أزمة قانون بناء الكنائس في مصر.. والرهانات الخاسرة

أزمة قانون بناء الكنائس في مصر.. والرهانات الخاسرة

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٦ أغسطس ٢٠١٦

«تعلن الكنيسة أن هذه التعديلات سوف تُسبّب خطراً على الوحدة الوطنية المصرية بسبب التعقيدات والمعوقات التي تحويها، وعدم مراعاة حقوق المواطنة والشعور الوطني لدى المصريين اﻷقباط». هكذا عبّرت الكنيسة المصرية عن احتجاجها على تعديلات أدخلتها الحكومة على مشروع قانون بناء الكنائس، من دون الرجوع إليها. البيان الصادر قبل أسبوع جاء مقتضَباً وعبّر عن نفاد صبر الكنيسة إزاء المماطلة في إصدار قانون بناء الكنائس.
فعلى الرغم من انعقاد 14 جلسة حوار على الأقل بين ممثلي الكنيسة والحكومة وجهات أخرى، والوصول إلى ما يشبه الصيغة التوافقية على مسودة القانون، فوجئ ممثلو الكنيسة قبل أسبوع خلال اجتماع مع ممثلي الحكومة بإدخال تعديلات «غير مقبولة وغير عملية» على المسودة التي اتُفِق عليها دون الرجوع إليهم، بحسب البيان الصادر عن الكنيسة، والذي أضاف أن «القانون ما زال قيد المناقشة ويحتاج إلى نية خالصة وحسّ وطني عالٍ ﻷجل مستقبل مصر وسلامة وحدتها».
المشهد يبدو متناقضاً بوضوح مع مشهد «الثالث من يوليو 2013»، عندما ظهر البابا تواضروس الثاني جالساً بجوار شيخ الأزهر خلف وزير الدفاع حينها عبد الفتاح السيسي، وهو يعلن خريطة الطريق وينحي محمد مرسي عن الحكم.
لم تقف الكنيسة في وقتها بكل ثقلها خلف خريطة الطريق التي أعلنها السيسي، ولكنها ايضاً مارست أقصى درجات ضبط النفس، عندما انطلقت موجة الاعتداء على الكنائس في إجراء انتقامي من جماعة الإخوان ومناصريها من الجماعات المتطرفة عقب «مذبحة رابعة».
وصول جماعة سياسية دينية، لا يخلو خطابها وممارستها من الطائفية، دفعت الكنيسة والأقباط للاصطفاف بكل قوة خلف الدولة للتخلص من حكم تلك الجماعة، وانعقدت ساعتها الآمال على بناء الدولة المدنية، التي لا تميز بين مواطنيها على أساس الدين أو الجنس.
تلك الآمال لم تدم كثيراً. فسرعان ما عادت المشاحنات الطائفية تطفو على السطح مرة أخرى، سواء كانت من قبل التيار السلفي، والذي كان بدوره شريكاً في خريطة الطريق، واستمر في ترديد الخطاب الطائفي بلا توقف، وانتهز فرصة الأعياد والمناسبات المسيحية ليؤكد على موقفه وخطابه، أو من خلال ردود أفعال شعبية على بعض الحوادث، مثل إقامة صلاة مسيحية في غير أماكن العبادة، أو قصة عاطفية بين شاب وفتاة من ديانتين، وغيرها من الحوادث التي كشفت النوازع الطائفية في الأوساط المختلفة.
ولكن الأزمة الأخيرة التي فجرها مشروع قانون بناء الكنائس تختلف عن الأزمات السابقة كافة. فالأحداث الطائفية التي وقعت في أماكن مختلفة في مصر كانت عادةً ذات طابع شعبي، وليس رسمي. وإن كان هناك دائماً هجوم على الدولة في معالجتها لتلك الحوادث، إلا أن الإدانة المباشرة كانت للثقافة الطائفية والغوغائية.
مشروع قانون الكنائس مثّل أزمةً طرفاها المباشران الدولة والكنيسة. فالبيان الصادر من الكنيسة يبدو مختلفاً في لهجته عن مواقف الكنيسة السابقة، ويحمل اتهاماً مبطناً للحكومة بعدم مراعاة المواطنة والشعور الوطني للأقباط.
هكذا، بعدما لعبت الكنيسة والحكومة دور الحكماء في كل أزمة طائفية، بدا اليوم التناقض بين الاثنتين واضحاً. فالكنيسة قامت تجاه الدولة بواجبها كاملاً وساندتها في الأوقات الصعبة، والدولة التي وعدت بحقوق المواطنة والقضاء على التمييز تتجاهل اليوم استحقاقاً مهما للأقباط.
وعلى الرغم من أن لقاءات تالية بين مسؤولين في الدولة وممثلين للكنيسة حاولت تهدئة الأزمة والتوصل إلى صيغة توافق، إلا أن الأزمة نفسها خلقت أجواء من عدم الثقة بين الأقباط والحكومة.
جورج إسحاق، عضو «المجلس القومي لحقوق الإنسان»، يقول في حديثه لـ «السفير» إنه «في الحقيقة، يجب أصلاً أن نشعر بالخجل من الحديث عن قانون لبناء الكنائس، فهذا أيضاً ضد مبدأ المواطنة والمساواة. يجب أن يكون الحديث عن تنظيم بناء دور العبادة عموماً. القانون في حد ذاته إهانة للدستور والمواطنة».
ويضيف إسحاق: «ولكن حتى مع القبول بهذا السياق، نجد الحكومة تتعمد خلق أزمة. كلما تمّ الاتفاق على صيغة، تُغير الحكومة بها، لتصنع أزمة».
ويؤكد إسحاق أن «هناك ضرورة لتجديد الفكر الديني وليس فقط الخطاب الديني. فالخطاب نتاج الفكر. وهناك عوامل اقتصادية وثقافية واجتماعية تلعب دوراً في خلق الأزمة الطائفية. فمثلاً المناطق التي ظهرت بها مشاحنات طائفية مناطق تعاني بالفعل من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، وتحتاج لتطوير، كذلك الثقافة العامة في المجتمع تنمي الطائفية. كما أن الدولة نفسها تدعم تلك الطائفية بسياسة تتضمن التمييز، مثل استبعاد الأقباط من بعض المناصب».
ويشير إسحاق إلى أنه «كانت لدينا فرصة ذهبية في ثورة يناير لتجاوز الطائفية، عندما كان المجتمع منصهرا في بوتقة واحدة، ولكننا للأسف أفلتنا تلك الفرصة. كذلك لم يكن من الصواب أن نتوقع دولة مدنية حديثة من إعلان لوزير الدفاع محاط برموز دينية، هذا في حد ذاته ضد مبدأ مدنية الدولة».
تطور الأحداث في السنوات الماضية قد يحمل تفسيراً منطقياً لما آلت إليه الأوضاع الطائفية. فخلال مواجهة الدولة لجماعة «الإخوان المسلمين»، كانت بالفعل تزعم أنها ستقضي على الجماعة الدينية في سبيل بناء دولة مدنية. ولكن ما قامت به بالفعل، هو أنها وظفت المؤسسات الدينية الرسمية سواء الإسلامية أو المسيحية، وكذلك التيار السلفي في معركتها ضد جماعة الإخوان. بدا الأمر كما لو أن تنافساً على أي الخطابين يمثل صحيح الدين. كانت الدولة تستخدم الحديث في مواجهة الحديث، والآية في مواجهة الآية، والفتوى في مواجهة الفتوى. كان إضعاف جماعة «الإخوان» لمصلحة تقوية المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة، وهو ما أدى إلى ترسيخٍ أكثر للخطاب الديني والثقافة الطائفية، وليس لمفاهيم المواطنة والدولة المدنية.
رسبت الدولة بامتياز في اختبار المواطنة والقضاء على التمييز، ليس فقط لأنها فشلت في مواجهة الأحداث الطائفية، واتبعت الخطاب الإعلامي الموروث ذاته من عهد حسني مبارك، ولكن لأنها هي نفسها كانت أكثر حرصاً على تدعيم خطابها الديني في كل مناسبة، وكانت بالمرصاد لأي محاولة للاجتهاد وتجديد الخطاب الديني وإزالة النزعات الطائفية.
ولكن الدولة لم تكن الراسب الوحيد في الفترة الماضية. فالكنيسة التي نجحت بالفعل في حشد الأقباط خلف الدولة منذ «30 يونيو»، تجد نفسها اليوم في مأزقٍ حقيقي. فالدولة التي صورتها ملاذ للأقباط من الجماعة الدينية، لا تبدو عازمة على مواجهة جدية مع الطائفية ولا تسعى بالفعل إلى إزالة أشكال التمييز كافة. فحتى القانون الذي انتظره الأقباط لتنظيم بناء الكنائس، تتلاعب الدولة نفسها في إصداره. ورغم عدم إعلان التعديلات التي احتجت عليها الكنيسة رسمياً، إلا أن التسريبات التي ظهرت تشير إلى أنها تتعلق بالحصول على موافقات جهات تنفيذية وأمنية ووضع عراقيل بيروقراطية أمام بناء الكنائس. لا يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في الحكومة فقط، ولكن أيضاً إلى فقدان الثقة ولو جزئياً في الكنيسة من جانب قطاع من الأقباط.
والحقيقة أن علاقة الأقباط بالكنيسة كانت قد بدأت بالتغير مع «ثورة يناير»، وضعفت بشكل ملحوظ هيمنة الكنيسة على جموع الأقباط، وظهرت حركات قبطية خارج سيطرة الكنيسة، وزادت بالفعل مشاركة الأقباط في الحياة السياسية بشكل مستقل عن الكنيسة. ولكن مع صعود جماعة الإخوان المسلمين وتنامي النزعات الطائفية، عادت الكنيسة كملاذ مرة أخرى، ما جعلها تنجح في حشد الأقباط خلف الدولة. ولكن مع تهافت رهانات الكنيسة، يمكن أن تفقد السيطرة، خاصة على القطاعات الشابة من الأقباط، والتي جربت بالفعل العمل خارج هيمنة الكنيسة من قبل. ولكن يبقى ذلك مرهوناً بمدى انفتاح المجال السياسي والاجتماعي لاستيعاب الأقباط أو غيرهم في الفترة المقبلة.