البابا تواضروس في القدس: تراجع عن وصية شنودة؟

البابا تواضروس في القدس: تراجع عن وصية شنودة؟

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٧ نوفمبر ٢٠١٥

في خطوة مفاجئة، توجّه بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية تواضروس الثاني إلى القدس المحتلة للصلاة على جثمان بطريرك القدس الأنبا أبراهام، الذي توفي أمس الأول.
الزيارة البابوية هي الأولى من نوعها، منذ حرب حزيران العام 1967، وأثارت جدلاً كبيراً في الأوساط القبطية، خصوصاً أن البابا الحالي قد سجل سابقة كنسية، منذ أن امتنع البابا كيرلس السادس عن زيارة الأراضي المقدسة بعد احتلال إسرائيل لها، ومن بعده البابا شنودة الثالث، الذي اتخذ في عهده قرار مقاطعة إسرائيل، والذي ظل ثابتاً عليه حتى وفاته في العام 2012، لا بل إن «بابا العرب»، كما وصفه كثيرون بالنظر إلى مواقفه الوطنية والقومية، ظل يؤكد طوال حياته أنه لن يذهب إلى القدس إلا بصحبة شيخ الأزهر.
ويعتبر سفر البابا تواضروس إلى القدس كسرًا لقرار المجمع المقدس في جلسته بتاريخ 26 آذار العام 1980 الذي منع سفر المسيحيين للحج في الأراضي المقدسة التزاماً برفض فئات واسعة من الشعب المصري التطبيع مع العدو الإسرائيلي بعد اتفاقية كامب ديفيد، وبعد رفض البابا شنودة الثالث مرافقة الرئيس أنور السادات في زيارته للمدينة المحتلة في نهاية السبعينيات، الأمر الذي مثّل بداية خلاف بين الرجلين، انتهى بإبعاد البابا إلى دير وادي النطرون في أيلول العام 1981.
وبرغم سفر عدد من الأقباط سنوياً إلى القدس المحتلة لأداء الحج، إلا أن موقف الكنيسة الرسمي ظل ثابتا ورافضاً لكل أشكال التطبيع مع إسرائيل.
وانطلاقاً من ذلك، تأتي زيارة البابا تواضروس لتثير الشكوك بشأن استمرار الموقف المبدئي للكنيسة القبطية، خصوصاً أن هذه الزيارة تأتي وسط أجواء تشير إلى تغيرات ملحوظة في الموقف المصري الرسمي إزاء إسرائيل.
وقبل أسابيع صوتت مصر لمصلحة انضمام إسرائيل اإلى لجنة الأمم المتحدة للاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي. كما أثنت إسرائيل أكثر من مرّة على تطوّر التعاون الأمني مع مصر، فضلا عن العلاقات الاقتصادية والسياسية.
ولعل ذلك يدفع إلى الاعتقاد أن القرار البابوي ربما يكون تأثر بالأجواء السياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي حين نادت أصوات قبطية من قبل بالسماح للمسيحيين المصريين بزيارة القدس المحتلة، وإلغاء قرار المجمع المقدس، باعتبار أن ذلك «يفرض على الشعائر الدينية مواقف سياسية»، استمر موقف الغالبية من الأقباط رافضاً لأي شكل من أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، باعتبار أن المقاطعة ليست موقفاً سياسياً أو حزبياً، وإنما هي في الأساس موقف وطني يتسق مع طبيعة الكنيسة القبطية.
وفي ظل الجدل الذي أثارته الزيارة البابوية، منذ لحظة الإعلان عنها يوم أمس، حاولت الكنيسة القبطية تخفيف وطأتها.
وفي اول رد له على الانتقادات، قال البابا تواضروس، في كلمة ألقاها من مدينة القدس: «هذه ليست زيارة، لأن كلمة زيارة تعني تحضيراتٍ وجدولَ مواعيدٍ وأماكنَ محدَّدةً. هذا واجب إنساني، وواجب للعزاء، ولمسة وفاء لإنسان قدّم حياته كلها، سواء على المستوى الوطني، أو على المستوى الإنساني»، في إشارة إلى الأنبا الراحل أبراهام.
وأضاف البابا تواضروس أن «عدم حضور (جنازة الأنبا أبراهام)، سواء على مستوى المكان الذي يمثله أو على المستوى الشخصي، كان سيعد نوعاً من التقصير غير المقبول»، مؤكداً أن حضوره جنازة الأنبا أبراهام له جانبان: «أولهما التعزية والمشاركة، وتأكيد الدور القوي الذي قام به المطران الأنبا أبراهام الفاضل. والجانب الآخر جانب شخصي، فعندما دخلت دير الأنبا بيشوي في العام 1986، كان الأنبا أبراهام من أوائل الرهبان الذين تعاملت معهم، وعندما ترهبنت في العام 1988 كان عملُنا واحداً، وهو استقبال الضيوف والزوار فى الدير، وقد تزاملنا معا لمدة سنتين، وتعلمت منه الكثير، وتأثرت بروحه المرحة وأسلوبه الطيب».
يُذكر أن الأنبا أبراهام تولى مطرانية الأقباط في القدس لنحو 24 عاماً. ويُعد كرسي مطرانية الأقباط الأرثوذكس في القدس، والمعروف في الأوساط الكنسية المصرية بكرسي أورشليم والشرق الأدنى، الأهم بعد كرسي الكرازة المرقسية في الإسكندرية، على مستوى مطرانيات مصر والعالم التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
من جهته، قال المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأب بولس حليم لـ «السفير» إنه «لا يمكن القول إن هناك زيارة رسمية للقدس من قبل البابا»، موضحاً أن «البابا سافر في مهمة جنائزية فقط».
وأضاف حليم أن «الأنبا أبراهام هو الرجل الثاني في كنيسة الكرازة المرقصية، بحسب الترتيب الكنسي. وكان من المقرر أن يصل جثمانه ويصلى عليه في مصر. وحتى مساء أمس (الأول)، لم يكن سفر البابا مقرراً، ولكن بعد فتح وصية الأنبا أبراهام، تبين أنه طلب دفن جثمانه في القدس، فاضطر البابا للسفر للصلاة عليه»، مشيراً إلى أنه «لو كانت هناك علاقات طبيعية مع إسرائيل لسافر كل أعضاء المجمع المقدس مع البابا».
وأكد حليم أن «الكنيسة ليست لها حسابات سياسية، ولا تتصرف إلا على أساس رعوي ووطني»، مشدداً على أن «موقف الكنيسة، الذي اتخذه المجمع المقدس، بمقاطعة إسرائيل لا يزال كما هو ولم يتغير. والبابا سافر فقط في مهمة رعوية محددة».
وبالرغم من تأكيد الكنيسة القبطية على أنها ما زالت تتبنى الموقف المقاطع لإسرائيل، إلا أنه لا يمكن تجاهل الآثار المحتملة لزيارة البابا تواضروس إلى القدس على هذه المسألة بالذات.
ولعلّ سفر البابا بنفسه إلى الأراضي المحتلة قد تكون نتيجته تذرع أعداد كبيرة بالزيارة للقيام بزيارات تخالف وجهة المقاطعة المتخذة من قبل المجمع المقدس، خصوصاً في تطور العلاقات المصرية الإسرائيلية على الصعيد الرسمي.
وفي هذا الإطار، رأى القيادي الناصري أمين إسكندر (قبطي)، في حديث إلى «السفير»، أن «هذه الخطوة ليست بعيدة عن تحالفات الدولة الحالية. وأغلب الظن أن قرار الزيارة تم اتخاذه بالتفاهم مع أجهزة الدولة، وربما بمطالبة منها».
وأضاف إسكندر: «من الممكن أن نجد أنفسنا أمام تصريحات باقتصار الزيارة على الصلاة على الأنبا أبراهام، حتى لا تبدو مخالفة لقرار البابا شنودة، وأظن أنه قد وصل للكنيسة الغضب الواسع من قبل قيادات مصرية مسيحية وغير مسيحية من هذه الزيارة. وأعتقد أن دوائر رفض هذه الزيارة يجب أن تتسع حتى لا تكون بداية لتطبيع أوسع».
ووصف إسكندر الزيارة بأنها «انتكاسة». وأضاف «أشم رائحة مصالح رجال الأعمال. ولا يمكن فصل هذه الزيارة عن انخفاض الصوت العروبي في أجهزة الدولة، واتساع مساحات التطبيع، خصوصاً أن هناك دعوات صدرت في هذا الإطار من قبل الأزهر ولكن تم تداركها».
وتابع إسكندر: «لا يوجد مبرر حقيقي لهذه الزيارة، وأظنها تمت وفق رغبة أجهزة الدولة، وأراها معبرة عن المرحلة التي نعيشها».
واعتبر إسكندر أنه «كان يمكن إقامة الصلاة على الأنبا أبراهام في مصر، وفي كل الكنائس، وعدم السفر إلى الأراضي المحتلة».
وتابع: «كانت هناك مجموعات (قبطية) تسافر عبر شركات سياحية إلى الأراضي المحتلة لأغراض دينية بحتة، وكنا نعتبر ذلك تجاوزاً... أما الآن فرمز الكنيسة نفسه سافر إلى القدس، الأمر الذي ستكون له نتائجه».
تبدو زيارة البابا تواضروس الثاني للقدس طبيعية في سياق الصلاة على الرجل الثاني في الكنيسة. وقد تكون بالفعل استثناء ولن تؤثر في موقف الكنيسة الذي ظل ثابتا لما يقرب من نصف قرن.
ولكن تزامن الزيارة مع خطوات أخرى عَبَّر عن تقارب أو تفاهم رسميين بين مصر وإسرائيل، يجعل خطوة تواضروس قابلة للتأويل، كما أن علاقة المؤسسات الدينية بالنظام الحاكم في مصر، سواء الإسلامية أو المسيحية التي ظهرت في أكثر من مناسبة، تجعل من الصعب قبول الزيارة كموقف منفرد للكنيسة.