مساع أميركية لتقسيم الكنيسة الأرثوذكسية

مساع أميركية لتقسيم الكنيسة الأرثوذكسية

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٢ سبتمبر ٢٠١٨

ليا القزي
الكنيسة الأرثوذكسية، هي فضاء قديم ــــ جديد تسعى الولايات المتحدة الأميركية، إلى نفوذ فيه، في حربها السياسية مع روسيا. محاولات عدّة، لسحب أبرشيات من سلطة الكنيسة الروسية، أو خلق بطريركيات جديدة. في لبنان أيضاً، هناك جناح يدعو إلى الانفصال عن بطريركية أنطاكية، وفصل أبرشيات لبنان عن تلك السورية
في 3 تشرين الأول المقبل، ينعقد المجمع الأنطاكي الأرثوذكسي المقدّس، وعلى جدول أعماله ملّفات عدّة، قد يكون أهمّها اتخاذ موقف من الصراع المُستجد بين الكنيستين الشقيقتين، موسكو والقسطنطينية، على خلفية منح الأخيرة الكنيسة الأوكرانية الاستقلال الكنسي، وقرار البطريرك برثلماوس (القسطنطينية) تعيين أسقفين مُعتمدين لها في أوكرانيا. الكنيسة الروسية عدّت هذا الإجراء «تعدّياً» عليها، كون الكنيسة الأوكرانية تقع تحت سلطتها الكهنوتية. وفي المجمع المُقدّس للكنيسة الروسية، الذي عُقد في 14 أيلول الحالي، جرى إعلان «تعليق» الشراكة الكنسية مع القسطنطينية، وهو القرار الذي يسبق قطع الشراكة نهائياً. لم تتوقف الكنيسة في موسكو عند هذا الحدّ، بل أعلن بطريركها كيريل، في 14 أيلول أيضاً، أنّ «الكنيسة الروسية ستبقى متمسكة بموقفها الثابت من تصرفات القسطنطينية ولن تعترف بشرعيتها». أتى ذلك بعد زيارة كيريل إلى إسطنبول، نهاية آب، للقاء البطريرك برثلماوس لمحاولة ثنيه عن قرارٍ «يُنذر بمزيد من الفرقة بين المؤمنين»، بحسب البطريرك الروسي، من دون أن يكون لخطوته أي نتيجة.
الخلاف بين «روسيا» و«القسطنطينية»، يحتلّ الواجهة «الأرثوذكسية» حالياً، إلا أنّه ليس التحدّي الوحيد الذي يعصف بـ«الكنيسة الجامعة». فهي تقف اليوم أمام أخطارٍ عدّة، تدفع بها نحو المزيد من التشقّق، بدفعٍ سياسي ــــ استخباراتي من الولايات المتحدة الأميركية، التي تستفيد من وجود «أدواتٍ» لها داخل الجسم الأرثوذكسي (كما في أي دولة وكيان في العالم)، تُساعدها في تحقيق أهدافها التقسيمية. الغاية الأسمى للأميركيين، بحسب سياسيين أرثوذكس، هي تشتيت الكنيسة الأرثوذكسية وطمس هويتها، في سياق الحرب السياسية بين واشنطن وموسكو.
يقول نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إنّ الكنيسة الأرثوذكسية «تعرضت، في تاريخها، إلى مؤامرات عدة. في البدء، كان تفتيت مدينة الله العظمى أنطاكيا، ففصلوها عن بلاد الشام. ثمّ أسقطوا مطارنة الطائفة الكبار ليأتوا بآخرين، فضلاً عن تحويلها إلى سلعة». من يقصد نائب البقاع الغربي بكلامه؟ «العقلان الأميركي والصهيوني»، يؤكّد مُضيفاً أنّ «الفكر الغربي داخل المؤسسة الأرثوذكسية تعمّق إلى درجة كبيرة جداً». أساس «المؤامرة»، بحسب الفرزلي، هي «ضرب كنيسة الأرض التي ولد فيها السيد المسيح، وتهجير الأرثوذكس من المنطقة، حتى يأتي من يقول – في لعبة السلام – إنّ مكة هي مرجعية المسلمين والفاتيكان مرجعية المسيحيين واليهود مرجعيتهم القدس».
تقوم السياسة الأميركية، بحسب مصادر مُطلعة على الملّف الأرثوذكسي في لبنان والعالم، على محاولة خلق بطريركيات لا تدور في فلك الكنيسة الروسية. فبالنسبة إلى واشنطن، تحظى البطريركية الروسية بدعم سياسي ومالي من قيادة البلاد، يُخولانها بناء نفوذٍ كنسي يمتدّ على نطاق بطريركي واسع، «تماماً كما تنظر الولايات المتحدة إلى العلاقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأبناء الطائفة الشيعية في العالم». انطلاقاً من هنا، تبرز السياسة الأميركية التقسيمية. حاولت الولايات المتحدة تطبيق ذلك في أوكرانيا، ولكنّها اصطدمت بعدم تأمين «اعتراف» بقية السلطات الكنسية، ببطريركية أوكرانية جديدة. في هذه الحالة، تلجأ واشنطن إلى «الخطّة ب»، وهي استعانتها «بمراكز بطريركية تدور في فلكها، حتّى تضع الأخيرة يدها على أكبر عدد من الدول التي تنتشر فيها الأبرشيات الأرثوذكسية، وتُبعدها عن السلطة الروسية». لذلك، عيّن البطريرك برثلماوس أُسقفين مُعتمدين له في أوكرانيا. سبق ذلك، نشر وكالة «الأسوشييتد برس»، تحقيقاً بأنّ قراصنة روساً، حاولوا اختراق المراسلات الخاصة ببعض الكهنة الأرثوذكس في أوكرانيا، بدعمٍ من الكرملين.
هناك مثالٌ ثانٍ لهذه السياسة، حصل في العام 2013، حين عينّ البطريرك ثيوفيلس الثالث (البطريركية المقدسية)، الأرشمندريت مكاريوس رئيساً على أبرشية جديدة استُحدثت في قطر. قامت قيامة الكنيسة الأنطاكية، في حينه، لاعتبارها أنّ «المقدسية» تتعدّى على الحدود القانونية للأبرشية الأنطاكية، وقد وصل الأمر حدّ قطع «الشراكة الكنسية» بين الفريقين. اعتبر البطريرك ثيوفيلس الثالث، أنّ خطوته ستكون «تمهيدية»، قبل السيطرة على كلّ الأبرشيات العربية. وللمناسبة، بطريرك القدس هو «حارس الأمانة» الذي باع أراضي الكنيسة في الأراضي المحتلّة إلى سلطات الاحتلال. وهو يُمثّل في الوقت عينه، مع البطريرك برثلماوس (القسطنطينية)، «رأس حربة» السياسة الأميركية في المنطقة، ضدّ الكنيسة الروسية.
صحيح أنّ البطريركية الأنطاكية لم تُعلن موقفاً بعد من الصراع القسطنطيني – الروسي المُستجد، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ أبرشياتها «مُستبعدة» عن الحراك الحاصل. يقول الوزير السابق طارق متري إنّ «أنطاكيا، منذ القرن الرابع عشر وحتى الأسبوع الماضي، لا تتدخل في الصراع بين الكنيستين». إلا أنّ المصادر المُطلعة، تعتبر أنّ المجمع المُقدس الذي سيُعقد في 3 تشرين الثاني، سيتخذ «موقفاً مُندّداً» بخطوة الكنيسة القسطنطينية.
 
المعركة في لبنان: سياسة وأموال وانفصال
في لبنان «ساحة خصبة» لتفجّر هذه الخلافات، من خلال إعادة نبش المشكلات الداخلية، وتقسيم المطارنة بين موالين للولايات المتحدة وآخرين موالين للروس، علماً أن المقصود هنا السياسات العامة لروسيا في المنطقة، وخصوصاً في سوريا. وكانت لافتة إشارة مصادر واسعة الاطلاع في دوائر الكنيسة من جهة، ومحيطين بها من سياسيين ورجال أعمال، إلى أن لغة «مستجدة» طرأت في الأعوام الأخيرة، أساسها يعود إلى أن قوى سياسية لبنانية، تتقدمها القوات اللبنانية وشخصيات سياسية وإعلامية واقتصادية، تسعى إلى ترسيخ ما تسميه «استقلالية واضحة» للأرثوذكس في لبنان عن الآخرين المنتشرين في البلاد العربية. وهذه الاستقلالية تستهدف الموقف مما يجري في المنطقة، وفق رغبة تيار قوي في لبنان بالوقوف إلى جانب الجبهة التي تطالب بإطاحة النظام السوري ومواجهة سلاح حزب الله في لبنان، والدعوة إلى حل سياسي يحاكي التصور الأميركي للصلح مع إسرائيل. ولهذه الفئة ممثلوها في المؤسسات الاقتصادية النافذة يعبّرون عن وجهة ترغب بالتخفيف من الدور الاجتماعي للكنيسة، والعمل على دعم استثمارات ذات طابع تجاري – ريعي، وذلك من خلال حصر التبرعات بمطرانية بيروت، والشروع في خطط لمشاريع عقارية بعضها يأتي على حضور أرثوذكسي شعبي تاريخي (أبناء المزرعة في غرب بيروت)، والسعي إلى تكوين شراكة في وسط بيروت التجاري.
وفي جانب آخر، يظهر النزاع على المواقع السياسية النافذة في لبنان، من نائبي رئيسي المجلس والحكومة إلى الحصتين الوزارية والنيابية والمواقع الإدارية الرئيسية. وتدور المعركة بقوة بين تيار يدعم تعزيز نفوذ القوات اللبنانية في هذا المجال في مواجهة الذين يعتبرونهم «أنصار سوريا وحزب الله». وهو أمر حضر في المشاورات في شأن أسماء المرشحين لتولي هذه المناصب. وتزعم المصادر أنّ طريقة خوض «القوات» للانتخابات النيابية، وترشيحها شخصيات في كلّ المقاعد الأرثوذكسية، وترشيحها أنيس نصار لمنصب نائب رئيس مجلس النواب، ومعركتها حالياً للحصول على منصب نائب رئيس الحكومة، «عبارة عن مسارٍ واحد للإيحاء بأنّ الشرعية الأرثوذكسية لديها».
وعلى الصعيد الكنسي، يثير «تيار انفصالي» موضوع جنسية المطارنة ورجال الدين المشرفين على الأبرشيات. فغياب التنافس – على أساس الجنسية – بين رعاة الأبرشيات في لبنان وسوريا، جعل العدد الأبرز منهم من السوريين. وهو أمر لم يكن محل مشكلة سابقاً. لكن يبدو أن ثمة من يريد إثارة أزمة اليوم تحت عنوان «فصل المطارنة اللبنانيين عن إخوتهم السوريين»، وصولاً إلى حد تأسيس بطريركية لبنانية! ويصل البعض إلى حد الحديث عن «تمايزات ثقافية واجتماعية» بين السوريين واللبنانيين، وهو أمر كان له أثره حتى على ملف النازحين السوريين من المسيحيين.
الفريق المُعارض لخيار الفصل، يوجّه أصابع الاتهام إلى متروبوليت بيروت المطران الياس عودة، فيعتبر أعضاؤه أنّ استحداث جامعة القديس جاورجيوس في بيروت (تتبع مطرانية العاصمة) «كمنافِسة» لجامعة البلمند (التابعة لبطريركية أنطاكيا)، ورفض تقديم كشوفات تتعلّق بـ«مالية» المطرانية إلى البطريرك، دليلٌ على ذلك.
«بكل ضمير مرتاح، أستطيع أن أنفي عن المطران عودة قصة الانشقاق في الكنيسة. فلم يُطرح مرّة، استقلال لبنان عن سوريا كنسياً»، يؤكد طارق متري. ويقول في اتصال مع «الأخبار» إنّ «الكلام عن انفصال في الكنيسة الأنطاكية مُسيّس وليس حقيقياً. هناك افتعال لهذه المسألة، من قبل أشخاصٍ غير راضين عن المطران عودة، فنسبوا له نوايا انشقاقية». ولكن، «من أجل الدقّة»، يُخبر متري أنّه مع تعيين مطران جديد على أبرشية جبل لبنان، «ارتفعت أصوات من أشخاص عاديين وبعض الإكليروس، بأنّهم يريدون مطراناً من الجنسية اللبنانية، وأن يتم تعيين مطارنة لبنانيين في الأبرشيات اللبنانية، وسوريين في الأبرشيات السورية».
في المقابل، هناك رأيٌ آخر يُعبّر عنه «اللقاء الأرثوذكسي» وإيلي الفرزلي، الذي كان أوّل من أطلق الصوت مُحذّراً ممّا يُحاك للطائفة، ويدعمه في حراكه بطريرك ​أنطاكيا​ وسائر المشرق يوحنا العاشر يازجي. ظهر ذلك في العشاء الذي نظّمه الفرزلي – الأسبوع الفائت، في جب جنين – على شرف البطريرك، الذي قلّد نائب البقاع وسام الرسولين بطرس وبولس من الدرجة الأولى. اللافت، كان «اعتراف» اليازجي للمرّة الأولى، بوجود «مخططات ومحاولات حول الكنيسة والوطن وديارنا، ونحن واعون لها… كنيستكم الأنطاكية الأرثوذكسية كنيسة واحدة، لا يستطيع أحد أن يعبث بها».
 
تستفيد واشنطن من وجود «أدواتٍ» لها تُساعدها في تحقيق أهدافها التقسيمية
 
يوضح الفرزلي في حديثه إلى «الأخبار» أنّها معركة الحفاظ على «مشرقية الكنيسة الأنطاكية، ومواجهة محاولات فصل الفرع عن الأصل، كما يحدث مع جامعة البلمند».
هذه المعركة، «يجب أن تخوضها جماعة المؤمنين داخل الكنيسة الأرثوذكسية، أولاً بالدفاع عن وحدة أنطاكية. وثانياً مواجهة تسعير الخدمات. وثالثاً بإعادتها كنيسةً للفقراء وليس كنيسة الأغنياء، حيث أنّ من يملك قرشين يتحول إلى وجيه وناطقٍ باسم الطائفة. ورابعاً إعادة المجالس المُنتخبة من الشعب، لتُمارس الديموقراطية داخل الكنيسة، بعد أن عُطلّت عام 1972 بحجة الخوف من الشيوعية».
الشرارة الأولى لوأد مُخطط الفصل، «يكون بفضحه، وبأن يكون صبرنا كبيراً، لأنّ الجناح الآخر مُتجذر داخل الكنيسة»، يقول الفرزلي. ومن المفترض، أن تكون هذه التحديات حاضرة اليوم خلال اللقاء الثقافي السنوي السادس، الذي تُنظمه اللجنة الثقافية في اللقاء الأرثوذكسي. كلمات ممثل كنيسة أنطاكية وممثل كنيسة موسكو والأمين العام للقاء الأرثوذكسي مروان أبو فاضل، ستكون أساسية في تحديد ملامح المرحلة المقبلة. ويستفيد «لقاء السبت» من حضور المعتمد البطريركي في روسيا المتروبوليت نيفين صيقلي، أحد أبرز الصقور في الدفاع عن وحدة أنطاكية والوقوف بوجه «التيار الأميركي» داخل الكنيسة الأرثوذكسية.
الاخبار