مغامرة العسكر في تركيا.. انقلاب لم يدبره أردوغان، ولكن..

مغامرة العسكر في تركيا.. انقلاب لم يدبره أردوغان، ولكن..

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ١٨ يوليو ٢٠١٦

 على الرغم من دحر محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها جزء من المؤسسة العسكرية ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، إلا أن تداعيات الحدث لم تتوقف بعد.

لا تزال الكثير من المخاوف تساور المؤسسة السياسية التركية في أنقرة، وتدفعها إلى اتخاذ إجراءات سريعة وفورية واستثنائية لتفادي أي تفاصيل وأحداث إضافية، ومن أجل تطبيع الأمور والأوضاع حتى لا يتضرر الاقتصاد التركي، أو تتعرض تركيا كلها إلى هزات مشابهة لما تتعرض له بعض دول المنطقة.

في الحقيقة، لم يكن يتوقع أحد أن يجري الانقلاب بهذا الشكل، على الرغم من أن الكثير من المحللين والمراقبين والأكاديميين الأتراك، ومراكز الأبحاث والعديد من الأوساط التركية، كانوا يتحدثون طوال الوقت عن إمكانية وقوق انقلاب عسكري ضد أردوغان، أو في أحسن الأحوال انتشار احتجاجات واسعة على غرار أحداث ميدان "تاكسيم" في اسطنبول في صيف 2013 والتي وصلت إلى العاصمة أنقرة ومناطق أخرى، من بينها ديار بكر.

لا تزال الروايات والتحليلات ووجهات النظر تتوالى بشأن هذا الانقلاب والتفاصيل المحيطة به، فوصل البعض منها إلى نظرية المؤامرة وبأن أردوغان نفسه قد قام بتدبير الانقلاب على نفسه، أو أن الولايات المتحدة هي التي دبرت الانقلاب. ونظرا لانقسام الشارع العربي أيضا، فقد احتفل البعض ورقص في الشوارع في سوريا ومصر لأسباب كثيرة، من بينها معاداة أردوغان وسياساته، أو كراهية التيارات والقوى الدينية اليمينية المتطرفة وعدم الرضاء عن تنظيم الإخوان المسلمين، أو لأن سياسيات أردوغان تعادي سياسات هذا النظام العربي أو ذاك. ولكن بعد 5 ساعات من محاولة الانقلاب، وعودة أردوغان، انقلب الحال تماما، إذ بدأت دول الخليج وتنظيم الإخوان وحماس في الإعلان عن فرحتها بعودة "الشرعية" و"الديمقراطية" في تركيا.

في ظل هذا المشهد المتناقض، والذي لا يزال ينذر بالخطر، ذهب الكثيرون إلى أن أردوغان قام بتدبير هذا الانقلاب لكي يتخلص من نفوذ المؤسسة العسكرية مرة واحد وإلى الأبد، ويسيطر هو وحزبه الإسلامي المحافظ على كل مقاليد السلطة.. إلخ

وإلى جانب هذه "التهيؤات" ظهرت روايات وسيناريوهات وخيالات أخرى لتؤكد أن أوضاع الإعلام العربي، والعديد من الأوساط السياسية والدبلوماسية تعيش في عالم مواز، وتحاول تصوير ما يدور في رأسها على أنه الواقع الفعلي. ومن جهة أخرى تعامل البعض وفق منطق تاريخي، مستعينا بأحداث مشابهة. لدرجة أن البعض شبَّه محاولة الانقلاب ضد أردوغان بمحاولة الانقلاب ضد الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، وأن الرئيس الروسي في ما بعد بوريس يلتسين كان يعرف على سبيل المثال، ووفق كل الوثائق والشهادات، أن لجنة السبعة أو الثمانية ستقوم بانقلاب على ميخائيل غورباتشوف في 18 أغسطس عام 1991. وأدار يلتسين الأمور بطريقة تبدو كإنقاذ لحياة غورباتشوف وأسرته وتم القبض على الانقلابيين. ثم أجلس غورباتشوف ليوقع علنا وأمام كاميرات التلفزيون على وثيقة التنازل.

أما الانقلاب الثاني فكان من جانب ألكسندر روتسكوي وروسلان حسبولاتوف في خريف عام 1993 ضد يلتسين نفسه. وكان يلتسين يعرف كل التفاصل وترك الأمور تجري إلى أن اعتلى الدبابة أمام كاميرات وسائل الإعلام وعلى الهواء ماشرة وقصف البرلمان، ثم تم إلقاء القبض على الانقلابيين وإفشال الانقلاب.

في الحالتين كانت السفارة الأمريكية في موسكو على علم بكل التفاصيل إما عن طريق يلتسين نفسه، أو عن طريق أحد أنصاره المقربين، وفق الاعتزافات والشهادات التي تلت ذلك. هذان الحدثان يشبهان إلى حد كبير الحالة التركية. فأردوغان من حيث الهوس السياسي والرغبة في الانتقام والتوجهات السياسية، ومن حيث طريقة إجراء التحولات، يشبه بوريس يلتسين إلى حد كبير.

كل ذلك لا ينفي المشهد العام المرعب في تركيا. فهناك انقسام حقيقي ليس فقط في مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات السيادية (جيش وشرطة وخارجية ومخابرات)، بل وأيضا في صفوف الشعب الذي ينقسم عمليا بعمق، سواء مع أردوغان او ضده أو من خلال قضايا مصيرية أخرى، مثل الملف الكردي والتوجهات العلمانية للبلاد وتحول تركيا إلى دولة يمينية دينية متطرفة تستقطب شتى التنظيمات والجماعات، وتبدد ثروتها الوطنية على مغامرات محفوفة بالمخاطر.

وبالتالي، فرغبة قطاعات واسعة من المجتمع التركي بمؤسساته في التخلص من نظام أردوغان، ومن شخصه أيضا، لا يمكن نفيها. كما لا يمكن نفي إمكانية أن تكون قيادات الانقلاب فهمت بطريقة أو بأخرى أن هناك ضوء أخضر من بعض العواصم المتنفذة ومراكز القرار الدولي (موسكو وواشنطن وبروكسل) التي تعاني من مغامرات أردوغان وتصلبه وإفساده الكثير من الملفات. ومع ذلك فقد سارعت كل من روسيا والولايات المتحدة بالدعوة إلى الحوار السياسي وحقن الدماء للفرقاء الأتراك. ولكن بعد إفشال المحاولة، ذهب أردوغان إلى اتهام الولايات المتحدة بتدبير الانقلاب، وطالبها أيضا بتسليم المعارض فتح الله غولن. مثل هذه الخطوط المتشابكة، تعني أن هناك عوامل كثيرة وأوراقا أكثر وأدوات (خارجية وداخلية) تم استخدامها في الإطاحة بأردوغان.

في الحقيقة، لا توجد أي مؤشرات على أن أردوغان هو الذي دبر مثل هذه المحاولة الفاشلة للانقلاب ضد نفسه. ولكن من جهة أخرى، ظهرت روايات تعيد ترتيب الأحداث وفق منطق له الحق في الوجود، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه. وهذا الاستقراء كالأتي:

 1- كان هناك بالفعل مخطط كبير للانقلاب بين عدد من قيادات الجيش وليس كل القيادات الكبرى، بسبب ممارسات أردوغان وسياساته الداخلية والخارجية.

2- تم رصد وتتبع أجزاء وجوانب من هذا المخطط (قبل التنفيذ) من جانب أجهزة أمنية وعسكرية واستخباراتية.

3- تم وضع أردوغان في صورة وتفاصيل هذا المخطط، وتنبيهه لاتخاذ إجراءات محددة.

4- قام أردوغان وأجهزته الأمنية والعسكرية بتسريب أخبار خادعة للانقلابيين وفق مخططات وأساليب عادية وطبيعية يتم استخدامها في تلك الأجهزة.

5- توالي الأخبار الخادعة دفع الانقلابيين إلى التعجل في التنفيذ واستعجال ساعة الصفر.

6- حاول الانقلابيون القبض على أردوغان الذى غادر مكان إقامته، وفق السيناريو الموضوع، قبل وصولهم.

7- وكان الجانب الآخر هو ضرورة إنزال المدنيين إلى الشارع ليبدو الأمر وكأن هناك "ثورة شعبية" ضد الانقلاب، وأن الشعب نزل إلى الشوارع للحفاظ على المكتسبات الديمقراطية. وبالفعل نزل أنصار حزب العدالة والتنمية إلى الشوارع.

8- التزمت المعارضة التركية الصمت طوال الساعات الأولى من المحاولة، ولكن عندما ظهرت بوادر الفشل، أعلنت المعارضة أنها ضد الانقلاب.

9- رفضت قيادة الجيش الاول الانقلاب، إضافة لمعظم مستويات قيادات الجيش.

10- بدأت عمليات التطهير وما زالت مستمرة.

 من السابق لأوانه ترديد بعض الشعارات التجريدية من أن الشعب التركي خرج ليحمي الديمقراطية باعتبار أن أردوغان ديمقراطي، ولم يخرج لحمايته شخصيا. أو أن الشعب فضَّل الحفاظ على "الديمقراطية الإسلامية" لتفادي الوقوع تحت "الاستبداد العسكري". المسألة أكثر تعقيدا من ذلك ولها امتدادات خارجية. وفي كل الأحوال، تصب أي مقارنات إما لصالح اليمين الديني المتطرف أو المؤسسة العسكرية، وهما الوجهان اللذان يحتاج لبعضهما البعض من أجل الحياة والاستمرارية. ومن مصلحتهما أيضا إضعاف كل القوى الأخرى لكي يبقى الاختيار قائما بينهما، وبينهما فقط.

 أشرف الصباغ