كاتدرائية نوتر دام متّشحة بالسواد: إنه «أسبوع الآلام»!

كاتدرائية نوتر دام متّشحة بالسواد: إنه «أسبوع الآلام»!

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ١٧ أبريل ٢٠١٩

ليس زمن الأعاجيب في فرنسا التي تواجه في عهد إيمانويل ماكرون أصعب أيامها منذ عقود طويلة، ولم يكن ينقصها إلا تلك الكارثة الحضارية: أن تقضي النيران، مساء الاثنين، على جزء مهم من كاتدرائية نوتر دام في قلب العاصمة، وأن يتفرّج العالم أجمع، مذهولاً وعاجزاً، لساعات طويلة بدت دهراً، على ألسنة النيران تبتلع قبّتها الأسطورية، لأسباب لا تزال مجهولة. «سيدة باريس»، من أشهر معالم الفن القوطي في فرنسا والعالم، تختصر ـــ بالنسبة إلى التراث الروحي المسيحي طبعاً، الكاثوليكي تحديداً، إنما أيضاً عمرانياً، وثقافياً، وحضارياً، وسياسياً ومعنوياً ووطنياً ـــ روح فرنسا وعزّتها. عَبَرت الحروب والثورات بسلام، لتكون الشاهدة الأبرز على الحقبات الكبرى في تاريخ فرنسا، خلال ألف عام تقريباً. الكاتب الشهير، فيكتور هوغو، انتزعها من الإكليروس، ليمنحها للشعب، في روايته الخالدة «أحدب نوتردام». أكثر من معلم ديني، إنها قبلة العالم، ورمز الأمة الفرنسية، وأحد أقانيم هويتها الوطنية. لذلك، ربما، وتحت وطأة الأزمات الاقتصادية والانهيارات السياسية التي يشهدها موطن فولتير، فإن بعض الانعزاليين البيض، والأصوليين المذعورين، ذهبوا بعيداً، إذ رأوا في تهاوي سهم الكاتدرائية الشهير الذي أعاد تشييده المعمار فيوليه لودوك في عام 1860، رمزاً لانهيار فرنسا، أو أكثر من ذلك: «أفول الغرب المسيحي»! في الحقيقة، الكارثة التي ضربت هذا الصرح العريق صدمت سكان المعمورة، وأثارت تعاطف العالم أجمع، وبالأخص تعاطف أهل هذا الجزء المنكوب من العالم، أولئك الذين يتفرّجون منذ سنوات على انهيار مدنهم التاريخية وصروحهم الحضارية، من آثار تدمر إلى «سيدة أم الزنار» في حمص، إحدى أقدم الكنائس المسيحية في العالم، وسط لامبالاة الديموقراطيات الغربية التي فتحت علينا، بجشعها الاستعماري، أبواب جهنم. في باريس، أُخمد الحريق، وجرى تفادي الأسوأ، وبقي الذهول. بدأ الآن زمن إحصاء الخسائر، والبحث عن الأسباب، والحداد الممزوج بحنين إلى الأزمنة السعيدة.
«كل العيون ارتفعت إلى قمة الكنيسة. كل ما تراه كان استثنائياً. في الجزء الأعلى لهب كبير يرتفع بين البرجين مع زوبعة من الشرر، لهب كبير فوضوي وغاضب». إنه الوصف الذي أطلقه فيكتور هوغو على كاتدرائية نوتر دام دو باري في روايته الشهيرة، «أحدب نوتردام»، التي نُشرت في عام 1831، والتي أعاد الفرنسيون، بناءً عليها، اكتشاف المعلم القوطي الأبرز، «رمز توحيد البلاد»، بحسب ما تقول المؤرخة آن ــ ماري تييس، مديرة الأبحاث في «المركز الوطني للبحث العلمي»، لصحيفة «لو موند».
أول من أمس، انهار قلب باريس. تحول هذا الجزء من الرواية إلى حقيقة. تصاعدت سحابة الدخان الأسود فوق سطوح نوتر دام. الشعور الكبير بالخسارة أمام ألسنة اللهب التي كانت تلتهم المبنى القوطي ذا التماثيل الهائلة، لن تعوّضه دموع المارة والمصلين، ولن تبدّده مرثيات ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ربما تساعد التبرعات التي توالت بمئات الملايين في ترميم قد يمتد لسنوات أو حتى عقود، وفق ما أشار الخبراء.
إنها المعلم الشامخ الذي بدأ بناؤه في القرون الوسطى، والمحفور في قلب الباريسيين وذاكرتهم وعواطفهم، والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخهم. هو المكان الذي تُوّج فيه نابليون إمبراطوراً للفرنسيين، وأقيمت داخله جنازات لرؤساء مثل شارل ديغول وجورج بومبيدو وفرانسوا ميتران، ولضحايا هجمات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. هناك أيضاً، قُرع الجرس وأُقيم قدّاس بعد تحرير باريس من نير النازية في 26 آب/ أغسطس 1944، احتفالاً بما يمكن أن يكون اللحظة الأكثر أهمية في تاريخ فرنسا المعاصر.
بكلّ بساطة، إنها المركز الذي توسّعت منه باريس، والرمز الأوروبي الذي سيتخطّى النيران، كما قاوم الكثير من الكوارث على مرّ القرون، من الثورة الفرنسية إلى كومونة باريس في عام 1871 وغيرها من الأحداث.
بدأ بناء الكتدرائية في القرن الثاني عشر على النمط القوطي، وانتهى في القرن الثامن عشر لتتحوّل إلى واحد من أقوى الرموز، ليس فقط بالنسبة إلى فرنسا، ولكن لأوروبا ككل. أما الواجهة ببرجَيها التوأمين، فقد بناها في القرن التاسع عشر المهندس المعماري أوجين فيولي ــ لو ــ دوك، الذي كرّس حياته لتجديد آثار القرون الوسطى. مع الوقت، باتت كل هذه العناصر أكثر بكثير من مجرّد نصب من الحجر والخشب، «إنها بنية وهمية حقيقية، تماماً مثل تلك المادية»، على حدّ تعبير صحيفة «إل بايس» الإسبانية.
عام 1832، كتب جيرار دو نيرفال في قصيدة «نوتر دام دو باري»: «نوتر دام قديمة للغاية: قد نراها تدفن برغم ذلك باريس التي شهدت ولادتها». وقبل ذلك بعام، كرّس لها فيكتور هوغو روايته، لتشكل الكاتدرائية شخصية كاملة بين كازيمودو قارع الجرس الأحدب، وإزميرالدا الفاتنة الغجرية، والكاهن فرولو. وفيما يتهدّد المبنى مشروعُ هدم بسبب الحالة السيئة، تشكل الرواية صدى شبيهاً بدعوة من الكاتب الشاعر، إلى ضمير الأمة، من أجل ترميمها.
بعد الأدب، استحوذت السينما بدورها على هذا «المعلم» الذي يستحق أكثر من أي معلم آخر هذا المصطلح. ففي عام 1956، جعل منه المخرج الفرنسي جان ديلانوي عنوان فيلم روائي طويل مع أنطوني كوين، في دور كازيمودو المفتون بمزايا جينا لولوبريجيدا في دور إزميرالدا. وأخيراً، وفي ما يشير إلى الامتداد العالمي للكاتدرائية، حتى استديوهات «والت ديزني» وضعتها في قلب رسوماتها الكرتونية، «أحدب نوتردام» (1996)، أو المسرحية الغنائية التي تحمل الاسم نفسه وكتبها الكندي لوك بلاموندون، الظاهرة الحقيقية في العالم الناطق بالفرنسية في عام 1998.
«إنها ذاكرة باريس، إنها سفينة من حجر اجتازت التاريخ»، بحسب المؤرخ فابريس دي ألميدا على قناة «فرانس 2». كذلك، إنها «روح الأمة الفرنسية التي اختفت، إنها حتى نبض قلب باريس وفرنسا المتأثرين اليوم» وفق ستيفان بيرن، مؤرخ القرون الوسطى والمدافع القوي عن التراث.
بناءً على كل ما تقدّم، كانت الصدمة كبيرة. فجميع طرق فرنسا تمرّ تحت أقواس نوتر دام، كما «كل ذكريات الأمة وأحلامها وانكساراتها». وبناءً عليه أيضاً، كان لا بدّ من تخطّي الصدمة والانتقال إلى العمل، الذي تمثّل ببدء تحقيقات قد تكون طويلة ودقيقة، قبل أن يجري التوصل إلى ظروف انطلاق الحريق. مع ذلك، يبدو الواضح إلى الآن، وفق عناصر التحقيق الأولية، أن النيران انطلقت من علية الكاتدرائية، المكان الذي من الصعب الوصول إليه، والذي كان محاطاً بالسقّالات وسط مشروع تجديد واسع بدأ في عام 2018.
وما هو واضح، أيضاً، الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها الكاتدرائية. فقد فُقدت نجارة البلّوط، الملقّبة بـ«الغابة»، والتي تعدّ جوهرة من العصور الوسطى. الإطار الضخم، الذي أقيم في عام 1220، تألّف من مجموعة من الحِزم كل واحدة منها من شجرة مختلفة. وهو يحتاج اليوم إلى نحو 21 هيكتاراً من الغابات لإعادة بنائه. كذلك، فُقد السهم، وهو نوع من الأبراج الذي يرتفع في وسط الكاتدرائية، ويعلو نحو 93 متراً عن الأرض. أقيم هناك في عام 1859، لمناسبة إعادة الترميم التي قادها فيوليه لو دوك. وعلى قاعدته، تقف تماثيل نحاسية ضخمة لاثني عشر رسولاً، وللإنجيليين الأربعة. أدى الحريق إلى ذوبان كامل للسهم. لكن التماثيل تمكنت من الخلاص، ذلك أنها كانت قد أزيلت من مكانها الأسبوع الماضي من أجل إعادة ترميمها.
ما يواسي المهتمّين والخبراء أن الهيكل والواجهة والأبراج قد نجت. كذلك، نجا قميص القديس لويس وتاج الشوك، الذي يعدّ أثمن الموجودات في الكاتدرائية. إنه التاج الذي وُضع على رأس يسوع المسيح قبل صلبه، وفق الاعتقاد الكاثوليكي. وهو محفوظ هناك منذ عام 1896 في أنبوب من الكريستال والذهب.
 
 
700 مليون يورو تبرّعات لإعادة البناء
وصلت التبرعات من الشركات والعائلات الثرية الفرنسية للمساعدة في إعادة بناء كاتدرائية نوتردام، إلى 600 مليون يورو (680 مليون دولار). وجاءت أحدث التبرعات الكبرى من شركة منتجات التجميل العملاقة «لوريال» وعائلة بيتانكورت المؤسسة لها، التي تبرّعت بـ200 مليون يورو. وقدمت مجموعة «كيرنغ» الفرنسية للسلع الفاخرة، التي تضم علامات تجارية بينها «إيف سان لوران» و«غوتشي»، أول تبرع في وقت متأخر أول من أمس، مقداره 100 مليون يورو (113 مليون دولار). وأعقب ذلك تعهّد بالتبرع بـ200 مليون يورو من منافستها «ال في ام اتش» وعائلة مؤسسها برنارد ارنو. كذلك، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «توتال» الفرنسية العملاقة للنفط تبرعاً بقيمة 100 مليون يورو.
ومن بين المتبرّعين الآخرين المستثمر مارك لادريه لاشاريار، الذي تعهّد بدفع 10 ملايين يورو، وشركة «مارتن اند اوليفييه بوغ» للعقارات.
وتدفقت التبرعات من متبرّعين مجهولين ومنظمات من بينها «مؤسسة التراث الفرنسي» الخاصة، التي قالت إنها حصلت على تبرعات بقيمة 1,6 مليون يورو. من جهتها، أعلنت رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو، أن المدينة ستخصص 50 مليون يورو، واقترحت عقد مؤتمر دولي للمانحين، خلال الأسابيع المقبلة، لتنسيق التعهدات لإعادة بناء الكاتدرائية.
ومن المتوقع أن تحتاج إعادة بناء الكاتدرائية إلى خبراء ومواد نادرة. وقد صرح رئيس شركة الخشب الفرنسية بأنه سيحاول جمع 1300 عمود من خشب البلوط، ستكون ضرورية باعتقاده لإعادة بناء دعامات السقف الذي دُمّر، والمعروف باسم «الغابة».