إيطاليا والنمسا تصنعان الاستحقاق الأوروبي:مهرّج واحد في واشنطن.. قد لا يكفي!

إيطاليا والنمسا تصنعان الاستحقاق الأوروبي:مهرّج واحد في واشنطن.. قد لا يكفي!

أخبار عربية ودولية

السبت، ٣ ديسمبر ٢٠١٦

الصدفة وحدها جمعت استحقاقين مؤثرين في مستقبل الاتحاد الأوروبي، ليُقاما معاً يوم غد. الإيطاليون سيصوتون في استفتاء شعبي على الإصلاحات الدستورية، ونتيجة التصويت ربما تؤدي لاستقالة الحكومة وسط مخاوف من أزمة مصرفية، مع تصاعد الرفض لحكم النخب السياسية. في النمسا، سيُصوِّت مواطنوها لاختيار رئيس جديد، مع إمكانية راجحة الآن لفوز مرشح حزب «الحرية»، اليميني المتطرف نوربرت هوفر الذي يتصدّر استطلاعات الرأي.
ما يجمع الاستحقاقين أنهما الاختبار الأوروبي الأول للأحزاب الشعبوية، بعد استفتاء خروج بريطانيا قبل نصف سنة، والأهم قبل تربّع الظاهرة الترامبية لتحكم أميركا.
قبل أيام، خرج رئيس الوزراء البلجيكي السابق غي فيرهوفستات، ليسخر من تصرفات ترامب: «مهرجٌ واحد في واشنطن، هذا يكفي». كان رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي يشير إلى توصية ترامب، عبر موقع «تويتر»، لبريطانيا لصالح تعيين مستشاره نايجل فاراج سفيراً لها في واشنطن.
الضحكات ارتقعت في المبنى الأوروبي الذي يعرف جيداً فاراج، فالرجل هو الزعيم السابق لحزب «الاستقلال» البريطاني، وأحد متزعّمي حملة الخروج من التكتل. لكن الأوروبيين لن يزعجهم وجود مهرّجين في واشنطن، بقدر ما سيؤرقهم فعلاً وجود الاثنين في البيت الأوروبي، خصوصاً إن كان المهرج الآخر بات أحد المرشحين بالفعل ليحكم ايطاليا.
الاستفتاء الإيطالي فتح أبواب الحديث عن مَن سيحكم البلد لاحقاً. دعا الى هذا الاستحقاق رئيس الوزراء ماثيو رينزي أملاً في أن ينهي الانقسام داخل حزبه، وأيضاً أن يجعل السلطة مركَّزة أكثر بيد الحكومة.
رينزي دعا للاستفتاء حينما كان معتدّاً بازدهار شعبيته. قفز الى السلطة في شباط العام 2014، آتياً من تجربة ناجحة وطويلة في رئاسة بلدية فلورانسا وإقليمها، ليحطم الشاب، الذي لم يكن بلغ الأربعين من عمره، رقم الزعيم الفاشي موسوليني كأصغر رئيس وزراء لبلاده.
لكن أيام صعود الشعبية أفلت تدريجياً، ليجد رينزي نفسه أمام مخاطر مصير مشابه لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، حينما دعا الأخير لاستفتاء خروج بريطانيا، واثقاً بقدرته على النجاح وتحقيق مكاسب سياسية.
استطلاعات الرأي تعطي فرصاً ضئيلة بأن يربح رينزي الاستفتاء، خصوصاً أن أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة تقود حملة حامية للتصويت ضد الاصلاحات المقترحة.
هنا يتصدر المشهد المهرّج رقم إثنين: بيبي غريللو، زعيم «حركة خمس نجوم»، ذات الشعبية الكبيرة والمتزايدة. الفرق مع نايجل فاراج أن غريللو مهرّج حقيقي، بمعنى مهنته الأساسية «كوميديان»، عرفته إيطاليا لسنوات عبر برنامجه الشهير «فانتاستيكو» حيث يسرح على الخشبة ساخراً من كل شيء، تحديداً الطبقة السياسية الحاكمة. الاستطلاعات تضع حزب غريللو رأساً لرأس مع حزب رينزي، مع حوالي 30 في المئة من الأصوات، أي أن فوزه في انتخابات مقبلة لن يكون مسألة من خارج الحسبان السياسي.
من هنا يمكن لتداعيات الاستفتاء أن تكبر كثيراً، وكثيراً جداً أيضاً. إذا خسر رينزي، مع الترجيحات بحصول ذلك، فعليه أن ينفّذ وعده بالاستقالة من الحكومة، حينها سيعين الرئيس الإيطالي حكومة تصريف أعمال، في انتظار الانتخابات المبكرة.
هناك مخاطر مباشرة على القطاع المصرفي الإيطالي. خصوصاً المصارف الخاصة التي تعاني من مشاكل كبيرة مع قروض متعثرة تزيد قيمتها على 360 مليار يورو.
في الأساس ثلاثة مصارف كبيرة، بينها أول وثالث أكبر مصارف إيطاليا، تتعرض لعملية إعادة هيكلة (إنقاذ) تشرف عليها الحكومة، مع مخاطر من تعثر العملية بأي فراغ سياسي.
هناك مشكلة شبه وجودية تلوح في الأفق. مع اتجاه استطلاعات الرأي، مع المزاج الشعبي المتصاعد ضد النخب الحاكمة في أوروبا، يمكن لحزب الكوميديان غريللو أن يحكم ثالث أكبر دولة في تكتل عملة اليورو. هذه نقطة مهمّة، لأن غريللو لديه بند أول، لا يكفّ عن تكراره، هو إجراء استفتاء على خروج إيطاليا من منطقة اليورو. وإضافة لذلك، يَعِد مع قادة الحركة بمراجعة وضع الديون التي تثقل كاهل إيطاليا، بعدما بلغت نسبتها أكثر من 130 في المئة من الدخل الإجمالي. لا يتقدم عليها في حجم الديون، بين دول الاتحاد، سوى اليونان الواقعة تحت وصاية الإنقاذ المالي الدولي.
لم يدَّخر غريللو جهداً في إظهار خطر حكم حزبه على مشروع التكتل الأوروبي، كما ظهر من وجود «المهرّجين» في تكتّل واحد داخل البرلمان الأوروبي. تحالف غريللو مع فاراج، مع سجل الأخير الحافل ضد المهاجرين والأجانب، ووقَفَ معه مراراً مُقدِّماً مرافعات صاخبة في انتقاد اليورو. «الحزب الإيطالي» هو أحد نماذج سقوط ثنائية اليمين واليسار، فبعض توجهاته تميل إلى اليسار، لجهة الدفاع عن «دخل المواطن» كراتب أساسي تضمنه الدولة وغيره من الضمانات، لكنه ينهل من سياسات اليمين الشعبوي نزعته الانعزالية وحتى مواقف متشددة تجاه الهجرة. طبعاً، يجمع الحزبين أيضاً الودّ مع روسيا.
الاستقطاب الذي حققه الحزب لافت، فليس لديه برنامج متماسك، مقنع. لديه شعارات كثيرة، الكثير من الغضب على فساد النخب، لكن ليس لديه برنامج حكم متعقّل.
حينما قابلت «السفير» غريللو أواخر العام 2014، كان يجب التدقيق كثيراً في الترجمة، نظراً للشكوك في معقولية ما يقوله. سألناه حينها عن البديل الذي يحمله، غير الخروج من اليورو، فأجاب: «البديل هو تغيير عقلية الناس، النمو وخلق فرص العمل»، شارحاً أنه «علينا التفكير بـ «خطة ب»، مثلاً شبكة الإنترنت تعطي نموذجاً لكيفية النظر إلى مصادر جديدة للطاقة. علينا النظر للطاقة بطريقة جديدة، كما لو أنها شبكة. أنا أستخدم الطاقة وبقية ما لم أستخدمه أعطيه لجيراني. علينا التفكير بطريقة مختلفة، فالطاقة هي ثورة ثقافية. كان لدينا العصر الحجري وبعدها عصر النفط والغاز، والآن نحتاج عصر طاقة جديداً».
حزب غريللو ينضمّ، في حملة «لا» ضد رينزي، إلى حزبَي «فوزر إيطاليا» بقيادة رئيس الحكومة السابق سيلفيو بيرلسكوني، مع حزب «رابطة الشمال» اليميني المتطرف المزدهر في الشمال الإيطالي الغني. بيرلسكوني لا زال يخطب ويتكلم، ولديه شبكات تلفزيونية تحشد، وهو يقول للإيطاليين إن رينزي يريد تحويل نظامهم إلى «حكم ديكتاتوري».
الاستفتاء يقترح تقليص حجم مجلس الشيوخ ثلاثة أضعاف إلى 100 مقعد، تقليص صلاحيته بجعله جسراً مع شؤون الأقاليم والمناطق، مع تعزيز السلطة في مجلس النواب. سيؤدي ذلك بأن الحزب الفائز بالانتخابات سيجد سهولة أكبر، يقول رينزي صعوبة وتعقيد أقل، في إدارة الدولة وحكمها.
نتائج الاستفتاء إذاً يمكن أن تعمّق أزمة أوروبا مع اليمين الشعبوي، قبل انتخابات مصيرية العام المقبل في هولندا وفرنسا والمانيا. يمكن أن يُضاف بلد رابع هو ايطاليا، ويمكن أن يُضاف خامس، بمعية الانتخابات المبكرة أيضاً، هو النمسا.
ستكون حكومة روما قلقة من خسارة الاستفتاء، وستكون حكومة فيينا قلقة بدورها من فوز مرشح اليمين المتطرف نوربرت هوفر في الانتخابات الرئاسية المعادة. المنافس هو نفسه، زعيم «حزب الخضر» السابق الكسندر فان دير بيلن، الذي كان فاز في انتخابات أيار الماضي بفارق طفيف، قبل أن تتقرّر إعادتها لأخطاء في الإجراءات الانتخابية.
فوز مرشح اليمين المتطرف تدعمه استطلاعات الرأي، وهو يشكل خطراً على التحالف الكبير الحاكم بين الاشتراكيين والمحافظين. منصب الرئيس يبقى رمزياً، هذا جيد لهم، لكن من ضمن صلاحياته حلّ البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، برغم أنه قال إنه لن يفعل ذلك قبل الصيف المقبل. لا شيء يمنعه، خصوصاً أن حزبه (حزب الحرية) المتطرف يتقدم استطلاعات الرأي الآن بفارق مريح مع نحو 35 في المئة، يليه الاشتراكيون مع 27 في المئة.
كل هذا يجعل أوروبا الآن قلقة على مستقبل مشروعها أكثر من أي وقت مضى، بعدما بات مهدداً بالعرقلة إن لم يكن بالتفكك. ليس معروفاً إلى أين تتجه الأمور بدقة، هل سيتم استثمار مناخ الأزمات كحجة لتقوية التكتّل، كما حصل سابقاً، أم ستكون الوقائع الانتخابية معاندة لرغبة عرّابي المشروع الأوروبي؟ نتائج يوم الأحد ستكون مناسبة مهمّة لقياس حرارة الاتجاهين.