، يجري طلبه تارة بوساطة عربية وتارة بدخول أطراف دولية أخرى وهذه المرة سينتهي به الأمر إلى التسليم بالعناصر الأساسية لشروط المقاومة، وأهمها فك الحصار بشكل فوري ونهائي.
وضع الجبهة الداخلية عند العدو الصهيوني لا يطمئن مؤيديه، قياساً على ما اعتاد عليه من صلف وغرور واستهانة بالعرب. إذ سريعاً ما اعلن عدد من الجنود والطيارين امتناعهم عن الخدمة والمشاركة في هذا العدوان، بعضهم قدم للمحاكمات العسكرية، وهم من تربى على عقيدة عسكرية ترمي لحسم سريع للمعركة الأمر الذي أخفق فيه، وتتصاعد الاصابات البشرية بين صفوفه. ويدرك جمهور المستعمرين حجم الاصابات التي تلقاها في مؤسساته ومنشآته، ولم تسلم من التهديد منشآته النووية كرسالة سياسية غير مسبوقة. ومما فاقم المأزق عند قادة الكيان استهتار المؤسسة العسكرية بمصير الجندي الأسير لدى المقاومة الفلسطينية، برفضه الاعتراف بذلك في بداية بالأمر ومن ثم الإقرار بأنه مفقود إلى أن تلقى صفعة معنوية من ذوي الأسير الذين أقروا بوقوعه في قبضة المقاومة.
ومن شأن جملة العوامل التي وردت أعلاه الإسهام في تنامي قلق جمهور المستعمِرين من مستقبل ومصير المواجهة الراهنة، والضغط على "بقرته المقدسة" في المؤسسة العسكرية بوقف العدوان حتى يتسنى له العودة لممارسة حياته الطبيعة بدلاً من المكوث في الملاجىء ونزوح عدد لا بأس به من مستعمريه في منطقة النقب إلى مناطق أخرى، وتقطع سبل العودة للذين قصدوا السياحة خارج فلسطين المحتلة.

مناورات مغلفة بهدنة إنسانية
في المستوى الدولي، إستجابت إدارة الرئيس أوباما لاستجداءات قادة الكيان من سياسيين وعسكريين، وباشرت منذ اليوم السادس عشر للعدوان إلى "إعادة صياغة المبادرة المصرية ومعالجة البعد الاقتصادي في غزة شريطة وقف إطلاق الصواريخ"، وسارعت بإرسال وزير الخارجية جون كيري للمنطقة سعياً للتوصل لوقف اطلاق النار. تعثرت المساعي السياسية على الفور برفض قوى المقاومة شروط الاستسلام المطروحة، والاصرار الجمعي على فك شامل للحصار وفتح المعابر توطئة لأي جهد وساطة.
وعليه، جل المشروع الاميركي في هذا الصدد ينصب على انتزاع موافقة قوى المقاومة لوقف إطلاق النار، أوضحه وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي المشترك مع وزير خارجية مصر، ويستند إلى عاملين: وقف إطلاق النار لدوافع إنسانية تمتد من 5 إلى 7 أيام، يليها عقد لقاءات منفصلة بين الجانبين في مصر لمناقشة المطالب الأخرى خلال 48 ساعة.

الآلة العسكرية تستمر بالتدمير
زجت اسرائيل بحوالي 5 ألوية قتالية في عدوانها على قطاع غزة، معززة بغارات سلاح الطيران وقصف مدفعي من البوارج الحربية في عرض البحر، وطواقم أسلحة المدرعات والهندسة المنوطة بمهمة تحديد وتدمير الأنفاق. واجهت قوى العدوان مقاومة شرسة مدروسة وفق أسس عسكرية يغلب عليها طابع الاحتراف، وأوقعت ولا تزال خسائر بشرية مباشرة بين صفوفه، ودفعته للمراوحة في الحيز الجغرافي المفتوح في محيط القطاع وابطاء حركة طواقم قوات الهندسة في التقدم ولجوئها لتدمير المباني السكنية تميهداً لتقدم قوات المشاة.
العربات المدرعة باتت أحد الأهداف المفضلة لقوى المقاومة، سيما ما يستخدمه جيش الاحتلال من نماذج عربات قديمة لنقل الجنود هي من صنع اميركي، طراز M-113، التي فتك بها ثوار فييتنام في عقد الستينيات من القرن المنصرم. هيكل العربة مكون من مادة الالومنيوم لخفة استخدامها في الانزالات الجوية وباستطاعتها مقاومة ذخيرة الأسلحة الخفيفة، لا تصلح لقتال حرب الشوارع ولا تستطيع الصمود أمام القذائف الصاروخية أو الأسلحة المضادة للمدرعات.
لفتت وسائل الإعلام الأميركية أنظار الجمهور إلى حصيلة مواجهة قتال الشوارع التي دارت رحاها في غزة مع المقاومة الفلسطينية بعد إصابة إحدى عرباته المدرعة إصابة مباشرة بقذيفة مضادة للدروع ادت لمقتل 7 جنود صهاينة كانوا على متنها لشن العدوان، اثنين من جنودها كانوا من حملة مزدوجي الجنسية "الاميركية الاسرائيلية." ويشار إلى أن حدثاً شبيهاً جرى في قطاع غزة عام 2004 تم فيه تدمير عربات مدرعة لنقل الجند اسفر عن مقتل 11 جندياً صهيونياً دفعة واحدة.
جدير بالذكر أن طبيعة الإصابات التي استهدفت العربة M-113 جاءت من اتجاهات متعددة، من الخلف والجوانب، مما يؤشر على قدرة رجال المقاومة نصب طوق ناري حول عدد من الوحدات الصهيونية الغازية.
وأولى نتائج تدمير عربة الجند المدرعة تجسدت في رفض نحو 30 عنصراً من جنود الاحتياط الصهاينة اعتلاء عربة M-113 ان كانت وجهة سيرها نحو غزة، مما حدا بقادته العسكريين اخراج كافة نماذج تلك العربة من ساحات القتال عاجلاً. وعلق قائد الجبهة الجنوبية لجيش الاحتلال، سامي ترجمان، قائلاً ان جيشه "كان على علم بالثغرات التقنية في عربة M-113 لكنه لم يحصل على الموارد اللازمة لتوفير حماية تامة لكل جندي ينخرط في قتال غزة". وتتالت في اعقاب ذلك طلبات وتوسلات المؤسسة العسكرية لتخصيص الحكومة مزيد من الموارد المالية الإضافية لشراء عربات قتالية أحدث.
بعد خروج عربات مدرعة ناقلة للجند من أرض القتال عمد قادة جيش الاحتلال إلى تعويض مفعولها بتكثيف اشد للغارات الجوية والقصف المدفعي والبحري باستهداف منازل المدنيين واتساع الرقعة لتشمل أحياء سكنية بأكملها، ورمي الحمم النارية على المشردين مما يفسر ارتفاع هائل في عدد الشهداء والجرحى بلغت نحو 6500 مدني، مع بدء اليوم التاسع عشر للعدوان، ومحاصرة بلدة خزاعة بعد ارتكاب سلسلة مجازر فيها.
بيد ان قوات الاحتلال لم تستطع التقدم او التوغل داخل حدود قطاع غزة بالرغم من الكتلة النارية الهائلة وتسخير الموارد البرية والجوية والاقمار الاصطناعية لتيسير تقدم مخططاتها المتعثرة، واستغلال قوات المقاومة مناطق التدمير والانقاض كدروع حامية لاستمرار الاشتباك مع الوحدات الغازية. واكتشف قادة العدو ضراوة المقاومة وابتكارها اساليب متجددة واضطر للاقرار بفعالية شبكة الانفاق وصعوبة اكتشافها وتدميرها.
احد الصحافيين الصهاينة تندر بتلك الشبكة قائلا ان "غزة استطاعت التمدد ببناء طابق تحت الارض انها غزة السفلى"، وشبهتها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية بأنها "كشبكة مترو انفاق تحت الأرض تربط شبكة أخرى من منشآت تصنيع الأسلحة وممرات أسفل الحدود البرية مع اسرائيل على بعد حوالي 2 ميل". زعم قادة الكيان العسكريين انهم تعرفوا على 10 فتحات انفاق فقط في حي الشجاعية.
صعوبات التقدم الميداني الناجمة عن وجود شبكة الانفاق فرضت على قادة اسرائيل اعادة النظر باساليبهم الراهنة لاكتشاف الانفاق. واوضحت صحيفة "تليغراف" البريطانية ان "نخبة من القوات الخاصة من وحدة تلبيوت (حي تل البيوت في القدس المحتلة) عكفت على تطوير نظم لاستشعار الانفاق، بلغت كلفتها نحو 59 مليون دولار، واجرت تجارب عملية عليها" في تل الربيع. واستدركت ان "النظام فائق التطور يستخدم مجسات خاصة واجهزة ارسال لا يزال في طور الابحاث والتطوير، وان نجحت كافة التجارب فبالامكان دخوله الخدمة خلال عام من الزمن".
من بين المؤسسات الاسرائيلية العاملة في هذا المجال، برزت شركة "ماغنا" التي تصنِّع اجهزة مراقبة يجري نشرها على الحدود مع مصر، وكذلك تزود بها المنشآت النووية اليابانية. وحثت الشركة قادة الكيان على حفر نفق بطول 70 كلم على امتداد الحدود مع غزة مزود بنظام انذار حساس من شأنه "توفير إخطارات أولية لأي نشاطات حفر تتقاطع مع النفق، إن كان أسفله أو أعلاه".

ردود الفعل الأميركية
أصدرت قوى المقاومة مذكرة تحذير لحركة الطيران المدني الدولية المتجهة من والى مطار اللد، منذ بدء المواجهة دشنتها بقصف عاصمة الكيان الصهيوني، تل الربيع، بعدة صواريخ. في مرحلة لاحقة من اشتداد العدوان اطلقت صاروخاً وقع على بعد مسافة قريبة من محيط المطار مما دفع بهيئة الطيران الفيدرالية الأميركية إصدار اخطار عاجل لشركات الطيران الاميركية المسيرة لرحلات مباشرة الى مطار اللد بتدهور الاوضاع الأمنية، واقتداء معظم شركات الطيران الاوروبية بالمثل؛ بيد ان الرحلات المتجهة من عدة مطارات عربية، عمان والقاهرة والدوحة، الى مطار اللد لم تطبق اجراءات السلامة المقترحة. يشار في هذا الصدد إلى أن بعض الشركات الاميركية طبقت اجراءات احترازية بعدم الوصول لمطار اللد قبل اصدار هيئة حماية سلامة الطيران إنذارها.
على الفور تحرك نتنياهو حاثا ذراع اسرائيل المتمثل بمنظمة "ايباك" ممارسة نفوذها والتدخل العاجل لإلغاء قرار هيئة الطيران المدني نظراً لما يمثله من مخاطر سياسية واقتصادية ومعنوية على بنية الكيان بأكمله. الرئيس الأميركي اوباما ليس في عجلة من أمره لاثارة مسألة الغارات الجوية مع نتنياهو لادراكه أن الأخير يتكيف مع سياسته في الاغتيالات بطائرات الدرونز، التي لا تزال تحصد الأرواح البريئة؛ في آخر حصيلة لها اغتالت 26 مدنياً في باكستان في غضون أيام معدودة.
"استخدام القوة المفرطة" اصبح اتهاماً بدون معنى توجهه واشنطن نحو خصومها، وتطبقه بحذافيره الى جانب حليفتها اسرائيل بتكرار الإغارة على ذات المواقع الآهلة بالسكان المدنيين لإيقاع أكبر عدد من الاصابات بينهم. ولم تصمد الادارة طويلاً أمام المطالب بضرورة انتقادها لانتهاكات اسرائيل نظراً لإدراكها أنها تنفذ أسلوب الاغتيالات الخسيس عينه في مناطق متفرقة من العالم.
تراكم كلفة العدوان الاسرائيلي على غزة حفز قادة الكيان على طلب مساعدات مالية عاجلة بقيمة 225 مليون دولار، اضافة لمبلغ 621 مليون دولار صادق عليها مجلس الشيوخ يوم 17 تموز الجاري؛ ويبدو أنها الصيغة المضمرة لتسديد نفقات العدوان من قبل الوسيط النزيه".
وفي مستوى الحركة السياسية، افلحت جهود وزير الخارجية جون كيري بإعادة تغليف عناصر المبادرة المصرية، وعقد مؤتمراً صحفياً في القاهرة بمشاركة وزير الخارجية المصري سامح شكري، قدم فيه عرضاً بوقف اطلاق النار بدءاً من الساعة 7:00 صباح يوم السبت، لمدة 12 ساعة نزولاً عند طلب هدنة انسانية. والحقه ببند إضافي يقضي بعقد اجتماع دولي في باريس لبحث تفاصيل وقف غطلاق النار.
فور انفضاض المؤتمر الصحفي المشار إليه ابلغ بنيامين نتنياهو لكيري "موافقته،" ومعارضة طاقم حكومته، لا سيما كتلة وزرائه الموصوفون بالمتطرفين والتي تسعى لاعلاء الحل العسكري واعادة احتلال قطاع غزة. وهذا يعزز ما ورد سابقا بأن العدو الصهيوني درج على استجداء طلب وقف اطلاق النار في كل مواجهة منذ اندحاره عن الجنوب اللبناني، ويكرره الآن في قطاع غزة مما يلفت النظر لفشل مخططاته في انزال ضربة قاصمة بالمقاومة الفلسطينية. الاوساط السياسية الصهيونية وصفت المقاومة الفلسطينية بأنها "غير معنية بالامتثال لوقف اطلاق النار" كونها تحقق نجاحات ميدانية، وان مديات "صواريخها يصل الى عمّان"، أي أبعد مدى من مدينة طبريا. تريثت قوى المقاومة قليلاً قبل أن تعلن موافقتها على "هدنة 12 ساعة برعاية هيئة الأمم المتحدة".
اجتماع باريس الشكلي ستحضره الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا وقطر وتركيا، وستغيب عنه مصر صاحبة المبادرة. اعلان كيري من القاهرة جاء بمثابة التفاف على "المبادرة المصرية،" رغم اقتادئه بعناصرها، وتحجيم دور مصر إقليمياً عبر استبعادها واستبعاد المقاومة الفلسطينية – هدف المبادرة والاجتماع.
من ضمن ما تؤشر عليه حركة كيري، ولعله الأهم في كافة محطات جولته، هو تيقن الولايات المتحدة من عدم قدرة اسرائيل على تحقيق أهدافهما الاقليمية – تحجيم والقضاء على المقاومة – وان قوتها التدميرية لا تحقق النصر المنشود بل تراكم الضحايا والقنابل الموقوتة المعادية لسياستها. وربما فقدت اميركا الثقة بوكيلتها واسرعت وتيرة حركتها "لانجاز ما عجزت عن تحقيقه اسرائيل عسكريا" قبل فوات الاوان، سيما لانشغالها في ملفات أخرى ملتهبة، وإعادة الاعتبار لمسار المفاوضات الذي ما يلبث أن ينطلق إلا وسرعان ما يتعثر ويتراجع.