بغداد تُطوّق «الانفصاليين»

بغداد تُطوّق «الانفصاليين»

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٧ أكتوبر ٢٠١٧

في مشهد لم يعتَده العراق منذ غزوه عام 2003، التقطت الحكومة في بغداد زمام المبادرة رغم وضع داخلي آيل إلى الانفجار وتجاذبات إقليمية ودولية كبيرة. اقتحام كركوك بعملية «نظيفة» حتى الآن لم يكن ليحدث لولا «خطيئة» مسعود البرزاني الانفصالية والتكتل الإيراني ــ التركي لمواجهته، لكن سُجّل نجاح لبغداد في إدارة الأزمة بتعاون «ميداني» مع طهران عبر حضور فعّال ومحوري لقاسم سليماني. اليوم، طُوّق «الانفصاليون» وظهر أنّ «البيت الكردي» ليس بالتماسك الذي ظهر خلال الاستفتاء الشهير. خطوةٌ تربطها حكومة حيدر العبادي بمرحلة «ما بعد داعش» وحصر مسك الأرض بالقوات الاتحادية، وإدارة مرافق الدولة. فالتقدّم الذي جرى وسيتواصل في الأيام المقبلة يعبّر عن جاهزيتها ودول المحيط العراقي لمواجهة أيّ خطوةٍ انفصالية يقودها البرزاني أو غيره
نور أيوب

عادت مدينة كركوك إلى حضن العاصمة بغداد، ورُفع العلم العراقي فوق مبنى المحافظة هناك. الأخبار المتتابعة الآتية من كركوك في الساعات الأخيرة توضح حجم «الانقلاب» الذي نجحت بغداد في فرضه بعد سنين من صورة حكومة مركزية شبه مشلولة تُسيطر على تحركاتها التجاذبات الاقليمية وتغوّل «داعش» الضخم، إضافة إلى «ملتقطي الفرصة» في «إقليم كردستان» الذين استفادوا من ضعف بغداد منذ الغزو الأميركي حتى يومنا هذا، ليوسّعوا من حضورهم الجغرافي والاقتصادي والسياسي.

في الساعات الـ48 الأخيرة، كان المشهد مختلفاً: حكومة تبادر عسكرياً (بالتعاون مع «الحشد الشعبي» الذي تبيّن حجم دوره المقبل، بعد تأسيسه بهدف محاربة «داعش»)، وتنجح في ضرب «ركن» أساسي من نتائج استفتاء «استقلال كردستان»، بالتوازي مع تفوّقها في التقاط اللحظة الاقليمية لـ«فعلة البرزاني»، وتسييل «الغضب» الإيراني والتركي لمصلحتها عبر انقضاضها على كركوك.
يؤكّد متابعون أنه «لولا خطوة رئيس الإقليم مسعود البرزاني الانفصالية لظلّت كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها في قبضة البشمركة».
فتمسّكه، وبعض القادة الأكراد، بالاستفتاء ونتائجه، قابله رئيس الوزراء حيدر العبادي، وبدعمٍ إقليميٍّ ــ دولي، بالمضيّ قدماً إلى «ميدان المواجهة»، فارضاً قواعد اشتباكه الخاصّة على أربيل، من دون أن ينجرّ إلى فخٍّ كان قد نصبه البرزاني، ليعكس بذلك تطلّعات «التحالف الثلاثي» (بغداد وأنقرة وطهران) حول طريقة إدارة الأزمة.
فالبرزاني أراد استدراج القوات العراقية إلى مواجهةٍ مسبقة التحديد، في الزمان والمكان، يستطيع من خلالها انتزاع اعترافٍ دوليٍّ بحق أربيل في الانفصال، وفق مصادر عراقية رفيعة، التي تكشف في حديثها إلى «الأخبار» أن هذه «الخطوة كانت منسّقة مع الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، والإمارات». وتضيف أن البرزاني كان في طور «استعجال» إعلان الانفصال عن العراق، بعد نتائج «الاستفتاء»، خاصّة إذا حدثت المواجهة، بحيث تمتد نيرانها لتشمل محافظة ديالى، وصلاح الدين، وكركوك، وأربيل، ونينوى، وقد تؤدي إلى «خسائر مفبركة»، لتخرج أربيل عقب ذلك وتطالب المجتمع الدولي «بضرورة حماية الأكراد من إبادة جماعية»، على أن يكون الحل إعلان «الدولة الكردية».
ما جرى فجر أمس في كركوك وانتهى بفرض القوات العراقية المختلفة سيطرتها على المدينة، يقود إلى التساؤل عن دور العبادي من جهة، ودور قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» قاسم سليماني، من جهةٍ أخرى.


وتشير مصادر عسكرية عراقية إلى أنّ العبادي «حسم أمره في مواجهة البرزاني»، في وقتٍ «أجاد سليماني تعجيل التنفيذ، ورسم معالم مواجهةٍ يحفظ فيها حلفاءه الأكراد» (معظم الأكراد في كركوك هم من مؤيّدي مؤسّس «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني» الراحل جلال الطالباني، حليف طهران البارز)، وفق مصادر حكومية عراقية، مشيرةً في حديثها إلى «الأخبار» إلى أن سليماني نجح في «هندسة إخراج قوات البشمركة بأقل الخسائر الممكنة، من مواجهةٍ سعى إليها طويلاً البرزاني».

مواجهة أم استسلام؟

تجمع مصادر عراقية وكردية عدّة على أن «السيطرة على كركوك جرت بالتنسيق بين طهران وأحد أجنحة حزب الاتحاد الوطني»، في إشارةٍ إلى مدى تأثير الزيارة الأخيرة لسليماني إلى السليمانية، ولقائه بعددٍ من القادة الأكراد. مدّدت بغداد مهلة «ساعات ما قبل المواجهة»، بالتوازي مع تأكيد عددٍ من المصادر أن اتصالات جرت بين العبادي وعددٍ من قيادة «الاتحاد»، ناقشت كيفية التزامها بمقررات الحكومة الاتحادية، ومطالبتها بأن تكون تحت إشراف مباشرٍ لسليماني وضمانته الشخصية.
انسحاب «البشمركة» من حقول النفط الاتحادية والمرافق الحيوية في كركوك يؤكّد أن الجبهة الكردية الداخلية لم تعد كما كانت عليه، إن كانت على صعيد الحزب الواحد، أو علاقة الأحزاب في ما بينها؛ فأزمة الاستفتاء واستعادة كركوك عزّزتا من صعود تياراتٍ كردية معارضة لـ«الحزب الديموقراطي» و«الاتحاد الوطني».
وتشير مصادر كردية، في حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن الأزمة أفرزت تصدّعاً في القاعدة الشعبية الخاصّة بالبرزاني، الذي فشل منذ أمس في تكريس نفسه «محقق حلم الأكراد بقيام دولة مستقلّة»، وسط حديثٍ مستمر داخل حزبه «حول تفرّده بقراره، ومضيّه في مواجهة بغداد، من دون احتساب العواقب والثمن الذي يدفعه الأكراد». أما المتضرر الآخر ــ على صعيد الحزب الواحد ــ فهو «الاتحاد الوطني» الساعي إلى لملمة نفسه عقب وفاة مؤسسه جلال الطالباني، إذ تنقل مصادر قيادية في «الاتحاد» أن ما جرى في مؤتمر دوكان (أوّل من أمس) هو خروجٌ لعددٍ من القياديين الأساسيين عن توجّه «الاتحاد»، وركوبهم لموجة البرزاني، فـ«جرّوا الحزب في هذا الوقت العصيب وراء قرارات مسعود، التي لم نكن على وفاقٍ معها، منذ رفضنا إقامة الاستفتاء في كركوك».
وعلى صعيد العلاقة بين الأحزاب الكردية، فقد أعادت أحداث اليومين الماضيين الثقة بين «الديموقراطي» و«الاتحاد» إلى سابق عهدها، بحيث تتّسم العلاقة بينهما بـ«الحذر والترقّب»، مع اتهام البرزاني لعددٍ من قادة «الاتحاد» بـ«الخيانة»، فيما الإحساس بـ«الطعن والغدر من مسعود، وعناده في المضيّ قدماً إلى المجهول، وتدمير جميع مكتسبات الأكراد»، كما تعبّر مصادر كردية رفيعة معارضة له، لـ«الأخبار».
ويذهب عددٌ من المراقبين إلى تفسير ما جرى بأنه «تصدّعٌ للجبهة الداخلية، وهو أمر سيضعف البرزاني»، خاصّةً إذا ما قررت الحكومة الاتحادية «التعامل مع إدارة السليمانية، وحلّت بعض المشاكل العالقة معها كرواتب الموظفين». ويتابع هؤلاء أن هذه الخطوة «سيكون لها الأثر البالغ في امتصاص الصدمة، والحؤول دون استثمار المشاعر القومية في تعزيز موقف مسعود داخلياً على الأقل».

إلى أين؟

السؤال المطروح هو: هل ستكتفي بغداد بكركوك، أم أن «المواجهة/ الانسحاب باقية وتتمدّد؟». تجيب المصادر السياسية والعسكرية العراقية بأن الفرصة الحالية مواتية لتحقيق أكثر من هدف، كان تحقيقها صعباً في المرحلة الماضية.
استراتيجية العبادي في إدارة الأزمة تقضي بـ«فكفكة القوى الكردية، والتعامل معها كُلٌّ على حِدة»، على أن يكون الهدف الأوّل هو تطويق البرزاني ومشروعه الانفصالي ومنعه من التفكير ــ في المستقبل القريب ــ في بطرح مشروع الدولة. أما الهدف الثاني فيتمثل في استعادة القوات العراقية للأراضي المتنازع عليها، فيما الهدف الثالث توجيه رسالة داخلية ــ خارجية إلى جهاتٍ محدّدة بأن العراق «سيبقى بلداً واحداً عصيّاً على التقسيم... وأن الدور الإيراني ما زال حاضراً في رسم المشهد».
الأهداف التي صاغتها بغداد لنفسها، شاركت أنقرة وطهران في بلورة الأوّل، فيما كانت النصائح الإيرانية للعبادي تلقى الصدى المطلوب، فتُرجمت في الهدفين الثاني والثالث. وتؤكّد مصادر بغداد أن ما أنجز أمس «لن يكون محصوراً بمحافظة كركوك، بل إن القوات ستعيد انتشارها في كافة المناطق المتنازع عليها، وستعمل على تثبيت هويتها العراقية الاتحادية»، على أن يفرض هذا التقدّم الكبير على قوات «البشمركة» العودة إلى خلف «الخط الأزرق»، الذي رسمته «الأمم المتحدة» في عهد الحاكم المدني الأميركي بول برايمر عام 2004.
وإن لم تحدد الحكومة وجهتها المقبلة، فإن المعطيات تؤكّد أن البرزاني سيكون ــ في نهاية المطاف ــ محاصراً في أربيل. وتشي التقديرات بأن الجيش العراقي و«جهاز مكافحة الإرهاب» و«الشرطة الاتحادية» و«الرد السريع» و«الحشد الشعبي» سيواصلون تقدّمهم بالتوازي مع تراجع «البشمركة» الذين سيفضّلون الانسحاب على المواجهة، مع سقوط «إرادة القتال» لديهم، و«فشل البرزاني في الحفاظ على مكتسب استفتاء آمنّا به»، وفق مصدر كردي متابع.

تقاطعات العبادي مع طهران

تؤكّد مصادر حكومية أن رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي استقبل أخيراً قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، ليتباحثا في كيفية إدارة الأزمة مع أربيل، مع تأكيد الأخير على الدعم الإقليمي لأي خطوة يراها مناسبة، ردّها العبادي بـ«أحسن منها». فـ«السلام الإيراني» والدعم المسخّر لإنجاح تجربة رئيس الوزراء، وفق مصادره، قوبلا بأن «أبو يُسر يرفض أن تكون إسرائيل جارةً لإيران»، وأن بغداد ستكون عمقاً استراتيجياً لطهران وجيرانها، مع «الحفاظ على سيادة بلادنا».
لكن موقف العبادي مع إيران ليس «مجانياً»، إذ يحاول الرجل التوفيق بين مختلف وجهات نظر المهتمين بالشأن العراقي، وقد نجح ــ حتى الآن ــ في تحقيق ذلك؛ فطريقة إدارته للأزمة وتحقيق ما رُسم لها، سيخوّلانه على ما يبدو أن يكون رئيساً للحكومة لدورة ثانية، خاصّة أن طهران باتت متفهّمة لدور العبادي «الوسطي».

المناطق المتنازع عليها... وتوزّع «البشمركة»

تشكّل المناطق المتنازع عليها بين الدولة العراقية و«إقليم كردستان» أهم نقاط الخلاف بين الجانبين منذ 14 عاماً، إذ تبلغ مساحة تلك المناطق حوالى 37 ألف كليومتر مربع. وبين هذه المناطق شريطٌ يبلغ طوله ألف كيلومتر، يمتد من الحدود مع سوريا حتى الحدود مع إيران.
ويقع هذا الشريط جنوب محافظات «الإقليم» الثلاث: أربيل والسليمانية ودهوك، بحيث يعيش في تلك المناطق قرابة 1.2 مليون مواطن كردي، يتوزعون على محافظات نينوى وأربيل وصلاح الدين وديالى وكركوك.
وسيطرت قوات «البشمركة» بشكلٍ تدريجي على المناطق المتنازع عليها، مستغلّةً ضعف القوات المسلحة التي كانت تعيد تشكيل وحداتها إثر قيام الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بحل الجيش العراقي، وسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش» عام 2014، وتمدّد التنظيم وسيطرته على ثلث مساحة العراق.
وتنتشر «البشمركة» ضمن مساحة تبلغ 23 ألف كيلومتر مربع، 9000 منها في محافظة نينوى، و6500 في كركوك، و1500 في صلاح الدين، و3500 في ديالى، و2500 أخرى في منطقة مخمور، التي يعتبرها الأكراد جزءاً من محافظة أربيل، إذ كانت ملحقة بمحافظة نينوى في تسعينيات القرن الماضي.
أما «الإقليم»، المتمتّع بحكمٍ ذاتي، فيبلغ عدد سكانه 5.5 ملايين نسمة، وتبلغ مساحته 75 ألف كيلومتر مربع، وقد تم إقرار ذلك دستورياً عام 2005.