ترامب في الزمن الصعب.. أميركا ما عادت حسناء

ترامب في الزمن الصعب.. أميركا ما عادت حسناء

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٩ فبراير ٢٠١٩

عوامل الوهن في الجسد الأميركي تعززها شروخ اجتماعية آخذة بالاتساع. يقود ترامب امبراطورية تتنازعها رؤيتان للكون وتنازعها على زعامة العالم قوى صاعدة. متغيرات متسارعة في عالم متحول. من الطلقةِ الأولى إلى القذيفةِ الكبرى، كيف صعدت "الترامبية" وكيف انعكست رؤيتها على السياسة الخارجية للدولة وعلى منطقتنا؟ كيف ارتدّت أميركا على العولمة؟ ولماذا لم ينجح ترامب في استمالة روسيا؟ ماذا عن "سوريا المُفيدة" في صراع الأقطاب؟ قراءة مستمدة من مقابلة مع الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية الدكتور كمال خلف الطويل وتعكس آراءه ضمن ملف "عالم مضطرب".
 
تتنازع الولايات المتحدة اليوم رؤيتان مُتباينتان للكون. تعبّر إحداهما عن الحال "الترامبية". الأخرى نابِعة من أوساط الدولة العميقة بمؤسّساتها الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية. على صعيد العلاقات الدولية يفضّل دونالد ترامب ألا يعتبر أياً من القوى الرئيسة المُنافِسة لأميركا مسألة ثابتة وراسِخة. بالنسبة إليه كلُّ من روسيا والصين يمثل مشكلة. لكن في مقياس الأكثر خطورة، بكين تأتي أولاً.
 
يرى مُنظّرو اليمين الشعبوي القومي أنه يتعيَّن تكرار ما فعله هنري كيسنجر أوائل سبعينات القرن الماضي. وقتها قام وزير الخارجية الأميركي السابق والمُخضَرم بالانفتاح على الصين وجَذْبها إليه مكرّساً ابتعادها عن روسيا بمسافات ضوئية. بنظر تيار ترامب ينبغي القيام بالعكس هذه المرة. بدل جَذْب الصين التي كانت الطرف الأضعف حينها، ينبغي استمالة روسيا اليوم بُغية إبعادها عن بكين. بالنسبة إلى دولة الأمن القومي تُعدّ هذه الرؤية بمثابة كُفرٍ بوّاح. هرطقة لا تحتمل المزاح.
 
التبايُن بين الرؤيتين ينسحب أيضاً على بعض القضايا الساخِنة في العالم. الاتفاق النووي مع إيران مِثال حيّ على ذلك. دولة الأمن القومي المُخضرَمة في التعامُل مع مثل هذه القضايا رأت فيه ضرورة لمُعالجة مسألة طارئة هي الجهادية السلفية في العراق وسوريا. جسّد الاتفاق حاجة أميركية لنوعٍ من التهدئة مع طهران. ربما نوع من التوازي في العمل على المسرح المُهدّد لكلٍ منهما.
 
كانت الخطوة ضرورية أيضاً لحرمان الصين من امتداد غرب آسيوي سيما بعد انتهاج إدارة أوباما مبدأ الاتجاه شرقاُ (التفرّغ لمواجهة الصين).
 
ترامب وتياره لا يريان أية مشتركات مُمكنة مع الإيرانيين. سببان أساسيان وراء ذلك. تُمثّل إيران بنظرهما امتداداً غرب آسيوي للصين (وليس حاجزاً لها) ووصلة هامة على "طريق الحرير". هي تُمثّل أيضاً خطراً شرق المتوسّط لا مجال للتعايُش معه.
من الطلقةِ الأولى إلى القذيفةِ الكبرى
 
في إطار التبايُن بين الرؤيتين الأميركيتين يصعب الفصل بين السياسة الخارجية والمنهجية الاقتصادية. يتّجه ترامب إلى مزيدٍ من الشَحن الذي يُغذِّي عوامل الوَهْن في الجسد الأميركي. هو لا يقصد ذلك بالضرورة. التناقُضات والتيارات المُتماوِجة داخل الدولة الأميركية ليست وليدة هذه المرحلة. التيار الشعبوي القومي ليس جنيناً شائهاً أو غلطة تاريخية. 
 
ما إن وصلنا إلى الهزيع الأخير من عهد باراك أوباما حتى بدأت الشروخ تتجذَّر داخل المجتمع الأميركي. بدأت الفروقات تصبح جليّة ما بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية. الأولى إجمالاً أكثر التصاقاً بالمناخ الليبرالي المُندرِج في مسالك العولمة. أما الأرياف الأقل حضريّة فيغلب عليها المجتمع الأبيض الأقل ثراء والأكثر توثّباً للاعتراض على مسار العولمة.
 
ثمّة صيرورة لهذا الواقع، بدأت تتطوَّر منذ عهد رونالد ريغن وطَفْت مظاهرها اليوم على السطح. مثّلت مرحلة ريغن الطلقة الأولى، لكن القذيفة الكبرى جاءت من رَحْم الأزمة المالية التي ضربت أميركا بين عامي 2008 و2009 ثم اجتاحت العالم. أصبحت هذه التبايُنات أكثر جلاء اليوم. بتنا نرى بوضوح تعبيراتها الثقافية والدينية والاقتصادية والهويّاتية داخل البنى المجتمعية. من هذا المُنطلق نجح ترامب في التعبير عن حالة اجتماعيةٍ مُتناميةٍ في حين فشل غيره.
 
كيف ارتدّت أميركا على العولمة؟
الصعود القوموي الشعبوي الذي يمثله ترامب ناقِم باختصار على العولمة وتجليّاتها في المجتمع الأميركي. يرى هذا التيار أن العولمة كما عُرِفَت منذ فترة نشوئها أواسط التسعينات إلى حين تمكّنها من ناصية العلاقات الدولية لم تعد مُجدية كما بدت في بداياتها. أصبحت وبالاً على المجتمع الأميركي وعلى جهاز العمل والإنتاج فيه. بفعل العولمة كثير من الصناعات الأميركية تّم ترحيلها إلى خارج البلاد حيث الكلف أقل. داخلياً نمت الرأسمالية المالية فيما تراجعت الرأسمالية الإنتاجية. خلّف هذا الوضع الكثير من العاطلين عن العمل. الشركات المُستفيدة من العولمة اليوم تجد نفسها مُصطَّفة إلى جانب دولة الأمن القومي في مواجهة "الترامبية". هذا الموضوع ينسحب على الحزبين ولا يتعلّق حصراً بالحزب الجمهوري.
 
الصعود الترامبي الذي يمثل اليمين الشعبوي القومي يقابله أيضاً صعود تيار يساري شعبوي قومي. يتقاطع التياران في مساحةٍ ضيّقةٍ رغم انفصالهما في معظم القضايا. الموضوع الهويّاتي الثقافوي أصبح عاملاً مُقرّباً بغضّ النظر عن مدى التشابُك في الموضوع الاقتصادي. هذا يُحيلنا على العولمة الثقافية. عهد بيل كلينتون طغت عليه فكرة التعدّدية الثقافية. مُنظَّرو هذا الاتجاه اعتبروا أنه آن الأوان لفرن الصَهْر الأميركي أن يستوعب برحابة إفساح المجال أمام الأعراق والإثنيات والألوان للتعبير عن ثقافاتها ضمن إطار اللوحة الأوسع. بالنسبة إلى الشعبويين القوميين هذا مفهوم عدائي  يُعرِّض الأمن القومي الثقافي للخطر.
 
روسيا بالمرصاد.. قوّة الإعاقة
حاول ترامب استمالة روسيا. راهنَ على اجتذابها إلى شراكةٍ ولو من موقعٍ رديفٍ في قيادة العالم. اعتقد أن إغراءها بمنفعةٍ من هذا النوع سيجعلها تُعيد النظر بعلاقتها الوثيقة مع الصين.
 
خلال قمّة هلسنكي التي جمعت رئيسيّ الولايات المتحدة وروسيا صيف العام الماضي اكتشف ترامب أن بوتين بعيد من التفريط ببوليصة التأمين الصينية. بالنسبة إلى الروسي الصين حليف مُحتَمل يمكن أن يُصلّب معه جبهة أوراسية بمواجهة أيّ ظرف عصيب وبمعزل عمن يحكم واشنطن.
 
في إطار العلاقة المُثلّثة بين أميركا والصين روسيا لدى ترامب رغبة أكيدة بأن تكون هذه العلاقة متساوية الأضلاع بحيث لا يكون ضلع الصين مع روسيا أقصر من ضلع الولايات المتحدة مع الصين أو مع روسيا.
 
تحكم روسيا نُخبة غير مُتجانِسة الهوى. الكتلة الأقوى والأساسية فيها هي دولة الأمن القومي وعلى رأسها فلاديمير بوتين. إلى جانبها كتلة وازِنة لكن أقل حجماً وتأثيراً وهي تضمّ "الأطالسة".
 
الطرفان يُريدان شراكة ندّية مع الولايات المتحدة في قيادة العالم لكن كل منهما وفق أسلوب مختلف. دولة الأمن القومي تريد ذلك بنديّة كاملة وبشروطها. الأخرى تسعى إلى تجنّب الاحتراب والتنابُذ ولا تريد إغضاب الولايات المتحدة والأوروبيين. تجلّى هذا الأسلوب المُتساهِل والليّن في ليبيا. ديميتري مدفيدف أحد رموز الأطلسية تجرّع مرارة مُسايَرة الغرب في هذا الملف ونَدِمَ لاحقاً على عدم استخدام الفيتو.
 
كتلة الأمن القومي من جهتها اتّخذت القرار. طالما أن الولايات المتحدة لا تُصغي لها سمعاً في شراكة نديّة على مستوى عالمي، فستكون لها بالمرصاد، مُعيقة في كل مكان ممكن. لكن هل لدى روسيا القدرة على ذلك؟
 
نحن نتحدّث عن قوّة إعاقة وليس قوّة تقرير. الفارِق بين الإثنين أن قوّة الإعاقة لا تتطلّب منسوباً فائِضاً من القوّة. أوكرانيا مِثال على ذلك. لم يستطع بوتين أن يُغيّر الأمر الواقع الذي فُرِض عليه هناك. بادر إلى ضمّ القرم وعَمَد إلى تسخين الجزء الشرقي من أوكرانيا. بالنتيجة لم يمكّن الغرب من السيطرة على كامل البلد وحرمه من مينائها الأهم. أصبحت المواجهة مُجمَّدة.
 
"سوريا المُفيدة" في صراع الأقطاب
في مناطق أخرى من العالم تحوّلت واشنطن هي الأخرى إلى قوّة إعاقة. ظهر ذلك في الشرق السوري حينما استهدفت أميركا قوات تابعة لسوريا وحلفائها حاولت العبور شرق الفرات في شباط فبراير من العام المُنصرَم. هذا الفعل الميداني الحاسِم لم يكن ينطوي على قوّة تقرير. الركائز الأميركية في سوريا ضعيفة حتى قبل قرار ترامب بسحب قوّاته من هناك. الستاتيكو القائم، قبل وبعد قرار ترامب، ما كان مُقدّراً له أن يبقى مُجمَّداً لفترةٍ طويلة. لماذا؟
 
هناك جملة أسباب تضغط باتجاه تغيير المعادلات هناك وفي عموم سوريا. التركي أولاً لا يستطيع القبول بالواقع الكردي المرعي أميركياً. الروسي ثانياً يرى بأن أيّ مدماك أميركي في سوريا يشكّل خطراً على استثماره كله هناك. دمشق لا تقبل أيضاً أن يبقى شرق البلاد خارج سلطتها لا سيما وأن المناطق الشرقية هي فعلاً "سوريا المُفيدة" على عكس ما كان يُقال سابقاً.
 
ليس من السهل أن تصل أنقرة إلى تفاهُمٍ مع الجانب الأميركي حول الشرق السوري. المشهد هناك شديد التعقيد. ما تمّ تداوله عن أفكارٍ حول حلول قوات كردية بعيدة من أجواء حزب العمال  "بي كي كي" ونشرها على الحدود هو خيار لا يُطمئِن أردوغان ولا يمكن أن يشتريه. من هنا تنحو تركيا إلى مزيدٍ من التقارُب مع روسيا في هذا الملف.
 
في إدلب قد تصبح المواجهة مُجمَّدة إلى حين في ظلّ عددٍ من الاعتبارات. لم تنضج بعد المُصالحة السورية التركية. رغم ذلك صدرت إشارات هامة من الأتراك حول القبول بالرئيس الأسد.
 
قد تحصل تفاهُمات بضغوطٍ قد يكون بعضها ميدانياً تقود إلى فتح طريقيّ حماه حلب (أي دمشق حلب)، وحلب اللاذقية من دون التوسّع إلى حدود ما حصل في الجنوب. بهذه الطريقة تؤهّل دورة الإنتاج الاقتصادية وتُستعاد إلى كنف الدولة.
 
تركيا وإمساك العصا من الوسط
من منظور الأمن القومي التركي تضيق مساحة الالتقاء مع الولايات المتحدة في ما يتعلّق بالمسألة الكردية. الأهم من ذلك، أن الاستقلالية التركية الصاعِدة غير مقبولة لواشنطن. يعرف الأتراك أن حلفيتهم كانت على عِلم بمحاولة الانقلاب في تموز يوليو 2016 ولم تبلّغهم عن ذلك. كيف يمكن إذاً أن تطمئّن لعلاقةٍ استراتيجيةٍ تحالفيةٍ معها؟
 
في المقابل خاضَ القياصرة الروس والعثمانيون تاريخياً أكثر من مواجهة. في خلفيّة العقل السياسي التركي حساسية قديمة من موضوع الروس خصوصاً في البحر الأسود. رغم ذلك، ستكون هناك تفاهُمات مُستقبلية بين الروس والأتراك تفيض عما يجمع بين الأتراك والأميركيين.
 
بكل الأحوال لا تسعى تركيا إلى قطع الحبال مع الغرب. تريد بالتوازي أن تعزِّز علاقتها مع الجانب الروسي وتجعله دريئة. موسكو من جانبها لا ترى من صالحها أن تنسحب تركيا من حلف الناتو. بقاؤها ضمن الحلف في ظلّ علاقةٍ متينةٍ معها يبقى مُفيداً لناحية الإعاقة والمعلومات وغيرها من الأمور. لذا يحرص الروس على مُراعاة خاطِر تركيا وإبقائها على مسافة أقرب إليهم من المسافة التي تفصل بين تركيا والغرب.
 
من هذا المُنطلق بات الأتراك قادرين على إمساك العصا من الوسط في عالمٍ يشهد سيولة قُطبية، لا هي أحادية ولا مُتعدّدة.
 
تفادي المأزق التاريخي في الشام
تعرّض المحور الإيراني السوري منذ مطلع العام 2011 لما قد يُسمى مجازاً "مأزقاً تاريخياً". وقع تحت إطلاق نار مزدوج من محورين في المنطقة. أطبق عليه من المحور السعودي الإماراتي ومن المحور القطري التركي.
 
صانِع القرار السوري سيكون أكثر حَذَراً من الآن وصاعداً في تجنّب هذا المأزق. سيكون حريصاً على ألا يدع المحورين الخصمين يتوافقان على حسابه. بإمكان دمشق أن تجد مُشتركات تكتيكية مع كلا الطرفين بحيث تنجو من سوء أفعال أيّ منهما نحوها.
 
بالمقابل علاقة سوريا بإيران باتت أكثر متانة. تُدرِك الولايات المتحدة أنه من العسير فكّ أواصِرها. لن تستطيع إخراج الامتداد المعنوي والعسكري الإيراني من سوريا أو من لبنان. ممكن أن تتواضع مطالبها إلى حدود قوْننتها أو إعادتها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة السورية. حينها لم يكن يعجبها هذا المستوى من التحالف. منذ ذلك الوقت أخذ التنسيق السوري الإيراني منحى مُتصاعداً. التأثير الإيراني سيبقى في شرق المتوسّط. ما يمكن أن يُغيّر هذه القراءة هو حدوث زلزال داخلي في إيران، وهذا أمر مُستبعَد جداً.
 
أكثر ما يُقلِق الأميركيين في شرق المتوسّط أو غرب آسيا هو تآكل ردعية إسرائيل والضعف المُتزايد لوظيفيّتها. هذا الأمر منشأه الدور الإيراني في الصراع مع إسرائيل. طهران شريكة في زرع كثيف للصواريخ النقطوية في سوريا، وفي تطوير الصواريخ غير النقطوية إلى النقطوية في لبنان، عن إرسال وتعزيز الصواريخ في غزّة عدا عن المساعدات الأخرى لفصائل المقاومة. تعبّر هذه الإشكالية عن كلفة الخصومة العالية مع طهران. 
 
 
 
العلاقة البينية بين إيران وتركيا اليوم في أحسن أيامها. مضت 500 عام على معركة جالديران، أهم آخر المعارك بين العثمانيين والصفويين. السؤال كيف يمكن للإيراني والتركي أن يقلّصا من التبايُنات ويُعزِّزا من المُشتركات؟ في هذا الأمر حتماً إفادة للطرفين.