فتنة الصعيد... من أيقظها؟

فتنة الصعيد... من أيقظها؟

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٧ مايو ٢٠١٦

في مشهد يعيد التذكير بحقبة العصور الوسطى، هاجم المئات منزل عائلة قبطية في قرية تابعة لمحافظة المنيا في صعيد مصر، على خلفية شائعات بعلاقة بين أحد افراد هذه العائلة وفتاة مسلمة، وقاموا بتعرية سيدة مسنة في شوارع القرية.
الحدث المتطرف في همجيته وطائفيته لا يمكن فهمه إلا بوضعه في سياقه من تطور الأحداث في مصر، بعيداً عن خطاب التسامح والسلام والتعايش الذي يملأ الدعاية الرسمية.
رسالة التسامح والسلام والحوار التي حملها الإمام الأكبر شيخ الأزهر في زيارته للفاتيكان قبل أيام، في تزامن غريب مع حادثة المنيا، قد تناسب مقدمات نشرات الأخبار في محطات التلفزة، وعناوين الصفحات الأولى للصحف، ولكنها لا تمتّ بصلة لما جرى بالفعل على أرض الواقع في الصعيد.
رسالة السلام والتسامح التي أطلقها الإمام الأكبر لا تمت بصلة أيضا لمناهج الأزهر العتيقة، والتي تتفق بدورها مع الطائفية وتدعم التطرف.
الأزهر بوصفه أقدم مؤسسة تعليمية في مصر، والملاذ التعليمي للريف المصري، والطبقات الفقيرة، مسؤول عن الثقافة الدينية في المجتمع، ليس فقط عبر مناهجه، ولكن عبر مقاومته الشديدة لأية محاولة لتطوير الخطاب الديني، بل وملاحقة أي باحث أو مجتهد في الشأن الديني، في تأكيد لاحتكار مؤسسة الأزهر للخطاب الديني وخلق إطار كهنوتي يتناسب مع التطرف والطائفية.
حادث الصعيد الذي يبدو غريباً وصادماً، ربما يكون أقل غرابة، إذا ما وضع بجوار أحداث أخرى سابقة، وإن كانت مختلفة نسبيا.
في الخامس والعشرين من أيار العام 2005 قامت أجهزة الأمن بتنظيم اعتداءات جنسية بحق مواطنات كنّ يسرن في تظاهرة احتجاجاً على تعديل الدستور لمصلحة توريث الحكم لجمال مبارك أمام نقابة الصحافيين.
تلك الحادثة كانت نقطة تحول في أساليب مواجهة الدولة للمتظاهرين، ليس فقط في تغيير أدوات القمع التقليدية من اعتقال وقنابل غاز ورصاص مطاطي عبر استهداف المتظاهرات بالاعتداءات الجنسية، وانما في استبدال قوات الأمن النظامية، بالمجموعات الأقرب الى الميليشيات، سواء تلك التي تتبع الأمن رسميا وترتدي الزي المدني، أو التي يستخدمها الأمن من أصحاب السوابق الجنائية. ولكنها أيضا مثلت خرقا لثوابت اجتماعية كانت شبه مقدسة في الواقع المصري.
الحادثة لم تكن الأخيرة، فالاعتداءات الجنسية وإهانة المرأة وإذلالها علنا استخدمت في ما بعد، وبشكل شبه رسمي، خاصة عند توقيع كشوف العذرية على المعتقلات عقب «ثورة 25 يناير»، وعندما قام جنود بتعرية فتاة وسحلها أمام الكاميرات في ميدان التحرير بعد الثورة.
استهداف الدولة للمتظاهرات وتعمد إهانتهن جنسيا سواء بالاعتداء الجنسي أو بالانتهاك الجسدي كان لهما انعكاسات اجتماعية واضحة. فعقب حادثة نقابة الصحافيين، بدأت تنتشر ظاهرة التحرش الجنسي الجماعي من قبل مجموعات من الفتية والمراهقين في الأعياد والمناسبات، حتى الدينية منها.
الثوابت التي حطمتها الدولة المصرية في مواجهتها لمعارضيها، في تحول نوعي لآليات القمع، تحطمت أيضا على الصعيد الاجتماعي، وما قامت به السلطات المصرية أصبحت له ظلال في المجتمع.
ولذلك، فإن تعرية مسنة في شوارع قرية في صعيد مصر لا يمكن فصله عمّا قامت به قوات الأمن منذ العام 2005 من انتهاكات جنسية للمتظاهرات والمعارِضات في ما بعد.
لا تمثل واقعة الصعيد مجرد اعتداء وانتهاك بحق سيدة مسنة فحسب، فالحادثة طائفية بامتياز، والاعتداء على مسنة على هذا النحو من قبل المئات يلقي الضوء على أوضاع الأقباط خاصة في الصعيد، الذي تسيطر فيه القبلية. فانتهاك كهذا ما كان ليحدث إلا في حق أقلية مستضعَفة.
مشاهد التلاحم التي امتلأت بها «ثورة 25 يناير»، عندما ظهر الأقباط يحرسون صلاة الجمعة، وأقيمت الصلوات المسيحية على منصة ميدان التحرير، كانت أفضل اللحظات تعبيرا عن تحرر الجماهير من تراث الرجعية والطائفية، تماما مثلما تحررت من القمع والاستبداد، وأقامت المتاريس للدفاع عن اعتصام ميدان التحرير. ولكن تلك اللحظة لم تستمر كثيرا، إذ سرعان ما استعادت الثورة المضادة المبادرة. وكما أعادت تلك الثورة المضادة أدوات القمع والسيطرة، عاد التراث الطائفي مرة أخرى.
ولعل ما رصدته دراسة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المنشورة بعنوان «في عرف من؟» يعبر عن جذور الطائفية في المجتمع. فقد رصدت الدراسة 45 حالة اعتداء طائفي منذ كانون الثاني العام 2011 وحتى نهاية العام 2014، من دون أن تتضمن تلك الحالات هجوم جماعة «الإخوان المسلمين» وأنصارها على الكنائس ومنازل الأقباط عقب فض اعتصام «رابعة العدوية» في آب العام 2014.
وتعترف الدراسة ذاتها، بأن تلك الحالات هي ما أمكن رصده وتوثيقه فقط، ولا تمثل كل الاعتداءات الطائفية.
وتكشف معدلات الاعتداءات الطائفية الكثير من الأوهام عن التعايش السلمي ووحدة عنصرَي الأمة والنسيج الاجتماعي الواحد.
الحالة الطائفية الموجودة على المستوى الشعبي، والتي خلقت المشاحنات والأحداث الطائفية بين آن وآخر، كانت لها جذور في سياسة الدولة المصرية، ليس عبر ما تقوم به مباشرة من تمييز في الوظائف ضد الأقباط، وحظر مناصب بعينها عليهم، ولا بالصدام المباشر كما حدث في «أحداث ماسبيرو» في تشرين الأول العام 2011، عندما هاجمت قوات الأمن تظاهرة للأقباط، أو محاولة إزالة دير وادي النطرون... ولكن أيضا عبر استخدام المسألة الطائفية في فرض الهيمنة.
ولعل حكم «الإخوان المسلمين» (2012 – 2013) قد شكل أكبر تهديد تعرض له الأقباط في مصر. فوصول جماعة دينية الى السلطة يعد أكبر كابوس تتعرض له أقلية دينية. وهو ما غذته دعاية الدولة بالفعل إلى جانب ممارسات جماعة «الإخوان» نفسها.
وكان هذا هو المدخل المناسب لتوظيف الأقباط في التعبئة والحشد لإطاحة جماعة «الإخوان». هذا ما استدعى عودة هيمنة الكنيسة التي كانت بدأت في التزعزع بالفعل مع «ثورة 25 يناير»، عندما فقدت السيطرة على رعاياها، ولم يعد بالامكان توجيه الاقباط لمصلحة تأييد نظام سياسي، أو التصويت في الانتخابات لمصلحة طرف بعينه. ويبدو ان استعادة الكنيسة لنفوذها المعنوي على رعاياها، في مواجهة تهديد الحكم الديني، ودعمها للنظام كرس مجددا الحالة الطائفية، التي كانت «ثورة 25 يناير» قد وجهت لها ضربة قوية.
لا يمكن فهم حادث الانتهاك الذي تعرضت له مسنة في صعيد مصر على أيدي المئات، إلا في سياق هيمنة المؤسسة الدينية الرسمية، التي تطلق شعارات التسامح والسلام في الخارج للاستهلاك، بينما لا يعنيها في الداخل سوى احتكار السلطة الروحية والحفاظ هيمنتها على الخطاب الديني، وسلطة سياسية توظف الأزمة الطائفية لمصلحة هيمنتها وتستبقي أقلية مهددة لضمان ولائها وخضوعها لها عبر المؤسسة الرسمية، وقمع لا يقف عند خطوط حمراء ويهدر ثقافة المجتمع وقيمه في مواجهة معارضيه، لينتج عنفا اجتماعيا شبيها بما اقترفه من عنف تجاه معارضيه.
ربما لهذا حاولت وسائل الإعلام تجاهل الحادثة رغم فداحتها، ولم ينشر عنها إلا عندما هيمنت على وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح تجاهلها مستحيلا، وربما لذلك أيضا ستجري معالجة الواقعة بالأساليب التقليدية نفسها عبر لقاءات وجلسات صلح واعتذارات مع دفعات من التصريحات المعتادة.