كيف هزم حزبُ الله «إسرائيل»؟

كيف هزم حزبُ الله «إسرائيل»؟

أخبار عربية ودولية

الخميس، ٢٥ أغسطس ٢٠١٦

لا شكّ في أنّ الانتصار الكبير الذي حقّقته المقاومة على الجيش الصهيوني في تمّوز 2006، ملأ الدنيا وشغل الناس، وحير الدول العظمى، وأصاب بعضها بإحباطٍ ما بعده إحباط، وجعل بعض الدول العربية المتعاونة حتى النخاع مع الكيان الصهيوني تشعر بذلّ ما بعده ذلّ، خصوصاً بعدما وصفت قتال حزب الله ضدّ الصهاينة بـ«المغامرة». وفي المقابل، امتلأت قلوب جمهور المقاومة والشعوب العربية المتحرّرة من قيد الاستزلام للصهاينة، بمشاعر العزّ والإباء والبطولة.

ولا شكّ في أنّ هذا الانتصار الكبير، شغل المحلّلين العسكريين، محليين وعالميين، فكيف لمقاومة أن تكسر شوكة «الجيش الذي لا يُقهَر»، لتتحوّل الضمّة على الياء في «يقهر» إلى فتحة، فيصبح هذا الجيش ـ الجيش الصهيوني ـ جيشاً لا يَقهر، ولا قوّة لديه لأن يَقهر، إذ إنّ الذلّ سيلحق به حتى اضمحلاله.

كثرت التحليلات العسكرية، وكثرت المقالات الصحافية، والمقابلات التلفزيونية التي حاولت تفنيد هذا الانتصار وتحليله وفكّ عقده. وفي ما يلي، قراءة من ثلاث حلقات، ننشرها تباعاً، قدّمها كل من آلاستير كروك ومارك بيري لصحيفة «آسيا تايمز».

وتجدر الإشارة إلى أنّ الكاتبين آلاستير كروك ومارك بيري، شاركا في إدارة منتدى النزاعات، وهي مجموعة مقرّها لندن تكرّس عملها للانفتاح على الإسلام السياسي. وكروك هو المستشار السابق للممثل السامي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط خافيير سولانا، كما شغل منصب موظف في لجنة «ميتشيل» للتحقيق في الأسباب التي أدّت إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أما بيري فهو سياسي ومستشار في واشنطن وألّف ستة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة، فضلاً عن أنه عمل سابقاً كمستشار شخصي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

على رغم مرور عشر سنوات، إلّا أنّ هذه الدراسة لا تزال مثيرة للاهتمام اليوم. الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا التقرير، تتناول تفوّق حزب الله سياسياً على الكيان الصهيوني.

في أعقاب الحرب بين حزب الله و«إسرائيل»، أجري استطلاع للرأي العام في مصر طاول شريحة كبيرة من السكان حول تسمية اثنين من القادة السياسيين الأكثر إثارةً للإعجاب. فكانت النتيجة أن عدداً كبيراً ممّن شملهم الاستطلاع أجابوا أنه السيّد حسن نصر الله، أما الشخصية الثانية فكانت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.

وأظهر هذا الاستطلاع رفضاً واضحاً، ليس فقط للرئيس المصري حسني مبارك، الذي جاهر بآرائه المعروفة ضدّ حزب الله في بداية الصراع، إنما أيضاً لمعظم القادة السنّة، بمن فيهم الملك السعودي عبد الله والملك الأردني عبد الله الثاني، الذي انتقد الشيعة بشكل علنيّ في محاولة منه لتحويل العالم السنّي بعيداً من دعمه لإيران.

«مع نهاية الحرب يتدافع هؤلاء الرجال من أجل إيجاد مخارج ملائمة»، يصرّح أحد الدبلوماسيين الأميركيين في المنطقة آب الماضي، ثم يضيف: «فنحن لم نعُد نسمع منهم كثيراً مؤخراً، أليس كذلك؟». ولا يقتصر هؤلاء على مبارك والملكين ـ أي المنفذين الرئيسيين لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، حتى إبان انتشارها العنيف والرهيب في العراق، والفوضى التي تنشرها على نحوٍ متزايد. ويصرّح دبلوماسيّ آخر: «ما يعني أن جميع الأبواب أصبحت مغلقة أمامنا، في القاهرة، في عمّان، في السعودية. فعندما نحاول الاتصال بأحدهم، لم نعُد نلقى أيّ إجابة».

ويمكننا الاطّلاع على تعويذة هذا الانهيار، من خلال الرحلة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، ومصداقيتها التي دُمّرت بسبب فشلها في إقناع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بإيقاف القتال، وتصريحها الشهير حول «مخاض» ولادة شرق أوسط جديد.

وكان من الواضح أن الولايات المتحدة حاولت استرداد مكانتها من خلال دعم خطة السلام «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية، غير أن الخنق الأميركي المستمرّ الذي تمارسه على الحكومة الفلسطينية المؤلفة ديمقراطياً، أدّى إلى إماتة البرنامج السياسي في مهده. وسبب ذلك أصبح الآن واضحاً للغاية. ففي خضمّ هذه الحرب الدائرة، صرّح مسؤول أوروبيّ رفيع المستوى في القاهرة عن العواطف التي تؤرّق البيئة السياسية المصرية قائلاً: «تسير القيادة المصرية في جانب والشعب المصري في جانب آخر مختلف تماماً».

إن الفشل الذريع للجيش «الإسرائيلي»، قد جعل من فكرة قيادة إيران العالم الإسلامي، فكرة مقبولةً في عدد من المناطق الحسّاسة. أولاً، أكد نصر حزب الله أن «إسرائيل» ـ وغيرها من الجيوش الغربية الحديثة والمجهزة تكنولوجيّاً ـ يمكن أن تُهزم في معركة مفتوحة، طالما يتمّ توظيف التكتيكات العسكرية بشكل صحيح، ويستمرّ ذلك على مدى فترة طويلة. وقد قدّم حزب الله النموذج الجيد لهزيمة جيش حديث. أما التكتيكات فهي بسيطة للغاية: ركوب الموجة الأولى للحملة الجوّية الغربية، نشر القوات الصاروخية التي تستهدف الأصول العسكرية والاقتصادية الرئيسية للعدوّ، ثمّ النجاة من الحملة الجوّية الثانية الأكثر أهمية، وإطالة أمد فترة الصراع لفترة طويلة. وفي مرحلة ما، كما في حالة هجوم «إسرائيل» على حزب الله، سيُضطرّ العدوّ إلى طلب قوّاته البرّية لإنجاز ما فشلت القوّات الجوّية في تحقيقه. إن الألم هائل، فما أصيبت به هذه المؤسسة العسكرية الحديثة التجهيز والتدريب، لا شكّ أنه محرجٌ للغاية.

ثانياً، أظهر نصر حزب الله لشعوب العالم الإسلامي أن الاستراتيجية التي تستخدمها الحكومات العربية والإسلامية المتحالفة مع الغرب، والتي تتّبع سياسة استرضاء مصالح الولايات المتحدة أملاً في كسب المكافآت السياسية الموضوعية الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، تسعيرٌ عادل للموارد الشرق أوسطية، عدم التدخل في الهيكلة السياسية للمنطقة، انتخابات حرّة ونزيهة ومفتوحة لا يمكن وسوف لن تنجح. كما يوفر نصر حزب الله نموذجاً آخر مختلفاً، من تحطيم وتدمير للهيمنة الأميركية في المنطقة. ومن بين الحدثين الأخيرين الأبرز في الشرق الأوسط، اجتياح العراق وهزيمة حزب الله لـ«إسرائيل»، فإن الأخير يبدو أكثر أهمية بما لا يُقاس. وحتى الجماعات المناهضة لحزب الله، بما فيها تلك السنّية المرتبطة بحركات المقاومة الثورية والمعادية للشيعة «الرافضة والمرتدّين»، تستقبل هذا الواقع بمزيد من التقبّل والتواضع والأسى.

ثالثاً، ترك انتصار حزب الله أثراً مدمّراً على حلفاء أميركا في المنطقة. فقد أخذ مسؤولو الاستخبارات «الإسرائيلية» في حسبانهم أن حزب الله سيتمكّن من الصمود لمدّة ثلاثة أشهر في حربٍ استمرّت حتى منتصف آب. وقد عكست حسابات حزب الله النتائج «الإسرائيلية»، مع تحذيرات من أنه لا يمكن التنبؤ بأيّ من التبعات التي قد تصدر عن القيادة الإيرانية أو حزب الله بعد نصر هذا الأخير. وبينما منعت الاستخبارات الأردنية قيام أيّ تظاهرات مؤيّدة لحزب الله، كانت الاستخبارات المصرية تكافح من أجل عدم إظهار الاستياء العارم من الشعب نتيجة القصف «الإسرائيلي» للبنان.

إن الدعم المفتوح الذي لقيه حزب الله في العالم العربي بما في ذلك الصور التي انتشرت كالنار في الهشيم للسيد حسن نصر الله وخصوصاً في الأوساط المسيحية ، حدا بالحكام العرب إلى التقرّب أكثر من الولايات المتحدة: فزيادة التآكل في وضعهم الحاكم قد يؤدّي إلى التخفيف من قبضتهم على دولتهم. ويبدو واضحاً أنه ونتيجةً لذلك، فإن مبارك والملكين لن يدعما أيّ برنامج أميركي يهدف إلى وضع قيود سياسية، اقتصادية وعسكرية على إيران. فالحرب المستقبلية ـ والتي قد تكون عسكرية ضدّ منشآت إيران النووية ـ قد لا تؤدّي إلى الإطاحة بالحكومة في طهران، بل قد تزعزع حكومات مصر، الأردن وربما السعودية.

وهناك نقطة لا شكّ أنها في غاية الأهمية بالنسبة إلى الصراع «الإسرائيلي» ـ حزب الله، تكمن في التساؤل عما إذا كانوا قادرين على مواصلة سيطرتهم على تحرّكاتهم، أو ما إذا كانوا خائفين من أيّ حركة سياسية تدفع بالمتظاهرين إلى الشوارع. وهناك فكرة فريدة في توجّهها، تُثار الآن في أروقة السياسة الاستخبارية الأميركية، وهي أنّ «إسرائيل»، لا حزب الله، وتحديداً منذ 10 آب، هي من تبحث عن مخرجٍ لإنهاء الصراع.

رابعاً: أضعف انتصار حزب الله الحكومة «الإسرائيلية» بشكل خطير. فبعد هزيمة «إسرائيل» في حرب 1973، قرّر رئيس الوزراء آنذاك، مناحيم بيغن قبول اقتراح السلام من الرئيس المصري أنور السادات. وكان هذا ـ في الواقع ـ اختراقاً متواضعاً جداً، حيث كان الطرفان حليفين أساسيين للولايات المتحدة. بينما الأمر على العكس من ذلك تماماً بالنسبة إلى حرب «إسرائيل» ـ حزب الله.

تعتقد «إسرائيل» أنها قد فقدت قوّات الردع لديها، وأنه لا بدّ لها من استردادها. ويؤكد بعض المسؤولين «الإسرائيليين» في واشنطن الآن، أن المسألة ليست مسألة «إذا»، بل «متى» تذهب «إسرائيل» إلى الحرب مجدّداً. ومع ذلك، فإنه من الصعب على «إسرائيل» أن تقوم بذلك. فإن القتال ضدّ حزب الله والانتصار عليه سوف يحتاجان حتماً إلى إعادة تدريب الجيش «الإسرائيلي» وتجهيزه. وتماماً، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية بعد كارثة فييتنام، ستُضطرّ «إسرائيل» إلى إعادة هيكلة قيادتها العسكرية وإعادة بناء أصولها الاستخبارية. وسوف يتطلّب ذلك منها سنوات معدودة لا شهوراً فقط.

قد يكون على «إسرائيل» أن تختار في عملياتها المستقبلية، نشر عدد أكبر من الأسلحة ضدّ أهداف أوسع. وبالنظر إلى أدائها في لبنان، يمكن لهذه الاستخدامات أن تعطي استجابة أوضح وأقوى من أيّ وقت مضى. غير أن هذا ليس وارداً. فإن أيّ هجوم أميركيّ على منشآت إيران النووية، سوف يلقى ردّاً مماثلاً من الصواريخ الإيرانية على منشآت «إسرائيل» النووية ـ وعلى المراكز السكانية «الإسرائيلية». ما من أحد يمكنه أن يتكهّن بردّ فعل «إسرائيل» تجاه هذا الهجوم، غير أنه من الواضح وبالنظر إلى موقف بوش في الصراع الأخير فإن الولايات المتحدة لن تقوم بشيء لإيقاف ما يحدث. إذ إنّ «البيت الزجاجي» لمنطقة الخليج الفارسي، والمتواجدة في مرمى الصواريخ الإيرانية، سوف تؤكد انهيار هذه الفكرة.
خامساً، يعني انتصار حزب الله نهاية الأمل لأيّ حلّ للصراع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني، أقلّه في المدى المنظور. وحتى مع تقويض الشخصيات السياسية «الإسرائيلية» «التقدمية» لمواقفهم السياسية من الدعوات إلى المزيد من القوة، المزيد من القوات والمزيد من القنابل. وخلال اجتماعاتهم الخاصة مع حلفائهم السياسيين، انتقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أولئك المهلّلين لانتصار حزب الله ووصفهم بأنهم «أنصار حماس» و«أعداء إسرائيل». ويبدو عباس في موقف أكثر ضعفاً من مبارك والملكين عبد الله، وفي حين يصرّ شعبه على دعم حماس، يصرّ هو على الانقياد العبوديّ لاتفاقه مع جورج دبليو بوش، الذي أخبره على هامش اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أنه يشكل إنهاءً لكلّ المحاولات الرامية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مع مواطنيه.

سادساً، أدّى انتصار حزب الله إلى تبعات سيئة على تعامي القيادة السياسية «الإسرائيلية» عن الحقائق الواضحة لمواقعهم الاستراتيجية. ففي خضمّ الحرب على لبنان، اعتمد رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إيهود أولمرت لغة بوش في «الحرب على الإرهاب»، مذكّراً شعبه على الدوام بأن حزب الله هو جزءٌ من «محور الشرّ». وقد عزّزت تصريحات أولمرت هذه مواقف بوش، خصوصاً خلال أدائه لخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أتى على ذكر تنظيم «القاعدة» مرّةً واحدة، بينما ذكر كلّاً من حزب الله و«حماس» خمس مرات. ويبدو أن الولايات المتحدة و«إسرائيل» تنويان المشاركة في تقرير مصير دول المنطقة بهدف تدعيم حركة هؤلاء الجهاديين والتكفيريين وتحضيرهم لإحراق المنطقة.

ولا يمكن لـ«إسرائيل» الآن الاعتماد على أقوى مؤيّدي الولايات المتحدة، فشبكة المحافظين الجدد هذه، ترى «إسرائيل» على أنها جزيرة من الاستقرار والديمقراطية في المنطقة. ويستنكر المحافظون الجدد أداء «إسرائيل»، فمع أصدقاء مثل هؤلاء، من ذا الذي يحتاج إلى أعداء؟ وكما صرّح أحد زملائنا جيف أندرسون أنه لو كان الأمر عائداً إلى الولايات المتحدة، لكانت «إسرائيل» استمرّت في القتال، فالولايات المتحدة الأميركية مصرّة على استكمال محاربة الإرهاب حتى آخر قطرة من «الدم الإسرائيلي».

ويصرّح أحد الجنرالات «الإسرائيليين» أن انتصار حزب الله قد شكّل في الحقيقة حالةً جيدة لقتل المزيد منهم. وسوف يقود هذا الواقع إلى مأساة. ففي ضوء عدم قدرة أميركا على إحداث التغيير في الشرق الأوسط، هناك أملٌ في واشنطن من إمكانية إظهار أولمرت لبعض الشجاعة السياسية للبدء بالمسار الطويل لإيجاد السلام. سيكون مساراً مؤلماً وشاقاً، مليئاً بالنقاشات الحادّة والصعبة، وقد تعني في مكان ما قطيعة مع البرنامج الأميركي في المنطقة. لكن الولايات المتحدة لا تعيش في المنطقة، بينما تفعل «إسرائيل». وفي ما يُعتبر إجراء حوار سياسيّ مع جيرانها أمراً مؤلماً، فسيكون بالتأكيد أقلّ إيلاماً من خسارتها الحرب في لبنان.

سابعاً: تعزّز موقع حزب الله في لبنان بما لا يُقاس، وكذا موقع حلفائه. ففي ذروة الصراع، استقبل المسيحيون اللبنانيون اللاجئين الشيعة في منازلهم. كما

دعم القائد المسيحي ميشال عون حرب حزب الله. وقال أحد القادة في الحزب: «لن ننسى أبداً ما فعله هذا الرجل لنا، ولا حتى لجيلٍ بكامله». احتفل الشيعة بموقف عون وأعربوا عن تأييدهم آراءه السياسية.

ومن الناحية الأخرى، فإن القيادة السنّية، قتلت نفسها بتقويض موقفها الغامض ونهجها الغائب عن حيثيات مجتمعها الخاص. ففي الأسبوع الأول من الحرب، شكّكت هذه القيادة بأفعال نصر الله على شكلٍ واسع النطاق. أما في نهاية الحرب، فقد دعمتها بصلابة، لتتّسع رقعة الانقسامات السياسية والطائفية في ما بينها. فأمام القيادة السنّية في الوقت الحالي خيارٌ واحد: تشكيل حكومة وحدة وطنية تتضمّن قادةً جدداً، ما من شأنه أن يخلق حكومة أكثر تمثيلاً يمكنها قيادة الانتخابات. فالأمر لا يتطلّب عبقرية سياسية كي نتكهّن ما سيكون عليه لفهم أيّ خيار سينتهجه زعيم الغالبية السنيّة في لبنان سعد الحريري.

ثامناً: تعزّز أيضاً موقع إيران في العراق. ففي خضمّ الصراع في لبنان، أعرب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عن قلقه من أن الهجوم «الإسرائيلي» قد يترك آثاره المدمّرة على الجيش الأميركي في العراق، والذي واجه بالفعل عداءً متزايداً من القادة الشيعة والسكان الشيعة هناك. وكشف بيان رايس حول التظاهرات المؤيدة لحزب الله في بغداد من أنه قد جرى التخطيط لها في طهران، عن جهلها بالحقائق السياسية الأساسية في المنطقة. كذلك، يجهل الوزراء الأميركيون ووزراء الدفاع ـ ببساطة ـ أيّ شيء حول علاقة الصدر في بغداد بالصدريين في لبنان. كما لن يكون متوقّعاً أن يقوم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بتوبيخ حزب الله وأخذ جانب «إسرائيل» حيال الصراع ـ وقد أوضح ذلك خلال زيارة رسيمة له إلى واشنطن ـ من أنه مصدومٌ من توجّهات المؤسّسة السياسية في واشنطن، علماً أن «حزب الله في العراق» يشكّل أحد أهم الأحزاب في الحكومة الائتلافية العراقية.

لقد قيل لنا، إنه لا وزارة الدفاع ولا وزارة الخارجية، تمكّنت من تحقيق فهم جيد لكيفية تأثير الحرب في لبنان على موقع الولايات المتحدة في العراق، لأن أياً من وزارة الدفاع أو وزارة الخارجية، لم تطلب الإحاطة بهذه المسألة من قبل أجهزة الاستخبارات الأميركية. تنفق الولايات المتحدة سنوياً مئات الملايين من الدولارات في مجال نشاطات جمع المعلموات وتحليلها. إنها حقاً، أموالٌ تضيع هباءً.

تاسعاً: تعزّز أيضاً موقع سورية وفشل البرنامج الأميركي الفرنسي في لبنان. ما من احتمالٌ يشير إلى أن لبنان سيعلن عن تشكيل حكومة موالية لأميركا أو معادية لسورية. وقد يتمكن الرئيس بشار الأسد الاقتراح ـ في أعقاب الحرب ـ ترتيباً سياسياً مع «إسرائيل»، يظهر قوّته لا ضعفه. وقد يرسم استنتاجات دقيقة لمسار الصراع ويؤمن بأنه هو نفسه سوف يعارض «إسرائيل» ويواجهها يوماً.

لكن، وبعيداً من هذه الاحتمالات، فإن التاريخ الحديث يدلّل على أن الآلاف من الطلاب والوطنيين اللبنانيين الذين احتجوا على «التورّط السوري» في لبنان بعد مقتل رفيق الحريري، وجدوا أنهم قد لجأوا ـ في نهاية المطاف ـ إلى الخيام التي وضعتها الحكومة السورية في تصرّفهم. وكانت رايس محقة في أمرٍ واحد فقط: إن الاستعداد الذي أبدته سورية في تقديمها الملاجئ للاجئين اللبنانيين، ينبع في صميمه من سخرية سياسية ـ وهذا ما يبدو أن الولايات المتحدة غير قادرة على تكراره. فها هي سورية تقف الآن بكلّ ثقة إزاء موقعها السياسي. لأنه، وفي حقبة سابقة، كان من شأن هذه الثقة السماح لـ«إسرائيل» بتوظيف هذا الانفتاح السياسي بما يتناسب مع ألدّ أعدائها السياسيين.

عاشراً، وربما السبب الأكثر أهمية، أنه من الواضح الآن أن هجوم الولايات المتحدة الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية قد يلقى تأييداً قليلاً في العالم الإسلامي. ومن شأن هذه الخطوة العسكرية أيضاً، التسبّب بانهيار ما تبقى من السلطة الأميركية في المنطقة. فما كان يُنظر اليه قبل بضعة أسابيع على أنه معطى ثابت، أثبت الآن أنه على العكس من ذلك تماماً. فإيران لن ترضخ ولن تخاف. وإذا ما قامت الولايات المتحدة بشنّ حملة عسكرية ضدّ الحكومة في طهران، فمن المرجّح أن أصدقاء أميركا سوف يقفون متفرّجين، سترتعش الملكيات الخليجية خوفاً، سيؤخذ الجنود الأميركيين البالغ عددهم 138.000 في العراق رهائن لدى الشيعة هناك، وستسجيب إيران بالقيام بهجوم مماثل ضدّ إسرائيل . وقد نجرؤ الآن على القول بوضوح، إنه عندما تُقدم الولايات المتحدة الأميركية على خطوة كهذه، فإنها سوف تُلحق بنفسها هزيمةً نكراء.
خلاصة
إن لانتصار حزب الله في صراعه الأخير ضدّ «إسرائيل»، دلالاته الواضحة والأكثر عمقاً من تلك التحليلات التي أطلقها المحلّلون في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. نجح هذا الانتصار في التعويض عن هزيمة العام 1967 ـ التي تمكّنت فيها «إسرائيل» من إلحاق الهزيمة بمصر وسورية والأردن، وحوّلت هذه البلدان إلى مجرّد دمى ولوحات، لتضع مكانها في الواجهة أنظمة خاضعة للسياسة الخارجية الأميركية التي تعكس وتعزّز دوماً قوة «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية. القوة الآن أضحت بين أيدي قيادة جديدة تظهر في المنطقة.
أما الدرس الرئيس والوحيد لهذا الصراع، فقد يكون في خسارة كلّ من واشنطن ولندن ـ حلفاء القيم «الإسرائيلية» ـ على مستويات عليا، قتال النخب السياسية، وهذا ما سيبدو أثره واضحاً في شوارع القاهرة، عمّان، رام الله، بغداد، دمشق أو طهران. لكن لا يتوجّب عليها أن تخسرها وسط القيادة الساسية «الإسرائيلية» في القدس. فالجيوش العربية التي حاربت عام 1967، هُزمت خلال ستة أيام. بينما قاتلت قوات حزب الله في لبنان على مدى 34 يوماً وكسبت الحرب. لقد شاهدنا ذلك بأمّ أعيننا عندما كنا نتجوّل أمام مقاهي القاهرة وعمّان، حيث رأينا الفلاحين والمزارعين والعمّال البسيطين يحدّقون بشاشات التلفاز متلهفين على متابعة التقارير الإخبارية، يرتشفون الشاي، ويُحصون بصمت وحماسة توالي الأيام: «سبعة… ثمانية.. تسعة…».