قمة المواجهة الأولى بين أوروبا وبريطانيا: الحساب سيكون طويلاً!

قمة المواجهة الأولى بين أوروبا وبريطانيا: الحساب سيكون طويلاً!

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٨ يونيو ٢٠١٦

الجدال ينتشر في كل مكانٍ من أوروبا. البعض يوزّع النعوات، آخرون يهوّلون، ليبقى بعض من يمارس هواية اجتراح الحلول من صخرة الاستفتاء البريطاني. لكن قمة الزعماء الأوروبيين في بروكسل جعلت من الواضح أن ثمة باباً وحيداً، بات مفتوحاً الآن: من هنا الخروج من الاتحاد الأوروبي. أوروبا الآن تقلب صفحة في تاريخها، استمرت أكثر من أربعة عقود، لكتابة صفحة جديدة لم تتضح معالمها بعد.
كانت قمة المواجهة الأولى مع رئيس وزراء الانفصال، ديفيد كاميرون. بالنسبة لسجلّه خلال عشرات من القمم، هي سابقة أيضاً. المفارقة أنها المرة الأولى التي يصل فيها مبنى المجلس الأوروبي، يترجّل من سيارته، ولا يقف أمام الكاميرات ليقول إنه ذاهب إلى عراك في الداخل. المرة الأولى، والأخيرة نظراً لاستقالته، التي يقول فيها كلاماً طيباً بحق هذه العائلة الأوروبية ووجود بريطانيا فيها.
لكن هذا مفهوم. خسر كاميرون كل شيء، في مقامرة متهوّرة نصحه الجميع بالتراجع عنها، لكنه لا يزال على رأس حزب المحافظين الذي بات بأمسّ الحاجة لتفهّم الأوروبيين ومحاولة امتصاص غضبهم. وضع حداً للتكهنات، مؤكداً أن الرسالة التي يحملها لنظرائه هي أن «بريطانيا ستغادر الاتحاد الأوروبي، لكن أريد أن تكون عملية بنّاءة قدر الإمكان»، قبل أن يضيف بطراوة نادرة «نحن نغادر لكن يجب ألا ندير ظهرنا لأوروبا، فهذه الدول جيراننا واصدقاؤنا وحلفاؤنا وشركاؤنا، وكل أملي أننا سنسعى لأوثق الروابط الممكنة، بالنسبة للتبادل التجاري والتعاون الأمني، لأن هذا مفيد لنا ولهم».
علّق بعض المسؤولين الأوروبيين أنهم كانوا يتمنون لو سمعوا كلاماً سابقاً كهذا. منتهى السخرية فعلاً. طوال سنوات من علاقة الزواج لا يكف أحد من طرفيها على كيل الشتائم والسباب والحديث عن بؤس المعشر، لكن بعد أن يقرر الطلاق تنفتح نفسه على الغزل. للمصالح أحكام طبعاً، فلم يسبق أن وجدت لندن نفسها بهذا الضعف، تتطلع لأوروبا آملةً بأقل الخسائر.
هذه الخسائر وجدها زعماء، لديهم فرقة مشاغبين من اليمين المتطرف بدورهم، عبرة لمن يراوده السيناريو البريطاني. منهم رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا، الذي كان، مجدداً، الأكثر صراحة، وبالتالي الأكثر خشونة. قال إن «جميع من يفكر بمغادرة الاتحاد الأوروبي يمكنه أن يرى الآن الفوضى والانهيار في بريطانيا»، قبل أن يضيف أن هناك مصالح تجارية لبلاده ولغيرها، تقتضي تجنب الانتقام: «علينا أن نعطيهم مجالاً للتنفس، فبلادهم تحطمت اقتصادياً وسياسياً ومالياً ومؤسساتياً».
لا مجال لطرد أحد من العائلة الأوروبية، ليبقى الممكن الوحيد هو تقدم الدولة المعنية بطلب انسحاب رسمي يمهّد لبدء العملية. هناك آخرون ليس لديهم رغبة بإعطاء أي وقت، لذات الأسباب المتعلقة بـ «العبرة». فرنسا كانت على رأسهم، مع رئيسها فرنسوا هولاند الذي كرر أنه «ليس لدينا وقت لنضيّعه».
الحل الألماني ساد في النهاية، حينما حاولت برلين التوفيق ليلتقي الجميع في الوسط الممكن. لندن تحدثت عن ضرورة انتظار انعقاد مؤتمر حزب المحافظين، ليتم اختيار رئيس وزراء جديد، ثم يجري النقاش مع الحكومة والبرلمان، اتمام التحضيرات التفاوضية اللازمة، ما يعني أشهر عدة قبل بدء محتمل مطلع العام المقبل. الآن أجمع الأوروبيون أن أيلول المقبل موعد ممكن، مطالبين أن يتم إرسال طلب الطلاق حالما يأتي رئيس الحكومة الجديد.
البرلمان الأوروبي شارك في حملة تكثيف الضغوط السياسية، ليصادق على قرار بغالبية ساحقة يدعو لبدء الطلاق «بأسرع ما يمكن». سألت «السفير» رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز عن ترجمته لعبارة «أسرع ما يمكن»: هل هي فوراً، أم بعد أيام، أم ماذا؟ ضحك على راحته، قبل أن يقول «بأسرع ما يمكن يعني أنه من المفهوم تماماً أن الحكومة البريطانية يلزمها أيام وأسابيع لتنظيم الاجراءات اللازمة، بما في ذلك الذهاب للبرلمان والنقاش مع الحكومة، لكن يجب ألا ننتظر طويلاً».
الوضع كله لا سابق له، كما حاول شولتز التوضيح: «تحريك المادة 50 (التي تنظم الانفصال) مسألة جديدة تماماً، لم تكن لدينا دولة أرادت مغادرة الاتحاد، لهذا ليس لدينا خبرة في هذه المعاملة، لكن هذا سبب وجيه أيضاً كي لا ننتظر، وأن يكون هناك احترام متبادل حول ذلك بما يمكننا من تطوير إستراتيجية لمغادرتهم».
المشكلة أيضاً أن كاميرون بلا صلاحيات. يمكن لخلفه التلاعب كما يريد، كأسلوب تفاوضي أيضاً، لكون الاطالة ورقة قوة شبه وحيدة. هنا جاء الرد حاسماً من برلين. صحيح يمكن إعطاء مجال للتنفس، لكن ليس للمناورة بأي شكل. شددت المستشارة أنجيلا ميركل على أنه «لا مفاوضات رسمية أو غير رسمية قبل تقديم (بريطانيا) البلاغ» لإطلاق عملية الانفصال.
ملامح المناورات الممكنة لم تتأخر في الظهور. خرجت من لندن رسائل مشوّشة بأنه يمكن تحقيق تسوية ما. تشكو بريطانيا من هجرة الاوروبيين، لكنها مرهونة اقتصادياً بامتيازات السوق المشتركة. من اقترح اجتراح الحلول اعتبر أنه يمكن تحقيق نوع من «حرية الحركة» لليد العاملة الأوروبية، بما يقابلها من الامتيازات لدخول السوق المشتركة. آخرون ذهبوا أبعد من ذلك، معتبرين أن هكذا موازنة يمكنها التحول إلى عرض أوروبي يمكنه، بشكل ما، ترميم ما هدمه الاستفتاء.
إحدى تلك المبادرات أطلقها وزير الصحة البريطاني جيرمي هانت، وهو من بين المحافظين الطامحين لخلافة كاميرون. كتب مقالاً يعتبر فيه أنه قبل إطلاق عملية الانفصال يجب القيام بمفاوضات، ثم الوصول لاتفاق يوضع أمام الشعب البريطاني «سواء عبر استفتاء (ثانٍ) أو كبيان لحزب المحافظين يدعو فيه إلى انتخابات جديدة». ما يطلبه، بمعنى أدق، أن تقدم بروكسل كل الحوافز الممكنة، بما يجعل لندن قادرة على تحويل المجرى باقوال للبريطانيين: حدودنا تحت السيطرة التامة، ولدينا اتفاق ممتاز فوق ذلك.
ما الردّ؟ رفض تام طبعاً. قالت ميركل ذلك، كرره آخرون بصيغ أخرى. الأسباب بيّنة. في الأساس، ليس من السهل على الزعماء الاوروبيين الاتفاق على فسحة التنفس البريطانية. هناك إدراك عميق بين الجميع أن الأولوية الآن هي تطويق مساعي اليمين المتطرف للإفادة من زخم السابقة البريطانية. لذلك، أي تشجيع للنموذج البريطاني سيحمل مخاطر كبيرة في انتشار الاستفتاءات في كل مكان. سيكون لدى الأحزاب المتطرفة، وحتى المعتدلة الطامحة للسلطة، مثال ممتاز يقول للناخبين: انظروا ماذا فعلت بريطانيا وأي مكاسب حصّلت، يمكننا أيضاً فعل الشيء ذاته.
تلك المعادلة الحاكمة، المقررة في مصير التكتل الأوروبي، ستسود أيضاً مرحلة التفاوض على «شراكة جديدة» مع بريطانيا. سترصد الحركات الانفصالية أدق التفاصيل. خروج بريطانيا رابحة، بأي شكل كان، سيقول للآخرين إن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ليس سيئاً إذاً. لذا، أياً كانت الوجهة، فمن الجلي أن بريطانيا سوف تدفع الثمن. ليس بالضرورة انتقاماً، رغم أن البعض لا يمانع فيه إطلاقاً، لكن من باب المصلحة الاوروبية العليا بالفعل.
الخسارة هي كل ما لدى فريق الانفصال. تحدثوا مراراً عن إمكانية النموذج النرويجي، دولة خارج الاتحاد يمكنها الوصول لسوق التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم. لكن النرويج ليست في وضع مثالي، وحكومتها رددت مراراً على مسمع البريطانيين أنها تدفع ثمناً كبيراً: لا يمكنها المشاركة في وضع قوانين السوق، لا يمكنها التأثير بها، وعليها دفع مساهمات مالية كبيرة للاتحاد الاوروبي.
المسألة لا تزال مفتوحة، أو للدقة سيكون الحساب الأوروبي طويلاً مع بريطانيا. شراكة نعم، لكن بثمن سيكون عبرة للآخرين. ليس هذا فقط. القادة الاوروبيون سيجتمعون اليوم لوحدهم، بلا كاميرون، لكن بروكسل ستستقبل ضيفاً غريماً. ستحضر رئيسة الحكومة الإسكتلندية نيكولا ستيرجين، لتقول للأوروبيين إن مقاطعتها تفضل أوروبا على بريطانيا. النقاش سيتركز على ممكنات ذلك، فيما ايرلندا الشمالية تريد مساراً مشابهاً بعيداً عن خيار انكلترا وويلز.
الزيارة ستكون لها رمزيتها، فالقادة الاوروبيون سيناقشون أي صفحة جديدة يجب كتابتها الآن في تاريخ أوروبا. الأهم أن تكون صفحة وحدة تبعد أشباح التفكك الواقعية. إستراتيجية لامتصاص التململ الشعبي، جعل الأوروبيين، خصوصاً الجيل الشاب، يشعرون بمنافع أوروبا لهم. الدرس البريطاني عبرة للأوروبيين أيضاً، فالحفاظ على تماسك التكتل تجلبه صناديق الاقتراع، والتململ يمكنه التحول إلى غضب لا ترعبه تحذيرات الشركات العملاقة والمصارف العالمية.