رئاسيات تركية... من أجل خمسة قروش!

رئاسيات تركية... من أجل خمسة قروش!

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٥ يونيو ٢٠١٦

لا يتعب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من فتح الدعاوى على منتقديه. وكما توعد بمحاربة «الإرهاب» الكردي «حتى يوم القيامة»، فهو مستمر بملاحقة منتقديه حتى كمّ آخر فاه.
آخر مآثر أردوغان بهذا الصدد، وبما أن هذه الأيام أيام كروية في فرنسا، كان قد رفع أردوغان سابقاً دعوى تحقير ضد أبرز لاعب كرة قدم تركي على مر التاريخ حاقان شكر. ولأن أردوغان كان لاعب كرة سابقاً، ويحب اللعبة، فقد رشح شكر، ليكون نائباً عن «حزب العدالة والتنمية» في العام 2011 ونجح في ذلك.
لكن دولاب الزمن دار دورته الكاملة، واتهم أردوغان شكر بأنه موالٍ للداعية فتح الله غولين، فكان إخراج شكر من الحزب الحاكم بعد انفجار الصراع بين أردوغان وغولين في العام 2013.
لكن لأنه ليس في تركيا مكان آمن للمعارضين، فقد تفاجأ قاضي المحكمة، أمس الأول، بأن حاقان شكر ليس في تركيا، وقد أبلغ محامي شكر القاضي أنه في الولايات المتحدة.
قرار حاقان شكر كان الفرار من عقوبة سجن تنتظره بتهمة التحقير من سنة إلى ثلاث سنوات.
ولأن الأستاذة الجامعية زينب صاين باليقتشي أوغلو قد تهكمت على رئيس الجمهورية، أثناء إحدى حصص التدريس في جامعة بيلغي، بقولها للطلاب إنه «هو الذي يقوم بأفضل الأشياء. أفضل التعجرف هو يقوم به، وأفضل الفظاظة هو يقوم بها، وأفضل من يقول: أنا قمت بكذا، هو يقوم بها»، فقد كان قرار الجامعة بفصلها الفوري الأسبوع الماضي من الجامعة، لتلحق بالعشرات ممن فصلوا من وظائفهم في الجامعات ووسائل الإعلام لمجرد انتقادهم للرئيس.
أما الشهادة الجامعية التي يفترض أن يحوزها المرشح لرئاسة الجمهورية، فلا يزال يحوم لغط كبير حول أن أردوغان لا يملك شهادة الليسانس لأربع سنوات، بل مجرد وثيقة دراسة في معهد جامعي لسنتين، وهو ما جعل النقاش مفتوحاً حول أن الصورة طبق الأصل للشهادة الجامعية التي يحملها، وأنها من كلية الاقتصاد بجامعة مرمرة في العام 1981، هي صورة مزوّرة، خصوصاً مع اختفاء الكاتب العدل الذي صدق الصورة، وعميد الكلية الذي وقعها، والذي لم يكن حينها برتبة بروفسور ـ دكتور، كما ورد في التوقيع، ولا سيما أيضا أن تلك الكلية لم تكن تأسست في العام 1981 بل في العام 1982.
هذه القضية إذا ما تفاعلت، قد تكون لها تداعياتها الدستورية والسياسية في اتجاه عزل أردوغان من الرئاسة، لعدم حيازته أحد شروط ان يكون رئيسا للجمهورية، فضلاً عن البعد التزويري من المسألة.
الاعتقالات ضد المدافعين عن الحريات لا تزال متواصلة. آخرها اعتقال ثلاثة من المثقفين، هم الصحافي أرول أوندير اوغلو، والاستاذة الجامعية شيبنيم قورور فنجانجي، والكاتب المعروف احمد نيسين، وهو ابن احد أشهر كتاب تركيا والعالم الراحلين عزيز نيسين.
سبب الاعتقال هو كالمعتاد تهمة التحريض على ارتكاب الجريمة، والقيام بدعاية «للمنظمة الإرهابية»، «حزب العمال الكردستاني» والثناء على المجرمين. كل ذلك لأنهم كانوا من بين مجموعة أرادت التضامن مع صحيفة «أوزغور غونديم» الموالية للأكراد بوجه محاولات إغلاقها.
العقوبة لمجرد هذا الموقف تتراوح، وفق مطالعة المدعي العام السريعة جداً، بين السجن من سنتين إلى 14 عاماً ونصف العام.
ولم تستطع ذهنية النظام في تركيا أن تكتفي بملاحقة المعارضين في الداخل، فاندفعت لتطال مراسل صحيفة «حرييت» في نيويورك راضي جانيكليغيل، الذي ما إن وطأت قدماه مطار اسطنبول، حتى أوقف، بسبب تغريدة كتبها، من قبل المحقق الذي عاد وأطلق سراحه في اليوم التالي، بعدما تبيّن أن التغريدة لا تعود له، وأن موقعه على «تويتر» مقرصن.
مسألة الحريات في تركيا كانت موضع تقرير حاد جدا لمجلس برلمانيي المجلس الأوروبي، الذي يضم 47 دولة، وكانت تركيا من بين المؤسسين له في أواخر الأربعينيات.
واعتبر التقرير أن الديموقراطية في تركيا أصبحت من الدرجة الثانية، وان الحاجة باتت ضرورية لوضع أنقرة في خانة الدول قيد المتابعة والمراقبة.
ورأى التقرير أن عملية الانقضاض على المنجزات الديموقراطية بدأت مع انفجار فضيحة الفساد في نهاية العام 2013، والذي أعقبها تصفية شاملة لأتباع فتح الله غولين، ووضع اليد على مؤسسات القضاء والشرطة في تركيا.
واعتبر البعض أن هذا التقرير بمثابة «الإنذار الأخير» لحكومة «حزب العدالة والتنمية».
ولكن ما لفت أيضاً، هو تصريح رئيس البرلمان الأوروبي مارتين شولز حول مسؤولية أردوغان الشخصية عن تعليق المحادثات حول إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى منطقة «شنغن».
ويقول شولز إن على تركيا أن تغير قانون الإرهاب، لكنها لم تكتف بعدم تعديله بل باستغلاله لرفع الحصانة النيابية عن النواب.
وقال إن هذا ليس فقط السبب في تجميد مسألة الفيزا بل إن السلوكيات الاستئثارية لأردوغان لعبت دوراً في وقف عملية الإعفاء من الفيزا كما في ملاحقة الصحافيين والنواب المعارضين لسياساته، والتي تتناقض مع كل أسس الديموقراطية البرلمانية. سياسات التضييق على الحريات في الداخل هي الوجه الآخر لسياسات الانعزال على صعيد العلاقات الخارجية.
ولا يتردد هذا الخارج بوضع اللوم أيضاً على أردوغان شخصياً.
تروي صحيفة «جمهورييت» أن زوجين ألمانيين كانا مواظبين على المجيء إلى أنطاليا سنوياً منذ 30 عاماً. وباتا كما يقال من أهل البيت يمضيان أسابيع طويلة كل عام في المنتجع الأشهر في تركيا.
وبعد 20 عاماً أصبح الفندق يقدم لهما هدية أسبوع إضافي إقامة بالمجان.
اليوم بعد مرور 30 عاماً رفع الفندق قيمة المكافأة لهما: «أبقيا هنا المدة التي تريدان بالمجان هدية لمسيرة ثلاثين عاما»، لكن جواب الزوجين كان «لا نريد. ما دام أردوغان زعيماً لكم فلن نأتي بعد الآن إلى تركيا».
لم يقتصر الاعتراض على نهج أردوغان على الداخل التركي. في أسبوع الموضة في ميلان علقت لافتة كبيرة على مدخله: «أسبوع الموضة في ميلان يدعم المقاومة ضد الحكومة الفاشية لأردوغان».
وتعلق «جمهورييت» قائلة إن أردوغان لن يخرج قريبا بزيارات خارجية. فكما قطع زيارته إلى الولايات المتحدة للمشاركة بجنازة محمد علي كلاي، قبل أن تنتهي مراسم التأبين والتشييع لرفض عائلة محمد علي أن يلقي أردوغان كلمة في التأبين، فهو سيكون مضطراً ليختصر زياراته المستقبلية والعودة قبل اكتمالها إلى تركيا.
في سياسية لهذه السلوكيات الاستئثارية على تركيا وصورتها، والتي جلبت عليها التهديدات والمخاطر الاقتصادية الكبيرة، تنقل صحيفة «ميللييت» حادثة أخرى عن ان 50 شخصاً دخلوا في منتجع بودروم في صدام بينهم بالعصي والحجارة واللكمات والرفس. تدخل البوليس بالغاز المسيل للدموع، وسقط 14 جريحا. أما السبب فمثير فعلا. محلان متجاوران لبيع الألبسة الجاهزة تنازعا على زبونين أجنبيين. بدأ الأمر بالتلاسن ومن ثم بالعصي. هذه كانت أولى نتائج انهيار السياحة. هو الضغط والقلق الذي يولد «النقار».
لا سياح في تركيا هذا الموسم. لا بضاعة تباع ولا سياح يشترون. ولا مال يدخل إلى خزنة المحال والفنادق. أكثر من ألفي فندق معروضة للبيع بأسعار زهيدة، وليس من يشتري. وفي إحصاء طريف فإن أكثر من 130 مهنة مرتبطة بالسياحة تتعرض للتراجع والإفلاس، بدءا من الموظفين وصناعة الخبز إلى زراعة الورود ومربي النحل ومساحيق التنظيف وإنتاج الشاي الذي تشتهر به تركيا، وحيث شكلت صورة لأردوغان وهو يقطف محصول شاي مع مسؤول قضائي كبير (رئيس مجلس شورى الدولة) فضيحة كبيرة عن مدى انسجام السلطة القضائية مع السلطة السياسية وتبعيتها لها.
حادثة الصدام على الزبونين أعلاه، تشبه الحكاية التي كتبها عزيز نيسين بعنوان «بسبب خمسة قروش». ومختصرها أن رجلاً قبض راتبه، ووزعه لتسديد فاتورة هنا وأخرى هناك، وحين هم بالعودة إلى بيته لم يكن بقي في جيبه سوى 25 قرشاً. صعد إلى الأوتوبيس ودفع ثمن التذكرة 20 قرشا لكن السائق لم يعد له الخمسة قروش قائلا له: «ليس معي خمسة قروش فراطة لكي أعيدها لك». فما كان من الرجل إلا ان أمسك برقبة السائق يريد خنقه. في اليوم الثاني كتبت الصحف ان الشجار كان من أجل خمسة قروش.
هي شجارات لم تكن بسبب سائحين ولا من أجل خمسة قروش. إنها السياحة المنهارة التي تسببت بها سياسات واهمة ومكابرة وعنيدة وممتلئة بروح الثأر من الفشل والانتقام ممن أفشل أحلام العثمانية الجديدة. فدفعت تركيا ثمن هذه السياسات المستمرة رغم كل ما يحكى عن مؤشرات «إيجابية» خادعة لا تهدف إلا إلى إخفاء مواصلة دعم الجماعات المسلحة بكل أنواع الأسلحة ورفدها بكل دعم ممكن من دون التمييز بين «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» وبين «جيش فتح» و «كتائب السلطان مراد» وما شابه من مسميات للتتار الجدد.
القطاع السياحي من بين من يدفع الثمن. عينات على ذلك من أكبر منتجع وشاطئ سياحي في تركيا، أي من أنطاليا. المشاهد المصورة أصدق إنباء من الكلمة. سواحل فارغة لا يجد أصحابها سوى كش الذباب.
السائحون الألمان تراجعوا بنسبة 30 في المئة في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، وبنسبة 45 في المئة في حزيران فقط. أما الكارثة فعند السائحين الروس، الذين تراجع عددهم بنسبة 96 في المئة. كان عدد السائحين الروس في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2014 في انطاليا 802 ألف سائح. في العام 2015 تراجع في الفترة نفسها إلى 542 ألفاً، وهذه السنة إلى 21 ألفاً فقط. وفي حزيران تراجع العدد الى 98.5 في المئة.
في «موغلا» مثلا تراجع عدد السياح من 41 ألفا في العام 2014 إلى 648 هذا العام. والأمر نفسه في بودروم ومرمريس وفتحية وغوجيك. هذا ثمن إسقاط طائرة روسية لم تخترق المجال الجوي التركي.
أما التراجع العام للسياحة في تركيا فبلغ حتى الآن معدل 60 في المئة وفق الأرقام التي نشرت أمس.
لكن الصورة الأكثر سلبية هي ما ذكره الصحافي المعروف فهمي قورو، رفيق عمر الرئيس السابق عبدالله غول، الذي عزل سابقا من صحيفة «خبر تورك» من دون إبداء الأسباب، مع عرض له بأن يستمر في قبض راتبه لكن من دون ان يكتب. أي شراء مباشر للضمائر والذمم.
يقول قورو، الذي لم يجد مكانا يكتب فيه سوى موقع خاص به على الانترنت، إن واحدا من أسباب الفوبيا ضد الإسلام في الغرب هو سلوكيات السلطة في تركيا. كأن يقول أحدهم «إن الفرنج لا تتناسب أخلاقهم مع أخلاقنا الإسلامية وليمحهم الله». وكأن يقول أستاذ الإلهيات مصطفى عشقار إن «الحيوان لا يؤدي الصلاة، وبالتالي إن من لا يؤدي الصلاة من البشر هو حيوان». كلام قيل من على شاشة التلفزيون الرسمي.
هذه الصورة، يقول قورو، هي التي تساهم في زيادة العداء للإسلام في الغرب، والتي وصلت إلى مستويات خطيرة في مساعي تنصير اللاجئين من سوريا، ومن دول مسلمة أخرى. ويعطي أرقاماً مثل اعتناق 700 مسلم المسيحية في محلة ستيغليتز قرب برلين بألمانيا، و300 في إحدى الكنائس في النمسا.
كما أساء «داعش» و «النصرة» إلى صورة الإسلام، يسيء أشباههم ورعاتهم أكثر إليه. فمن يرفع الصوت ومن يحاسب؟
محمد نور الدين - السفير