أمام الانهيارات الكبرى في الواقع العربي المُرّ .. هل تقوم رؤية جديدة لأمن قومي استراتيجي؟

أمام الانهيارات الكبرى في الواقع العربي المُرّ .. هل تقوم رؤية جديدة لأمن قومي استراتيجي؟

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ١٩ أكتوبر ٢٠١٦

ثمة أسئلة عديدة تُطرح حول ما إذا كان هناك أدنى دراية لأمن قومي عربي استراتيجي، في وقت تتهدد البلدان العربية جميعها تحديات خطيرة، في ظل العولمة التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، يبدو فيها العرب حكاماً ودولاً خارجها أو على هامشها.

مع اندلاع أكذوبة "الربيع العربي"، واندفاع بعض بائعي الكاز العربي الصغار، كقطر على سبيل المثال لا الحصر، لتبوّؤ المشهد المجنون، كانت الأمة تندفع في قلب اللهيب لتدفع أفدح الخسائر بشرياً واقتصادياً وسياسياً.

ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، فإن ما أنفقته قطر والسعودية وحدهما على مغامراتهما الطائشة لإسقاط الأنظمة في العراق وسورية وتونس وليبيا والجزائر واليمن ومصر، وتمويل حركات الإرهاب التكفيري لتكون رأس حربتها في هذه المهمة الأميركية - الصهيونية - الغربية القذرة، كان بإمكانه أن يحل مشاكل الفقر والجوع والتخلُّف، ليس في العالم العربي وحسب، بل في العالم أجمع.

ووفقاً لآخر الإحصائيات، فإن ما أنفقته السعودية وحدها في حربها على اليمن الفقير يبلغ نحو 750 مليار دولار، وهو ما يوازي الأرصدة السعودية في الولايات المتحدة، وبالطبع يضاف إلى ذلك ما أنفقته وتنفقه مملكة الرمال في حروبها على الدول العربية، وتحديداً في سورية والعراق، وما يحلّ من خسائر ودمار رهيبَين بناءً وعمراناً وبنى تحتية، وتهجيراً وإنفاقاً على التسلُّح، ما صار يفترض تريليونات من العملة الخضراء لإعادة البناء، يتضح للمواطن العربي حجم المأساة التي دفعت إليها المغامرات الطائشة لحسابات أميركية وصهيونية بحتة، بدأت تتوَّج علناً بعمليات تطبيع واسعة مع العدو الصهيوني، لأن المغامرين السعوديين لم يعد لديهم إلا هذه الورقة في مواجهة سيدهم الأميركي أولاً وأخيراً، للحفاظ على دورهم ودولهم، خصوصاً أن نهجاً أميركياً آخذاً في التبلور في تحميل النظام السعودي كل أسباب الإرهاب في العالم، وأعمال الاغتيالات التي حصلت وتحصل في أكثر من مكان، ما يعني تدفيعهم المزيد من الخسائر، بشكل جعل الخزينة السعودية في عجز كبير، دفعها إلى تقليص خدماتها ورفع الدعم عن معظم الحاجيات والخدمات التي كانت تقدَّم للمواطن، واللجوء إلى الخصخصة، وفي مقدمها دُرّة التاج السعودي "أرامكو"، بسبب الحاجة المُلحّة إلى السيولة، وهو ما بدأ يدفعها إلى الاقتراض من الخارج والداخل، في نفس الوقت الذي أخذت تنهار مؤسسات وشركات عملاقة، لم يعتقد أحد يوماً أنها ستتعرض للخسارة أو الإفلاس، كحال شركات بن لادن، وسعودي اوجيه، وغيرهما الكثير من المؤسسات والشركات.

إذا كان هذا حال السعودية، فإن شقيقاتها الخليجيات ليست أفضل حالاً، فقطر التي اندفعت في كل طاقاتها لتمويل أكذوبة "الربيع العربي"، ضخّت مئات مليارات الدولارات لهذه المهمة القذرة، بالإضافة إلى تمويلها للإعلام المسيَّر بخبرات صهيونية وغربية، لقلب الحقائق والوقائع، ووصلت الأمور بأمير قطر السابق حمد بن خليفة لأن يعلن في أحد صيحات "النشوة" استعداده لتخصيص مئة مليار دولار من أجل إسقاط سورية، فكم من المليارات العربية بُذلت من أجل مصر وتونس وليبيا، والنتيجة كانت سقوطه هو وتابعه حمد بن جاسم، ليتسكّعا الآن بملياراتهما التي هرّبوها في شوارع لندن.

أما الدول الأخرى، فلا حاجة للحديث عن المغامرات الإماراتية في اليمن، حيث اندفعت هذه الدولة في محاولة تركيع اليمن، اعتقاداً منها بلعب دور بارز في السياسة الدولية، تجعلها منافسة للسعودية وقطر، من خلال سيطرتها على جنوب اليمن، ووضع يدها على سواحلها وممراتها، خصوصاً باب المندب، فكانت النتيجة أن عاد الكثير من جنودها بصناديق خشبية، بينما الدول الأخرى من مجلس التعاون تتحمل وزراً كبيراً جراء المغامرة السعودية بإشباع أسواق النفط العالمية، بضخ أكثر من مليون برميل نفط يومياً خارج اتفاقيات أوبك، فتهاوت الأسعار، ما انعكس على اقتصادياتها وتراجع عمليات التنمية، ولهذا يتميز موقف الكويت وسلطنة عُمان بعقلانية كبيرة للحد من التهور السعودي، وأكثر ما يظهر هذا المشهد في المحاولات الدؤوبة التي تبذلها الدولتان لتوفير الحلول الناجحة لأزمة اليمن، والتي تصطدم بجدار الأطماع والمغامرات السعودية الطائشة.

إذا كان راود بائع الكاز العربي حلم في لحظة غطرسة، بأن "خريف العرب" قد يمدّه بنوع من العظمة "الإمبراطورية"، فإن هذا الحلم فعلاً راود وما يزال السلجوقي رجب طيب أردوغان، لكن فاته أن التاريخ إذا كرّر نفسه فإنه يتكرر بشكل ملهاة، وليس أدل على ذلك حينما راود بريطانيا هذا الحلم عام 1956، بعد أن أمّم القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس، فاندفعت مع فرنسا والكيان الصهيوني في عدوان ثلاثي واسع على مصر، فأفضت إلى هزيمة تاريخية، وإلى حلول الولايات المتحدة مكانها واحتلال دورها وتحويلها إلى ذيل تابع لواشنطن..

وهكذا سيكون حال الطوراني السلجوقي رجب طيب أردوغان، الذي أخذ دوره يتلاشى بداية من مصر، مع سقوط محمد مرسي و"الإخوان"، والاحتمال الأكيد سيكون سقوط مغامرته في العراق وترنُّحه في سورية، خصوصاً أنه آخذ بلفظ أنفاسه منذ الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا برعاية أميركية مدروسة في شهر تموز الماضي.

بأي حال، أمام هذهالصورة، هل نجد في العالم العربي يقظة تمزق أوراق المرحلة الخليجية، وتبدأ برسم واقع عربي جديد يحمل رؤية لأمن قومي عربي استراتيجي يأخذ مصالح الأمة وتطورها وتقدمها بعين الاعتبار؟

إنه السؤال المُلحّ أمام الصمود الأسطوري لمحور المقاومة والممانعة، الذي يبدو أنه في طور التبلور، وإن كان بصورة جنينية أولية، فهو أولاً يتبلور بالعلاقة بين سورية والعراق وإيران والمقاومة، الذين استطاعوا في السنوات الخمس الأخيرة أن يقدموا دروساً مذهلة في الصمود والمواجهة، فكيف إذا دخلت موسكو في التنسيق العميق مع هذا الحلف الصامد؟

هذا بأي حال لا يعدو عن كونه شبكة إقليمية من المصالح، يُفترض تطويرها إلى واقع عربي مغاير، يقوم على رؤية استراتيجية لأمن قومي عربي، ربما يتطور ويتبلور مع إرهاصات صحوة مصرية آخذة في التكوُّن،وهناك احتمالات لتطوير التفاهمات، ودخول دول عربية أخرى فيه تتهددها الغطرسة الخليجية، مثل الجزائر، التي واجهت وتواجه الإرهاب التكفيري المموّل سعودياً وقطرياً، وبهذا ربما نشهد قريباً صحوة لواقع عربي جديد يأخذ ضرورات الأمن والتنمية في الاعتبار الأول، وقد تكون نواته سوريةوالعراقومصروالجزائرواليمن، ويتعزز بتماسك إقليمي مع إيران، وهنا ستكون تركيا مرغمة على التنسيق مع هذا التماسك الإقليمي، مع مظلة حماية دولية توفّرها موسكو، من أجل توازن دولي جديد.. فلننتظر.

عبد الله ناصر