فرنسا في إيران.. هل تصلح ما أفسده الدهر؟

فرنسا في إيران.. هل تصلح ما أفسده الدهر؟

أخبار عربية ودولية

السبت، ١ أغسطس ٢٠١٥

إنه الـ «بيزنس». بهذه العبارة، يمكن تلخيص زيارة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الاخيرة لإيران. زيارة مبكرة، إذا ما قيست بالتشدد الذي اتسمت به مواقف باريس خلال المفاوضات النووية بين طهران ومجموعة «5+1»، والتي هددت في لحظة ما بنسف إمكانية التوصل إلى تفاهم نهائي حول برنامج إيران النووي. ولكنها تأتي متأخرة نسبيا في الوقت نفسه، بعدما سجلت ألمانيا الهدف الأول في المرمى الدولي، بافتتاحها أول صفحة لعلاقات جديدة بين إيران والغرب بعد الاتفاق التاريخي.
هو «البيزنس» ـ السياسي والاقتصادي ـ بالمفهوم الفرنسي في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، الذي يسعى إلى توسيع «بيكاره» دولياً، في ظل الفشل الذي يراكمه في الداخل عاماً بعد عام. «يتنطح» الرئيس الفرنسي ليسابق الأميركيين في كل شيء: يثبت وجوده في أفريقيا، حديقة بلاده الخلفية، يوقع العقود بالمليارات مع دول الخليج السخية، ويسترضي إسرائيل.
مع إيران، لا يختلف الأمر كثيراً عند الرئيس الفرنسي. عينه على واشنطن، وهو يسارع إلى إرسال رئيس ديبلوماسيته إلى طهران، بعدما «صم» أذنيه طويلاً عن تذمر الشركات الفرنسية واللوبيات الاقتصادية في الداخل وحتى صناع القرار والبرلمانيين. سؤالهم لطالما كان موحداً: ما دخلنا بالنووي الإيراني؟ ولماذا تغلق في وجهنا ابواب «إلدورادو» بلاد فارس في الوقت الذي يعمل غيرنا «من تحت الطاولة» في زمن العقوبات المشددة؟ والنميمة تطال هنا الولايات المتحدة تحديدا.
مسار اقتصادي منحدر
منذ أن عاد الإمام الخميني إلى إيران في العام 1979 بعد نجاح الثورة الإسلامية في الإطاحة بنظام الشاه، تعرضت العلاقات الفرنسية ـ الإيرانية إلى الكثير من الخضات. لم تحصل يوماً قطيعة نهائية، ولكن الود غاب كثيراً. ملفات كثيرة فتحت، حقوق كثيرة طالبت بها الجمهورية الإسلامية في مسار صعب شقته مع المجتمع الدولي، وحروب لم تكن الجمهورية الفرنسية خلالها في صفها، لكن طهران لم تستثن يوماً الشراكة الاقتصادية مع الفرنسيين من قاموسها.
الفرنسيون قاموا أحياناً بالمثل. حتى عندما أقر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في العام 1996 قانون «داماتو ـ كينيدي» الذي هدد بمعاقبة الشركات العالمية التي تتعامل مع إيران وليبيا، نجح نظيره الفرنسي جاك شيراك في الالتفاف على القانون ومقاومته. إلى أن وصل نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة. مزايدة الاخير في التصلب حيال إيران فاجأت الأميركيين أنفسهم.
في عهد ساركوزي، بدأ المسار الانحداري للوجود الاقتصادي الفرنسي في إيران. ولاية ساركوزي، تقابلها ولايتان للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، كانتا سيئتين جداً بالنسبة إلى العلاقات الثنائية، لاسيما الاقتصادية منها. وبالرغم من استمرار أوروبا في علاقاتها التجارية مع إيران، لاسيما عن طريق التصدير عبر الإمارات، من الممكن القول إن فرنسا خرجت من دائرة التصنيف في هذا الإطار. في العام 2012، هبط مستوى استيراد النفط من إيران إلى فرنسا إلى النصف. كذلك بدأت الشركات الفرنسية المتواجدة في إيران بالمغادرة. طوال ذلك الوقت، تضررت هذه الشركات كثيراً، فيما وجدت إيران البدائل بسهولة.
أكمل هولاند ما بدأه سلفه. بين العامين 2010 و2013، كانت العقوبات الأوروبية على إيران تتشدد. خرجت الشركات الفرنسية من العملية بخسارة كبيرة. شركة «بيجو» لصناعة السيارات انسحبت تماماً من المشهد الإيراني في العام 2012 بعد شراكتها مع العملاق الأميركي «جنرال موتورز»، وذلك بضغط من لوبي «متحدون ضد إيران نووية». انسحاب «بيجو» أساء كثيراً للعلاقات الاقتصادية بين إيران وفرنسا. شركات الأدوية والغذاء خف حضور بعضها إلى الصفر في الجمهورية الإسلامية، بالرغم من استمرار بعضها بالعمل بطرق التفت على إجراءات العقوبات.
الشركات الفرنسية: ملكيون أكثر من الملك
الضغط الأميركي على فرنسا كان واضحاً في تلك الفترة. في شباط العام 2014، زار وفد كبير من تجمع الشركات الفرنسية «ميديف» طهران بعد تخفيف للعقوبات عن الجمهورية الإيرانية. ضم الوفد شركات مثل «سافران» و «إيرباص» و«رينو» و «الكاتيل» و «لوريال» وغيرها.
قبل أن يغادر إلى العاصمة الإيرانية، أخذ الوفد تعليمات من دوائر القرار الفرنسية بـ «عدم استعراض» الزيارة. «تذكروا انها زيارة استطلاع وليست زيارة توقيع عقود»، هكذا كانت الأوامر. رد صاحب أكبر شركة أجبان في فرنسا «بيل»، بحسب ما يروي الصحافي والخبير في شؤون الشرق الأوسط جورج مالبرونو، بالقول حينها، «ولكن ما دخل البقرة الحلوب بالنووي الإيراني؟ اتركوها تضحك».
زار الوفد طهران، وعاد بانطباع مفاده «أننا خسرنا السوق الإيرانية في الوقت الذي يمرح غيرنا ويسرح فيها». صرخ أحد أعضاء الوفد «إنهم يشربون الكوكا كولا هناك. لماذا يريدوننا أن نكون ملكيين أكثر من الملك». لكن واشنطن لم تنتظر طويلاً للاعتراض على الزيارة. ثار غضب الأميركيين، وسجل وزير خارجيتهم جون كيري استياءه الشديد.
في تلك الأثناء، لم تسلم مؤسسات فرنسية من العقاب. في العام 2014، أقر القضاء الاميركي غرامة بلغت 8.9 مليارات دولار على مصرف «بي ان بي باريبا» لمخالفته العقوبات الاميركية المفروضة على السودان وكوبا وايران. في أواخر العام ذاته، واجهت شركة «توتال» القضاء في قضية فساد تتعلق بعقود نفط مع إيران.
هذه الأحداث وغيرها ولدت انطباعاً لدى الشركات الفرنسية بأن هناك من يريد سحب «السجاد الإيراني» من تحت اقدامها.
في نيسان العام 2014، زار وفد من لجنة المال في الغرفة العليا في البرلمان الفرنسي (senat) طهران. خرج الوفد المؤلف من ستة أعضاء بانطباع قاتم. في تقريره، يقول الوفد إن «فرنسا هي أكبر الخاسرين جراء العقوبات على إيران»، معتبراً ان «تطبيقنا الصارم للأنظمة المختلفة للعقوبات مدمر من وجهة النظر الاقتصادية، وذهابنا إلى اقصى درجة يتعارض مع الإستراتيجيات التي ينتهجها منافسونا».
وأضاف الوفد في تقريره أن «المصارف الفرنسية (والأوروبية) جرى محوها بضغط من القانون الأميركي الذي يعمل بنظرية الكيل بمكيالين»، والذي وصفه التقرير بـ «النفاق الأميركي»، ليؤكد ان «العقوبات بكل الأحوال تضر بالدول الأوروبية، وأولها فرنسا، أكثر بكثير من الولايات المتحدة».
وإذ أشار التقرير إلى أن حجم التبادل التجاري بين فرنسا وإيران انخفض من أربع مليارات يورو في العام 2004 إلى 500 مليون يورو في العام 2013، قال إن «العقوبات بالرغم من وقعها المؤلم في إيران، إلا أن الاقتصاد في الجمهورية الإسلامية أثبت مقاومة لافتة وهو بعيد جداً عن الانهيار». وكان التقرير لافتاً في مهاجمته السياسة الأميركية. وقال إن «اللوبيات الأميركية التي تنشط ضد إيران كانت فعالة أكثر في أوروبا أكثر منها في الولايات المتحدة».
واليوم، هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ يؤكد فابيوس ان وفداً اقتصادياً رفيع المستوى سيزور طهران في أيلول المقبل. ويجزم بان موقف بلاده المتشدد خلال المفاوضات النووية لا يجب أن يؤثر على العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
فرنسا لا تبتعد عن الإنتهازية في تعاطيها مع شؤون الشرق الأوسط. ملفات سياسية كثيرة لا تزال عالقة بين البلدين. اليمن وسوريا ولبنان في صلبها، وتحاول باريس إبعادها عن الملف الاقتصادي. إيران من جهتها، تفتح ابوابها امام الجميع. ولكن هل يكون تناغم الاقتصاد والسياسة من صلب استراتيجيتها المقبلة؟ سؤال جوابه برسم إيران أولاً.. ورؤيتها لإدارة مرحلة ما بعد الإتفاق النووي.