المشهد التركي..أنقرة بين التقدم الروسي والعجز الغربي

المشهد التركي..أنقرة بين التقدم الروسي والعجز الغربي

أخبار عربية ودولية

السبت، ١٠ أكتوبر ٢٠١٥

تواجه تركيا امتحاناً قاسياً وصعباً في سياستها السورية والإقليمية.
لم تكن تركيا تتوقع «الغزو» الروسي لسوريا. كانت مفاجأة كاملة لها. هذا إن دل على شيء فعلى ضعف الاستخبارات التركية أولاً (وفي الكواليس أن رئيس الاستخبارات التركية حاقان فيدان قد يترك منصبه قريبا)، وعلى لاواقعية السياسة المتبعة تجاه سوريا ثانياً، وعلى انحباس الثنائي رجب طيب أردوغان - احمد داود اوغلو في قمقم إسقاط النظام في سوريا، من دون أي خطة بديلة في حال فشل هذا الهدف.
بين ليلة وضحاها استفاق أردوغان ومعه صاحب «العمق الاستراتيجي» ليجدا أن روسيا باتت جاراً على حدود تركيا الجنوبية. أي أن تركيا باتت بين فكي الكماشة الروسية. هذه سابقة لم تعهدها تركيا منذ الغازي الأول عثمان إلى الآن.
النتيجة المباشرة لهذا التطور الروسي النوعي أصاب أولاً تركيا، ومن ثم القوى التي تدعمها إقليمياً وداخل سوريا. لن تكون بكبسة زر تغيير موازين القوى داخل سوريا، لكن الخطوة الروسية بحد ذاتها أعطت نتائج أولية كبيرة جداً، وخصوصا ببعدها التركي. لذا لم يكن مفاجئا أن يقول أحد القادة الروس إن العملية ستستمر وصولا إلى الحدود التركية.
خسرت تركيا الكثير من أحلام أن تكون سيدة ومهيمنة بالحسنى والقول الحسن، والمسلسلات الفاتنة بمهندها ونورها وحريم سلطانها. خسرت أسواق سوريا والعراق ولبنان، ومن ثم مصر والخليج. خسرت الثقة التي بنيت استثنائياً في وقت قصير، لكنها لن تبنى بعد الآن إلا بعد مرور عقود وعقود. فالمؤمن لا يلدغ من جحره مرتين. خسرت كل تلك الامتيازات والحوافز، بل خسرت كل الاستقرار والأمن على الحدود مع سوريا منذ العام 1999.
لا ترضى تركيا بالنعم التي أغدقتها سوريا، ولاحقاً العرب كما إيران عليها. عبثت بالصحن الذي قدم لها وبصقت فيه. فكان تدخلها السافر والمشين في الأزمة السورية عندما تنطحت لتكون ولي أمر السوريين، وهي التي سرقت اسكندرونهم وعيناها لم تفارق حلب وكل الشمال السوري. تحركت كما لو أن سوريا لا تزال ولاية عثمانية. فما كان أمامها سوى التدخل في الشؤون الداخلية لبلد مجاور فتح لها القلوب والأبواب، فكانت النتيجة أسلحة وقذائف وإرهابيين استقدمتهم من كل أنحاء العالم من اجل تغيير النظام وعبره المنطقة القريبة منها فالبعيدة مثل مصر وليبيا والخليج، وباتت راعية لأكثر التنظيمات الإرهابية دموية وتوحشاً.
وتصرفت تركيا من منطق الكراهية الشديدة تجاه الأكراد، سواء في سوريا أو في داخلها. وكانت النتيجة نشوء حزام كردي في سوريا على امتداد الحدود التركية، وعودة «حزب العمال الكردستاني» إلى انتفاضة لا تزال مستمرة، ويرفع الآن شعار الحكم الذاتي الذي بدأ يطبقه على أرض الواقع، والذي لم تجد تركيا لمواجهته سوى أن تسحل مقاتلا كردياً، ربما يكون مدنياً، وربطه بسيارة وجرّه على الطريق في مشهد يندى له جبين الإنسانية، والذي لم يجد داود أوغلو سوى أن يقول إنه «إرهابي» كردي. كان الأجدر به أن يندد بالحادثة حتى لو كان المسحول «إرهابيا» من «الكردستاني»، فهذا ما تقتضيه الأخلاق الإسلامية على الأقل.
وعلى امتداد الأزمة في سوريا حاولت روسيا (لندع محاولات إيران جانبا) أن تغير السياسة التركية بالحسنى والإغراءات الاقتصادية. حتى خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي كانت تعتزم روسيا مده عبر البحر الأسود إلى بلغاريا فأوروبا ألغته، واتفقت مع أنقرة أن تمده عبر الأراضي التركية فاليونان، مع ما يعنيه ذلك من مكاسب مادية ومعنوية لتركيا.
غير أن كل هذا ذهب أدراج الرياح، وأمعنت تركيا في أن تواصل نسج المؤامرات في سوريا والتقدم عبر الجماعات التي تساندها على الأرض لتضييق الخناق على النظام السوري والقوى التي معه، فكان سقوط إدلب وجسر الشغور وبعد ذلك تدمر وغيرها. جاءت كل الجيوش والطائرات والمسلحين من كل العالم لضرب سوريا وتغيير الخريطة الجغرافية والسياسية في المنطقة، وبالتالي في العالم.
لكن اللحظة حانت لكي ينزل حلفاء النظام على الأرض وفي الجو وفي البحر. إيران كثفت تواجدها العسكري. «حزب الله» موجود أصلاً. العراق بات مركز غرفة عمليات رباعية تضم إليه إيران وسوريا وروسيا. ومن ثم حانت لحظة التغيير الكبير بنزول الروس على الأرض بأنظمة صواريخهم أولا وبطائراتهم ثانيا.
كشف التدخل الروسي الكذبة الكبرى لشعار «الحرب على الإرهاب» الذي انطلق قبل سنة. لا «داعش» تَراجَعَ، بل تَقَدَّمَ في كل المناطق، ولا الجماعات الإرهابية الأخرى، ومنها «جبهة النصرة» أصيبت بأذى، بل تعزز دورها وتحالفت مع «جيش الفتح» وغيره المدعوم تركياً وخليجياً، لتكون النتيجة محاولات عملية لمزيد من إضعاف النظام ومَن معه.
في هذه اللحظة بالذات جاءت روسيا لترسم الحدود الجديدة للصراع في سوريا والمنطقة والعالم. سوريا هي المحطة الأخيرة المتبقية لروسيا في المتوسط، وهي ملتقى كل الإرهابيين الذين جاؤوا عبر تركيا. روسيا لن تسمح بخسارة قاعدتها الوحيدة على المتوسط ولن تسمح بأن تنتهي الحرب في سوريا إلى هزيمة للنظام، لينتقل بعدها المسلحون من سوريا إلى القوقاز وعبر تركيا بالذات. هدفان أساسيان معهما الكثير من الأهداف الأخرى لا يتيحان أي تردد لروسيا بأن تفعل ما فعلته. روسيا، القوة العظمى، لم تأتِ لتنهزم. جاءت لتربح، أو على الأقل لترسم معادلات توازنية تتيح فرصة أخرى للحل السلمي.
جاء التدخل الروسي في لحظة لا يمكن فيها أن يتهم أحد موسكو بأن خطوتها غير شرعية أو غير مقبولة. تُفاجَأ تركيا بالتدخل الروسي، وبهذه الطريقة القوية، ما جعل أردوغان يهدد بأن روسيا ستخسر الكثير في حال خسرت علاقتها بتركيا، ومتسائلا عن سر الاهتمام الروسي الكبير بسوريا رغم انه لا حدود مشتركة لها معها.
أولاً، إن أردوغان نفسه لم يشارك في العقوبات الغربية على روسيا بعد أحداث أوكرانيا، رغم انه دان ضم القرم إلى روسيا. غلّب المصالح التركية الاقتصادية على العوامل السياسية. هل هذا يعني أن الرد التركي على الخطوة الروسية في سوريا سيكون مشابها للرد على الخطوة الروسية في أوكرانيا؟ الجواب الغالب هو بنعم. إذ إن تركيا تستورد 60 في المئة من حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا و41 من إنتاج الطاقة الكهربائية في تركيا يأتي من الغاز الطبيعي، وتواجه تركيا من 5 إلى 10 في المئة من حاجتها للنفط منها.
ربما تفكر تركيا بالاستيراد من مصادر أخرى بدلاً من روسيا، لكن هذا لا يتم خلال وقت قصير، وإلى حينها لا أحد يدري أين ستكون الأوضاع قد استقرت. وربما تعمد تركيا إلى إلغاء تلزيم الروس إقامة مفاعل نووي في مرسين. لكن هذا يتطلب وقتاً لتحديد البديل، فضلا عن ضرب مصداقية الدولة في التعامل مع الآخرين وعدم وجود ضمانات للالتزام بالعقود والمواثيق. كما أن سياسة أردوغان كانت التذبذب بين الغرب وبين روسيا والصين. فأردوغان نفسه طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سابقاً أن يضم تركيا إلى منظمة شانغهاي كبديل عن الاتحاد الأوروبي. فهل سيخسر أردوغان قوة التلويح للأوروبيين بهذه الورقة، علما أن أنقرة لن تُقبَلَ في منظمة شنغهاي كونها عضوا في حلف شمال الأطلسي، والمنظمة ليست فقط سياسية واقتصادية بل هي أيضا أمنية؟
قول أردوغان إن روسيا ستخسر الكثير ليس له ترجمة على أرض الواقع. فتركيا لها عشرات الآلاف من العمال والموظفين في الشركات التركية العاملة في روسيا. هناك استثمارات تركية في روسيا بقيمة 52 مليار دولار، بمشاريع يبلغ عددها 1516 مشروعا. وروسيا سابع بلد لجهة التصدير التركي للمنتجات الغذائية والنسيج، وقيمتها 6 مليارات دولار مقابل 21 مليار واردات من روسيا. هناك ثمانية ملايين من الروس قصدوا تركيا كسائحين في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، وروسيا تأتي بعد ألمانيا لجهة عدد السياح الذين يقصدون تركيا. وأنقرة ليس من مصلحتها أن تعيد الخناق عليها بتوتير العلاقات مع موسكو، خصوصاً في وقت تتسم فيه علاقات أردوغان بالتوتر مع الغرب وأوروبا وواشنطن حول الكثير من القضايا، ومنها قضايا اللاجئين والأكراد وأولويات الصراع في المنطقة والعلاقات مع إسرائيل. خسارة تركيا لروسيا تعني ارتماءها الكامل في الحضن الغربي، وهو ما يتعارض مع المواقف التي يرفعها أردوغان.
أما قول أردوغان إن روسيا ليس لها حدود مشتركة مع سوريا، وبالتالي ليس من داع للاهتمام إلى هذه الدرجة بها، والتدخل على هذا النحو، إنما يثير القهقهة والضحك، حيث لا ندري سببا لاهتمام تركيا الزائد بالصومال وميانمار، رغم انه لا حدود مشتركة لها معهما. علما أن وجود حدود مشتركة مثلا بين تركيا وسوريا لا يبرر كل هذا التدخل الوقح لأنقرة بالشأن الداخلي السوري.
النزول الروسي إلى الجو السوري أنهى عمليا خمسة شعارات كانت ترفعها تركيا، وتدور بها في المنطقة والعالم:
1ـ نهاية منطق المنطقة العازلة.
2ـ وفوقها منطقة حظر طيران، حيث بات الطيران الروسي هو المسيطر.
3ـ نهاية منظومة قواعد الاشتباك التي وضعتها أنقرة من طرف واحد بعد إسقاط سوريا لطائرة حربية تركية فوق خليج الاسكندرون قبل سنتين. وأنقرة كانت تعتبر أي طائرة سورية تحلق على عمق خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية نفسها هدفا لها. أما الآن فالطائرات الروسية لا تكتفي بالتحليق فوق تلك الخمسة كيلومترات بل انتهكت أكثر من مرة المجال الجوي التركي، ولم تتجرأ أنقرة على إسقاط أي طائرة روسية. والتحليق الروسي لم يكن سهوا على ما ذكر، بل كان كل انتهاك يستمر 4-5 دقائق في تحدّ واضح لتركيا، بل إن أنقرة نفسها أعلنت أن نظام الدفاع السوري وجه إشاراته أكثر من مرة إلى الطائرات التركية لإسقاطها. أي أن قواعد الاشتباك التركية طارت، وحلت محلها قواعد اشتباك مضادة ترسمها روسيا وسوريا وليس تركيا.
4ـ لقد جاء التدخل الروسي، كما قال بوتين، بناء على طلب الرئيس السوري بشار الأسد. أي أن أردوغان إذا كان يريد إسقاط الأسد فعليه إسقاط بوتين أولا.
5ـ وجاء التدخل الروسي ليسقط أو يضعف واحداً من الأهداف الكبيرة لتركيا، وهو إضعاف أكراد سوريا ومن خلفهم أكراد تركيا و «حزب العمال الكردستاني». إن واحداً من اكبر الرابحين من التدخل الروسي هم وحدات الحماية الكردية. ينظرون إلى اليمين فيجدون أميركا بجانبهم وينظرون إلى الشمال فيجدون روسيا إلى جانبهم، وينظرون إلى السماء فيجدون تارة الطائرات الأميركية وتارة الطائرات الروسية إلى جانبهم، فمن أين لأنقرة المفر؟
في المحصلة، ننظر إلى أهداف أنقرة وشعاراتها فنجد أنها ضربت كلها، ولم يتبَقَّ لها سوى أن تستغيث بحلف شمال الأطلسي الذي يدرك انه عاجز عن التدخل لصد الطائرات الروسية، لأنه لا يريد تطوير الوضع إلى حرب عالمية ثالثة. فلا يكون أمام أنقرة سوى أن تستتر بظل الحائط لتخرج بأقل الأضرار.
بالطبع سوف تدفع أنقرة ثمن مغامرتها ورهاناتها الخاطئة إلى أقصاها في الأيام المقبلة، لمنع تراجع الجماعات الموالية لها، لا سيما في ادلب وجسر الشغور ومحيط حلب، وذلك عبر مد هذه الجماعات بأقصى الدعم الممكن.
لكن زمام المبادرة قد أفلت من يد أنقرة وحلفائها لمزيد من التقدم في انتظار تغيير الوقائع الميدانية على الأرض، وصولا إلى طاولة مفاوضات تحول دون تغيير الموازين لغير مصلحة روسيا وسوريا وإيران. فروسيا، القوة العظمى، لم تنزل إلى الأرض في سوريا لتخرج مهزومة، فهي «حرب مقدسة» مدعومة من الكنيسة الروسية، يستفيد منها كل الذين تأذوا من سياسات قطع الرؤوس وتكسير الصلبان وسبي الإيزيديات وتدمير التراث وتكفير الآخرين و... عثمنة المنطقة.