أوروبا تؤسس لجيشها: نريد مقعداً على الطاولة السورية

أوروبا تؤسس لجيشها: نريد مقعداً على الطاولة السورية

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٥ سبتمبر ٢٠١٦

لم يعتد الاتحاد الأوروبي على رفع هذا النوع من الاحتجاج، لكن يبدو أن الأمور لم تعد تحتمل التكتّم. لا الأزمات في المنطقة يمكن التأثير فيها، عدا إدارتها، عبر «القوة الناعمة»، ولا يمكنها تجسيد الطموح للتقدم في اتجاه تقرير مصير الكوكب، كقوةٍ عالمية لها كلمتها وفعلها فيه. تلك خلاصتهم، والآن يقول الأوروبيون: «لسنا ساذجين». أصوات احتجاجهم صارت صادحة اعتراضاً على الإقصاء عن الملف السوري، مطالبين بمقعد على طاولة تقرير مستقبل البلد المنكوب.
لكن مبادرة تأسيس الجيش الأوروبي ليست وليدة تلك الأسباب وتداعياتها، وإن كانت تُطرح كمقدمات موجبة لعدم التأخر في الانطلاق إلى مصافي «القوة العالمية الخشنة». المسألة، بوضوح، أكبر من ذلك. الخطوة تُكرّس الاتجاه لتغيير معادلات القوة في أوروبا الكبرى، بما يعني حكماً الوقوف العسكري الوازن في وجه المطامح الروسية، مع العلم أن الأخيرة تعتمد القوة العسكرية كرأس مال أساس لدفعها.
المسألة تمسّ أيضاً التموضع الأميركي، فالأوروبيون يقولون إنهم ينطلقون لتأسيس قوتهم العسكرية الموحدة أيضاً نزولاً عند «توقعات» واشنطن، ليكون جيشهم الموعود دعامة مهمة في بناء الحلف الأطلسي. صحيح أنهم متحفظون في تسمية «الجيش الأوروبي»، لكن إنشاء مقر قيادة موحد، مشتريات مشتركة لأسلحة استراتيجية، امتلاك الاتحاد بذاته لأصول عسكرية، نواة لقوات مشتركة، كل هذا يصفّ قطع بازل لكن يتجنب القول ماذا تشكّل. كل هذا بدوره يأتي استجابةً، في شكل ما، للانتقادات الأميركية المتواصلة لضعف الإنفاق الدفاعي الأوروبي، ما يجعل القارة تعتمد على أميركا لتأمين الضمانة الأمنية، ما جعل قادة أوروبيين يعترفون بأنه لا يمكن مواصلة هذه الاتكالية المكلفة.
لكن لتسويق الفكرة، التي تعني مزيداً من التكامل الأوروبي غير المربح انتخابياً الآن، لا بد من أغلفة الحاجة الآنية، حيث لا أفضل من عنوان السيطرة على الهجرة واللجوء ومحاربة الإرهاب في مهده. كلام مهمّ، لا يحتمل التأويل، قاله في هذا الاتجاه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر خلال خطابه السنوي «حال الاتحاد». على مسمع نواب دول التكتل الاوروبي، أثناء جلستهم العامة في ستراسبورغ، قال في كلمة معدّة مسبقاً إنه «يجب ألا نكون ساذجين، القوة الناعمة ليست كافية في جوارنا الخطر على نحو متزايد».
أين أوروبا من مطبخ الحل السوري؟
هناك مثال يمكن أن يسوّق مباشرة فكرتهم للجمهور، كما قال يونكر «خذوا القتال الوحشي في سوريا، تبعاته على أوروبا فورية. الهجمات في مدننا من إرهابيين تدربوا في مخيمات داعش، لكن أين هو الاتحاد، أين دوله الأعضاء، في المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية» سورية. هنا لا يترك مجالاً للتكهن، معلناً أن أوروبا ستدفع لاحتلال مكان بين طباخي الحلّ السوري، عبر وجود الممثلة العليا لسياسته الخارجية فيديريكا موغيريني.
قال رئيس المفوضية مسهباً في محاججته تلك: «نحتاج لأن تصبح (موغيريني) وزيرة خارجيتنا الأوروبية، التي تجمع من خلالها كل الخدمات الديبلوماسية، للدول الكبيرة والصغيرة على حدّ سواء، من أجل تحقيق النفوذ في مفاوضات دولية»، قبل أن يضيف «لهذا أدعو اليوم إلى استراتيجية أوروبية لسوريا، فيديريكا يجب أن يكون لها مقعد على الطاولة حينما يجري تقرير مستقبل سوريا، بحيث يمكن لأوروبا المساعدة في إعادة بناء دولة سورية مسالمة وتعددية».
بعد سنوات من خروج بيان «جنيف واحد»، واللقاءات الأميركية - الروسية، بدا الأوروبيون راضين عن صيغة «مجموعة الدعم الدولية لسوريا». المجموعة انطلقت عقب الاتفاق النووي مع إيران، بعدما طرح الأوروبيون ضرورة إيجاد صيغة مشابهة تشرف على إدراة الملف السوري. معها خرجت اجتماعات فيينا بإعلانات مهمة، لكن الثنائي الدولي عاد لخلواته المغلقة، فيما الآخرون، بدرجات مختلفة، ينتظرون إطلاعهم على خلاصة التفاهمات.
على ذلك الأساس، ليست جديدة الشكوى من طريقة إدارة الملف السوري، وإن كانت المرة الأولى التي تظهر علناً. سبق لمصادر ديبلوماسية أوروبية أن نقلت لـ «السفير» أجواء ذلك الاحتجاج، موضحة أن الدول الأوروبية باتت تلمس تكريساً لحصرية إنتاج التسويات بالثنائي الأميركي ـ الروسي، ما جعلهم يحتارون أحياناً حيال جوهر التفاهمات المولّدة لاتفاقات التسوية.
مع ذلك، مصدر أوروبي متابع للملف شدد على أن الإطار «لا يحتاج تكهنات»، معتبراً أن الحلّ لا يزال يتأرجح بين أي مستوى وشكل من الفدرالية سيعتمد في النهاية: «أعتقد أن الوجهة النهائية لم تتضح بعد، القاعدة المعروفة لتسوية نزاع مسلح كهذا هي تقاسم النفوذ: إما تقاسم السيطرة على مراكز السلطة (محاكاة للحل اللبناني)، أو تقاسم النفوذ عبر السير في حل التقسيم». يبدو الكلام مجافياً لإعلانات دولية متكررة عن إجماع على بقاء سوريا موحدة. لكن، في هذا السياق، يمكن الإشارة لقول وزير الخارجية الأميركي جون كيري إن اتفاق التهدئة الحالي يمثل «الفرصة الأخيرة» أمام سوريا الموحدة.
طموحات غير ناعمة!
على كل حال، الترويج لمشروع الجيش الأوروبي لم يكن يحتاج العناوين الآنية، حينما تحدثت عنه موغيريني لسفراء الاتحاد الأوروبي خلال مؤتمر لهم في بروكسل بداية الشهر الحالي. كانت تربط ذلك بعناوين «الاستراتيجية الدولية» التي طرحت عبرها منظوراً لآفاق قوة أوروبا وإمكانياتها، مؤكدة أنه طموح ستصرّ على ترجمته العملية. قالت إن ثمة ضرورة للعمل العسكري الأوروبي المستقل عن واشنطن: «العمل مع الشركاء لا يتعارض مع تقوية قدراتنا على العمل على نحو مستقل بالنسبة للدفاع والأمن، لأنه في عالم اليوم يشكل التعاون (العسكري) داخل الاتحاد الطريقة الوحيدة التي يمكننا عبرها، نحن الاوروبيين، تحمل مسؤولية أمننا المشترك».
واشنطن تساهم بما يزيد عن 70 في المئة في موازنة الأطلسي. الأصوات الأميركية، من معسكر الجمهوريين والديموقراطيين، تصبّ في الخانة ذاتها: انتقاد الدول الأوروبية لعدم تقوية قدراتها العسكرية وتطويرها. يصعب إحصاء المرات التي دعا فيها مسؤولو الإدارة الأميركية أوروبا لزيادة إنفاقها العسكري، لبلوغ عتبة الاثنين في المئة التي يضعها الحلف الأطلسي حداً أساسياً لفعالية العضوية فيه. الأمر بالنسبة للجمهوريين بضاعة يمكن أيضاً بيعها للغاضبين الأميركيين. المرشح دونالد ترامب كرر مراراً مقته لمنظمة «الناتو»، فقبل أن يعتبر أنه هيكل عتيق، قال إنه حلف يجعل أميركا تدفع لحماية الآخرين.
ليس هناك ما يُخجل الأوروبيين في تلك التوصيفات، فهم أنفسهم يعترفون بأنها تمثل الوضع القائم. طرح بناء قوة عسكرية عظمى لأوروبا، بالتوازي مع كونها التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم، الذي يحظى بدعم متزايد. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قال مزكياً المبادرة: «علينا البقاء في الناتو والمشاركة في نشاطاته، لكن ينبغي على أوروبا تنظيم نفسها من داخل التكتّل لأنها لا يمكنها الاعتماد على قدرات قوة من الخارج للدفاع عن نفسها».
كل المؤشرات تؤكد أن التدشين السياسي للمبادرة سيجري خلال قمة الزعماء الأوروبيين، يوم الجمعة في العاصمة السلوفاكية براتيسلافا. قادة 27 دولة معنيون الآن بمناقشة مستقبل التكتّل بعد قرار بريطانيا الخروج منه. إنها المناسبة الأمثل لطرح الموضوع. بريطانيا كانت معترضة بشدة على أي مناورة، ولو من بعيد، لإنشاء جيش أوروبي، لتذكّر بأن المعاهدة الأوروبية تعتبر أن «الناتو» هو «الدعامة الأساسية» للأمن الأوروبي. رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك كان على سفر متواصل لإعداد جدول أعمال القمة. لفت في رسالة الدعوة لها إلى أهمية موضوع القوة العسكرية الأوروبية، معتبراً أن «موضع عجزنا، مقارنة بقوى عالمية أخرى، يمكن رؤيته في السياسة الخشنة».
«شنغن دفاعية» للمترددين
مصادر المبادرة تأتي من منابع عديدة. بعد حديث موغيريني عن ضرورة التحرك العسكري «المستقل» لأوروبا، وصلت مكتبها قبل أيام مبادرة ناجزة موقعة باسم وزيري دفاع المحرك الأوروبي: ألمانيا وفرنسا. ورقة المبادرة تسربت لصحافة البلدين، ليجري التنويه بأن إطلاقها جاء خلال قمة وارسو لحلف «الناتو» في تموز الماضي. يدعو الوزيران لإنشاء مقر قيادة موحدة للعمليات العسكرية الأوروبية، تمويل أوروبي مشترك للأبحاث العسكرية، ميزانية أوروبية موحدة للمشتريات على رأسها: طائرات الشحن والتموين الجوي، الأقمار الصناعية، بنية للدفاع السيبراني، طائرات الاستطلاع من دون طيار وغيرها.
فرنسا لم تكن في حجرة القيادة منذ البداية، كانت مترددة باعتبار القدرات العسكرية الكبيرة التي تمتلكها. الآن تأتي لتدعم وتلتحق بمبادرة كانت قد أطلقتها ألمانيا في الأساس، قبل الحديث عن ضرورات التغليف الحالية، ومن ضمنها تقديرات المفوضية الأوروبية بأن نقص التعاون في المجال العسكري يكلف الدول الأوروبية ما بين 25 إلى 100 مليار يورو سنوياً. لكن وزيرة دفاع ألمانيا أرسولا فان دير لاين، عرضت، قبل سنتين تقريباً، الجيش الأوروبي كرافعة حتمية للمشروع الأوروبي.
هناك بعض المترددين، مثل دول تلتزم وضعاً محايداً، السويد وايرلندا، ودول تخشى من استخدام أحزاب اليمين المتطرف لعنوان التخلي عن المزيد من السيادة. لكنّ لدى برلين حلاً لكل ذلك، كما قالت وزيرة دفاعها: «لقد حان الوقت للمضي قدماً باتجاه اتحاد دفاعي أوروبي، سيكون أساساً شنغن دفاعية، هذا ما يتوقعه منا الأميركيون»، في إشارة لمنطقة التنقل الحر، من دون فيزا، التي بدأت مع مجموعة أساسية قبل أن تنضم إليها دول أخرى لاحقاً. وزيرة الدفاع شددت على الناحية النفعية، معتبرة أنه «حينما تكون التهديدات تحيط بنا، فنحن نعلم أن لا بلد وحده يمكنه إدارة ذلك، لكن نحن الأوروبيين سنكون معا أقوياء جداً إذا حسنّا قدراتنا».
انطلاق المبادرة من برلين ليس بلا معنى. ألمانيا تواصل النمو كقوة اقتصادية وازنة دولياً، غير أنها محرك لأوروبا، كما أنها لم تعد تخفي طموحها للعب دور دولي، بما في ذلك مطالبها بإصلاح مجلس الأمن الدولي المقصاة عنه. الاتحاد الأوروبي يبقى المجال الحيوي الأمثل للعب هذا الدور، حتى أن الحكومة تحدثت، في استراتيجيتها الأمنية، عن فتح الجيش الالماني أمام جنود أوروبيين من دول أخرى.
في النهاية، روسيا تأتي في صلب موجبات التحرك الأوروبي. هي الجار المتاخم، المنافس، صاحب القوى العسكرية العظمى ورأسمالها الأساس لفرض موقعها الدولي، ثم هناك تجربة الصدام الحتمي معها، كما حصل في أوكرانيا. قبل ذلك، وبعده، تبقى مواجهة روسيا أحد أهم أسباب نشوء «الناتو» وإدامته. لذا ستكون الدعامة الأوروبية العسكرية مهمّة في السياق ذاته، علاوة على أنها الأداة الوحيدة، كما خلص الأوروبيون، لفرض موقع على طاولة دولية لا تعترف إلا بالقوة الخشنة.