الخيارات التركية في سورية و«ثلاثية الفشل»

الخيارات التركية في سورية و«ثلاثية الفشل»

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٦ أكتوبر ٢٠١٥

تضيق الخيارات أمام الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بعد التدخل الروسي في سوريا. تضيق ولا تنعدم، لأنّ "تركيا الاردوغانية" رغم الخسائر السياسية والوهن الذي تبديه داخليًا وخارجيًا، لا تزال تملك أوراقًا من الممكن أن تستعملها في المرحلة المقبلة.

من الواضح أنّ الأتراك فوجئوا بالخطوة الروسية. ظهر ذلك في تصريحاتهم الخجولة، وفي تماشيهم مع رد الفعل الاميركي المتحفّظ دون أية تدابير. التحليق الروسي فوق الاراضي التركية جاء كاختبارٍ ميداني أجرته موسكو لفهم حدود الموقف التركي. وكان اختبارًا حربيًا أجرته طائرة "سوخوي" مجهزة بصواريخ جو-جو. هذه رسالة عسكرية فهمتها أنقرة وحاولت التعاطي معها بالأطر الديبلوماسية، خلافًا لأسلوب تعاطيها مع المروحيات أو الطائرات السورية التي كانت تخترق الأجواء التركية.

الموقف التركي الآن متحفظٌ حيال التدخل الروسي ويميل الى السلبية. ولكنّ أنقرة لن تكون معنية بلعب دور رأس الحربة في مواجهة الروس. لا ظروفها الداخلية تسمح بذلك الآن، ولا موازين القوى الإقليمية تخدم هذا الخيار. هي في مرحلة "امتصاص الصدمة" وفهم حدود العملية الروسية وخيارات التعامل معها شمالًا وفي الشمال الشرقي.

الخسائر التركية المباشرة في سوريا منذ بدء الأزمة عام 2011 تتلخّص بثلاثية من الفشل. فشل الإطاحة بالدولة السورية ورأسها، وكذلك فشل إقامة "منطقة آمنة" أو عازلة، وفشل في الحد من التمدد الكردي شمال شرق سوريا.

هذه الثلاثية تضاف الى وضعٍ داخلي حرج، ولحظةٍ سياسيةٍ ميتة. حتى لو توفرت الظروف والإرادة السياسية، لن تقدر الحكومة التركية التحرك في مطلق إتجاه على مسافة شهرٍ واحدٍ من الانتخابات النيابية. ولذلك، أمام الروس والإيرانيين والسوريين "مرحلة آمنة" يمكن التحرك خلالها بقوة وفاعلية ضد الاهداف الارهابية في سوريا.

الفرصة تؤمنها اليوم الظروف التركية في الميدان السوري، ومصالح واعتبارات تخص واشنطن بما هو أبعد من الاقليم وسوريا.

قد تنتهي هذه الفرصة مع ظهور نتائج الانتخابات التركية واتضاح مستقبل السلطة في أنقرة. هنالك كتلة إسلامية صلبة ستعيد إنتخاب اردوغان لأسباب سياسية ومذهبية وعقائدية. اذا استطاع الرجل تحسين وضعه الانتخابي والحصول مجددًا على شرعيةٍ شعبية، سيكون في مقدوره القيام بإجراءات مواجهة مع الروس في الشمال السوري بشكلٍ يتماشى مع سياسة الحفاظ على مصالح تركيا الحيوية، وفي مقدمها الحدود واللاجئين والمسألة الكردية.

أما اذا أعيدت نتائج الانتخابات السابقة وحقق الأكراد في تركيا الأرقام التي حققوها في الانتخابات السابقة، فإنّ الرئيس التركي سيكون مضطرًا لتشكيل حكومةٍ ائتلافيةٍ مع "حلفاء بشار الأسد" من الحزب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي. وهذا يعني وجود سلطة جديدة في أنقرة تحمل رؤيةً جديدةً ومختلفةً للصراع في سوريا وللعلاقة مع دول المنطقة ودمشق والرئيس بشار الأسد "العلماني" بمواجهة الارهابيين الاسلاميين.

وعليه، فمن المتوقع بعد الانتخابات التركية وبناءً على نتائجها أن يتبلور موقف أميركي-تركي مشترك من التدخل الروسي لكن بأهداف مختلفة.

أميركا تريد منع روسيا من الاستثمار الكامل في سوريا والعراق، وتريد حصةً لحلفائها وضمانًا لمصالحها في أي صيغة تنتجها العملية العسكرية الروسية داخل سوريا، وربما لاحقًا العراق.

أما تركيا، فلديها مخاوف إستراتيجية من الوجود الروسي في الساحل السوري المتوسطي، خاصةً بعد أن ضمّت موسكو جزيرة القرم على البحر الاسود. ومن شأن نجاح الحملة العسكرية الروسية في الشمال السوري وتثبيت حضورها على المتوسط، أن يضع شبه جزيرة الاناضول بين فكّي كماشة بحرية وبرية روسية، من البحر المتوسط الى البحر الأسود مرورًا بالمضائق. هذا الأمر يعيد إحياء مخاوف تركية قديمة تعود لحقبة "حروب القرم" قبل 350 عامًا بينها وبين روسيا القيصرية، ناهيك عن عقدة "يالطا" حيث تخشى انقرة دائمًا على كيانها وأراضيها عندما يجلس الكبار لتقاسم النفوذ، على غرار ما جرى في "مؤتمر يالطا" عقب انتهاء الحرب الثانية عام 1945.

من الخيارات التركية المستقبلية زيادة التفاهم مع السعودية، وتغليب المصلحة المشتركة داخل سوريا على التناقضات بين الطرفين. ربما يتجلى ذلك بالتعاون ميدانياً، في التسليح النوعي للمعارضة المسلحة، وتسليمها مضادات حديثة للطيران وأسلحة نوعية لم يسبق أن استلمتها. هنالك حديث يتصاعد الآن، عن محاولة تركية-سعودية للإستثمار "الانتهازي" في الجهود الجوية الروسية ضد "داعش"، وذلك من خلال تحريك قوات من المسلحين الموالين للرياض وأنقرة نحو مدينة "الرقة"وأخذها من "تنظيم الدولة"، استباقًا للعملية البرية التي قد يشنها الجيش السوري في تلك المنطقة.

عندها ستجد موسكو نفسها في مواجهة مباشرة مع انقرة والرياض، وخلفهما واشنطن بما يسمح تكرار "التجربة الجهادية" في افغانستان ضد الروس أو السوفيات بنسخة سورية. وقد بدأت أصواتٌ أصولية تعلو في الدعوة لإعلان الجهاد ضد غزو صليبي جديد. حرفة التحشيد الطائفي والجهاد الغرائزي تتقنها السعودية، وقد تلجأ اليها عندما تسمح واشنطن بذلك. عندها سنسمع من خطيب الحرم المكي والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهما فتاوى غزيرة تدعو "الشباب المسلم" للإلتحاق بالجبهات ضد "الكفار والصليبيين" في سوريا.

روسيا من جهتها بحاجة لمعركة جديدة مع هؤلاء بمفعولٍ رجعي. دخولها في سوريا ليس للمزاح بل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وليس في مقدورها التراجع رغم المخاطر الواقعية التي قد تستجد. وفي جميع الحالات، ستكون التجربة السورية فرصةً للروس لمحو أثر الهزيمة العسكرية في أفغانستان.

لم تستطع تركيا التفوق على روسيا تاريخيًا إلّا بمساعدة حلفاء. هكذا "انتصرت" عليها في حرب القرم عام 1856 بدعمٍ فرنسي بريطاني، جاء ضد التوسع الروسي في كامل البحر الاسود. سجّل التاريخ هذه المعركة نصرًا عثمانيًا، لكنّ المؤرخين الموضوعيين يدركون أنه نصرٌ فرنسي-بريطاني بديكور عثماني.

في المعركة داخل سوريا لن تكون تركيا قادرةعلى مواجهة روسيا وحدها، ستحتاج لدعم الحلفاء ومنهم "الحلف الاطلسي" وبالتالي توريطه.. فهل تقدم على هذه الخطوة؟ وهل تستطيع؟