«صندوقٌ أسود» لوزارة الخارجية التركية: فريدون سينيرلي أوغلو

«صندوقٌ أسود» لوزارة الخارجية التركية: فريدون سينيرلي أوغلو

أخبار عربية ودولية

السبت، ١٠ ديسمبر ٢٠١٦

عند ورود اسم فريدون سينيرلي اوغلو، يخطرُ ببال الكثيرين في تركيا اسم رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق احمد داود اوغلو. هذان الاسمان متلازمان بحسب نظر الكثيرين الذين عندهم معرفة كافية. هناك أسبابٌ طبيعية لذلك. أحدهما بيروقراطي، والآخر سياسي. كلاهما ترك أثراً على السياسة الخارجية التركية ورسم مسارها لسنوات طويلة. قرابة سينيرلي اوغلو لداود اوغلو، وهما كانا زميلين حميمين منذ مدرسة الثانوية، تحولت الى صداقة عمل بعد عشرات السنين في وزارة الخارجية. ولكن اللافت للنظر دعم هذين الشخصين بعضهما لبعض دائما عند توصلهما الى الأماكن والمناصب المهمة. أما بالنسبة إلى سينيرلو اوغلو، فكان يقدم داود اوغلو الى كبار السياسيين في الدولة، وكان يبذل جهداً كبيراً لتعريفه الى القادة في تسعينيات القرن الماضي. ومقابل ذلك، كان داود اوغلو يعوض هذا التكريم، ويرد عليه بأفضل شكل، ويحميه ويعطيه مناصب بعد تسلمه مهمة الاستشارة لرئاسة الوزراء وملف السياسة الخارجية عام 2002.
إثباتاً لهذه العلاقة الحميمة، قدم سينيرلي اوغلو، الذي كان قد استلم منصب مستشار الرئيس بين عامي 1996 و2000، احمد داود اوغلو الى الرئيس التركي في تلك الفترة سليمان ديميريل كشخص وحيد يستطيع إعداد تقرير حول التوتر بين فلسطين والكيان الاسرائيلي. وتعارف داود اوغلو على الحكام الرفيعي المستوى للمرة الاولى بفضل هذه الوساطة. أوجه التشابه والتوازي بين الشخصين لم تكن من خلال هذه العلاقات فقط، بل بالإضافة الى سنوات الدراسة في المدارس ذاتها، كان هناك أوجه شبه أبعد من ذلك: تصورات متشابهة للتاريخ العثماني، ادعاء بالتفوق، ثقةٌ بالنفس، الايمان بسعة وقوة دائرة نفوذ تركيا، وأنه سيأتي يوم تصبح «الحدود» لا معنى لها. ولكن من كان يستطيع أن يتنبأ بأن هذه الآراء سوف توقع تركيا بمكروه ومتاعب في المنطقة يوماً من الايام، ومن كان يتوقع ان هذه التصورات المتكبرة والاستعلائية سوف تجر تركيا الى سياسات مغامرة في الربيع العربي وما بعده؟
ومن المفيد جدا ان نقدم للقراء بعض اللقطات في اللقاءات التي نقلتها لنا وثائق «ويكيليكس». تم نشر بعض محتويات اللقاءات لسينيرلي اوغلو خلال وظيفته في استشارية وزارة الخارجية التركية كجزء من وثائق «ويكيليكس» عام 2010. وكانت هذه الوثائق التي كشفت النقاب عن هذه اللقاءات، تنفي ما يدعيه سينيرلي اوغلو من أن ما يطرحه خطاب الديبلوماسية التركية في غرفة اللقاء مع الديبلوماسيين الأجانب لا يختلف عن المطروح أمام الكاميرات. مثلاً، وفقاً لوثائق «ويكيليكس»، هناك فرقٌ واختلافٌ كبير بين ما تمّ الاعلان عنه للرأي العام التركي وما تمّ الحديث عنه خلف الابواب المغلقة. وفي تلك الفترة، أشار سينيرلي اوغلو في لقاء بينه وبين المسؤولين الاميركيين الى التأثير السلبي للعملية العسكرية ضد إيران على تركيا، وقال إن العقوبات المالية المفروضة على إيران سوف تُضر «المعارضة الايرانية»، وهو ما سيوحد الشعب و «المعارضة» حول النظام الايراني. وان هذه البيانات التي تمّ الإدلاء بها عام 2009 للصندوق الاسود للخارجية التركية - في وقت شهدت إيران تظاهرات - شكلت ربما أخطر الأجزاء التي تتعلق بالسياسة الخارجية التركية تجاه ايران، فالوثائق دليل واضح للاختلاف الكبير بين ما تم الابلاغ عنه في اللقاءات مع المسؤولين الايرانيين وما تم الحديث عنه مع الاميركيين في الكواليس.
وفي ما يتعلق بالسياسة السورية، تفضح العبارات التي استخدمها سينيرلي اوغلو في وثائق «ويكيليكس» مقاصد هذه السياسات.
يذكر ان الموقف التركي الذي كان يتمتع بعلاقة حميمة جدا مع سوريا ورئيسها بشار الاسد كانت تعتمد على استراتيجية إبعاد النظام السوري من محور الجمهورية الإسلامية، وفي هذه الحالة فإن الجمهورية الإسلامية سوف تُعزل عن محيطها وجيرانها. بالاضافة الى ذلك، كان اللافت أن سينيرلي اوغلو أكد بعد العملية العسكرية التي أطلقتها روسيا في سوريا العام الماضي أنه كان من الممكن بالنسبة للولايات المتحدة ان تكون فعّالة أكثر، ولكن لم تفعل ذلك.
وبالنسبة لعلاقة الصندوق الأسود مع الكيان الاسرائيلي، فمن الممكن القول إنها بدأت في عام 2002، عندما عُين سفيرا في تل ابيب. ليست هناك معلومات مفصلة حول السنوات التي قضاها في فلسطين المحتلة، ولكن لم يكن هناك أدنى شك بأن هذا الرجل أقام علاقات وثيقة مع الساسة الصهاينة، لأن الثناء والمدح في المراحل اللاحقة من قبل الصهاينة يُقدم لنا إشارات كافية لسنوات قضى فيها سينيرلي اوغلو في الكيان الاسرائيلي. على رأس هؤلاء الصهاينة ممن أثنى على الدور الذي قام به سينيرلو اوغلو، دوري غولد، مستشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. أدلى غولد بتصريحات للصحافيين الأتراك القادمين بعد الدعوة اليهم في السفارة التركية قبيل توقيع الاتفاقية مع الكيان الصهيوني، وقال فيها - بعد تعظيم صديقه التركي سينيرلي اوغلو طبعا - «سمعت دائماً كلمات الثناء بحق هذا الديبلوماسي العظيم في العواصم الاوروبية، وخلال لقاءاتنا مع المسؤولين الاميركيين. وسمعت ايضاً أن هذا الرجل يتمتع بمواهب ديبلوماسية كبيرة. من حسن حظ تركيا انها تمتلك مثل هذا الرجل. إنه ديبلوماسي من الصف الاول».
من الصعب جدا أن نقول إن الشعب التركي، وخاصة المتدينين منهم، قدّر سينيرلي اوغلو مثلما قُدّر في المحافل الغربية. الصورة التي يتمتع بها عند الصهاينة تختلف تماما عن صورتها في تركيا. على سبيل المثال، وُجهت اليه انتقادات لاذعة في أوساط الإسلاميين وعوائل الشهداء خلال المفاوضات بعد ارتفاع وتيرة التوتر بسبب موقفه الاستسلامي، كما تمّ اتهامه بأنه وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن يسعى الى عرقلة رفع قضية شهداء «مرمرة» الى المحاكم الدولية في وزارة الخارجية. وبذلك هناك قناعة عامة في تركيا بأن عدم إيفاء اسرائيل بأي شروط لتمرير قضية التطبيع أثبت فشل سينيرلو اوغلو وسياسات الخارجية التركية. وأضاف سينيرلو اوغلو الى فضائحه فضيحة اخرى عندما ورد في نص الاتفاقية مع الكيان الصهيوني عبارة أن «القدس هي عاصمة لإسرائيل». حتى «حزب الشعب الجمهوري» المدافع عن «السلام» و «التطبيع» أشار الى هذا الموضوع في ملاحظاته خلال النقاش في البرلمان التركي، «بأن هذه الاتفاقية لا توفر للشعب التركي أقل حد للشروط المسبقة للحكومة التركية، كما انها تتضمن مواد مخزية لدولتنا ولعوائل الشهداء». وهناك مسائل اخرى لافتة للنظر ان «الصندوق الاسود» كان الرجل الوحيد الذي جاء للمشاركة من تركيا في جنازة شمعون بيريز الذي مات قبل أشهر.
وأخيرا انه ليس من الإنصاف إن لم نذكر فضيحة «الصندوق الاسود» بشأن اللاجئين السوريين التي أوردتها الصحافة ووسائل الإعلام التركية. على سبيل المثال، استخدامه كلمة «هلاك» أو «نفق» (هذه العبارة مستخدمة في اللغة التركية فقط للحيوانات عند موتها) للاجئين السوريين كانت هي إشارة بالنسبة الى نظره في مستوى اللاشعور الى اللاجئين السوريين.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إنه استمر نفوذ «الصندوق الاسود» حتى بعد مغادرته مهمة استشارة وزارة الخارجية التركية عقب تعيينه سفيراً في الامم المتحدة. ليس من المبالغة إذا قلنا ان الموظفين الحاليين هم من تم تعيينهم من قبل او اثناء استشارة «الصندوق الاسود».