سياسات أردوغان: "عالسكِّين يا بطِّيخ"!

سياسات أردوغان: "عالسكِّين يا بطِّيخ"!

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٨ يوليو ٢٠١٥

لسنا نعيِّر رجب طيب أردوغان أنه في بداياته كان بائع بطِّيخٍ مع والده، لأن المهنة شرفٌ لمن يُتقنها، لكن المشكلة أن ينتقل رجلٌ من على بسطة البطّيخ الى كرسي رئاسة الوزراء ومن ثم الى رئاسة الجمهورية، وما زال يعتقد كما بائعي الخضار والفاكهة أن من يرفع صوته أكثر يبيع أكثر.

وتركيا التي أوصلت رجب طيب أردوغان الى السلطة، تبدو أنها كمن اشترت رأس بطيخ مع جهلٍ بنوعيته وجودته، لعدم استيعاب الشعب ماذا يدور في رأس أردوغان وإلى أين يرغب الوصول بتركيا، الى أن جاءت الإنتخابات البرلمانية الأخيرة وأتت صناديق اقتراعها وكأنها رؤوس بطيخ خيبت آمال البائع عندما ردّ عليه الزبائن بما لا يشتهي، والسكين ارتدت الى نحره خيبة كبيرة.
 
وضعُ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم لم يعُد مُريحاً بعد الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، وقد أخطأ بالتفاؤل المسبق عن نتائج كان يحلم بها بالقياس الى انتخابات عامي 2007 و2011، والنتائج المخيِّبة جاءت نتيجة عوامل داخلية وخارجية متراكمة، من أسلوب التسلُّط الذي انتهجه خلال حكمه كرئيس للوزراء، مما شكَّل له عداوات مع العلمانيين، الى الجيش الذي كان يتمتع باستقلالية كونه المؤسسة المؤتمنة على إرث “أتاتورك” العلماني وَوضَعَهُ أردوغان تحت سلطة الحكومة، وتطوُّر الخلافات مع حلفائه المُمَثَّلين بجماعة "فتح الله كولن" النافذة على خلفية فضائح الفساد التي طالت نجله وأقرب المقرَّبين إليه، الى إستغلال وضع القائد الكردي عبدالله أوجلان وإلزامه توقيع معاهدة سلام والرجل خلف القضبان، وانسحاب مقاتلي حزب العمال الكردستاني من تركيا على أساس استكمال الحوار معهم لمنحهم حكماً ذاتياً ونكوثه بوعوده، مما حدا بهم الى الإنضمام إنتخابياً الى حزب الشعوب الديموقراطي ودخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخهم، يُضاف الى ذلك إصراره على حكم رئاسي سلطاني يجعله الحاكم بأمره وقد مهَّد لعرشه ببناء قصر أسطوري في البهرجة يذكِّر الأتراك بقصور سلاطين بني عثمان.

هذا على مستوى الداخل، أما خارجياً، فقد ذهب أردوغان بعيداً بأحلامه، فوقَّع 60 إتفاقية مع الكيان الإسرائيلي عام 2010 من منطلق قومي تركي، ومع بدء ثورات الشرق، ورَّط تركيا في مستنقع "الربيع العربي" عبر تأجيج هذه  الثورات، التي حاول أن يتعاطى معها ببراغماتية جامحة لتحقيق الحلم العثماني الدفين، وإستعادة الهيمنة السياسية على الأقل للأمبراطورية الزائلة، فكان "حاضنة إسلامية " في ليبيا وتونس، و"ديموقراطياً" في احترام صناديق الإقتراع التي أوصلت أخوانه "الأخوان" الى السلطة في مصر، وراديكالياً مع جنوحٍ مذهبيٍّ متهوِّر للقضاء على"العلوية الحاكمة" في سوريا، ومعادياً لطموحات الأكراد في شمال العراق وسوريا.

 تلقَّى الصفعة الأولى نتيجة إقصاء "الأخوان" عن الحكم في مصر، وبقي النصير الوحيد لهم في حقِّهم بالعودة مجدّداً، تحت ذريعة احترام صناديق الإقتراع رغم التحذيرات المصرية، إلى أن قطعت مصر العلاقات، والصفعة الثانية جاءت من سوريا نتيجة عدم السقوط المُرتجى للنظام، مع ما خلَّفته وسوف تخلِّفه شراكته المُعلنة في الحرب على سوريا، نتيجة جعل تركيا مركز قيادة وتدريب، وممرّ رئيسي لعبور المرتزقة بسياراتهم واسلحتهم وعتادهم، وتأمين كافة الخدمات اللوجستية اليومية لميادين القتال، والمساهمة المباشرة في القتال الى جانب داعش خاصة في عين العرب لطرد الأكراد منها، كذلك دعمه للإرهابيين في معارك إدلب، الى أن ارتدَّت اليد التكفيرية الى عقر داره عبر تفجير "سوروج" الدامي على أيدي دواعش شرَّع لهم الحدود، ودخلت تركيا في حربٍ مع داعش دفاعاً عن نفسها، علماً بأن آلافاً مؤلَّفة من الأتراك يتعاطفون مع داعش من منطلق مذهبي، فبات لدى أردوغان ثلاثة أعداء داخل تركيا: ملايين من العلويين المقتدرين مادياً والمسلَّحين بما يكفيهم للإنتفاض في الوقت المناسب، مع ملايين من الأكراد المؤيدين لحزب العمال الكردستاني، إضافة الى الشرائح المؤيدة لداعش.

براغماتية أردوغان المتعرِّجة الفاقدة للمصداقية لم تعُد مناسبة له، وسوف يحصُد ما زرع داخلياً وخارجياً، وإذا كان مستمراً في عناده لإفشال تشكيل حكومة إئتلافية مع "حزب الشعب الجمهوري" الذي يُطالب بوزارتي الخارجية والداخلية، وحزب القومية التركية،  فإنه استبعد من التفاوض حزب الشعوب الديموقراطي الذي يخوض معه  حرباً داخلية سياسية وحرباً عسكرية خارجية على الحدود مع سوريا عبر حزب العمال الكردستاني، فإن أردوغان سيسعى بعد انتهاء المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة الى انتخابات برلمانية مبكرة، لإستعادة الأغلبية التي تخوِّله الدعوة الى استفتاء على النظام الرئاسي السلطاني  علمأً بأن المؤشرات لا توحي بأن نتائجها ستكون أفضل له و"للعدالة والتنمية" من الإنتخابات الأخيرة، رغم أنه سيحاول استغلال حرب داعش على الداخل التركي وإعلانه الحرب عليها وعلى حزب العمال الكردستاني لإستمالة من خذلوه من القوميين الأتراك منذ أسابيع. 
وبعد سنة من تردُّد أردوغان في المشاركة بالتحالف الدولي ضدّ داعش، التي كان يستخدمها لمقارعة الأكراد في عين العرب وتل أبيض وعين عفرين، فإن الفوضى الحاصلة الآن على حدوده الجنوبية، وخوفه من أن يسيطر الأكراد على طول الحدود مع سوريا واتصالهم بأكراد العراق، مما يؤدي الى ترسيم كردستان ككيان يطالب بالإستقلال ويشجِّع الأكراد في الداخل التركي على المطالبة بالإنضمام الى الدولة الجديدة، فإن حربه المزدوجة على داعش وحزب العمال الكردستاني، وقمعه للمظاهرات القائمة في المدن التركية من اسطمبول وصولاً الى ماردين ومرسين، يحاول أردوغان من خلالها تصوير نفسه للشعب التركي بمظهر: أنا أو الفوضى، ولا تراجع عن حلمه بنظام رئاسي يعطيه صفة السلطان، ولهذا السبب يرفض محاورة حزب الشعوب الديموقراطي الكردي  لتشكيل حكومة إئتلافية، لأنه يرغب بانتخابات برلمانية مبكرة في الخريف يأمل أن تُعيد الأغلبية للعدالة والتنمية مع استبدال أحمد داود أوغلو بشخصية أخرى أكثر ديناميكية وراديكالية.


لكن الجيش التركي الذي ينام على ضيم ما ارتكبه أردوغان بحقّه، أخذ زمام المبادرة، نتيجة الوهن السياسي الذي يعيشه أردوغان وحزب العدالة والتنمية حالياً، ويتعامل الجيش مع التطورات الأمنية الداخلية والعسكرية الخارجية حفاظاً على الأمن الهشّ في البلاد بمعزل عن توجيهات أردوغان وحكومة تصريف الأعمال، والهدف هو المساهمة في القضاء على داعش ولجم طموحات الأكراد.
 
اختلطت الأوراق في تركيا الى حدّ الفوضى، وبعد عناد انقرة الطويل، وغض الطرف عن تحركات ونشاطات "داعش" والارهابيين، باتت تركيا اليوم في صلب المعركة، وقد تُطَالَب في ان تكون رأس الحربة للقضاء على "داعش"، وفي حين كانت تركيا تحتاج بالفعل الى حافز ما لتغيير الموقف الأردوغاني الخاطىء بمسايرة داعش، خاصة بعد  التفجيرات الأخيرة التي  تبنَّاها هذا التنظيم،  دَخَل الجيش في سباقٍ مع أردوغان وحزبه في أفضل توقيت ممكن، 
واندفع هذا الجيش للتأكيد للاتراك انه سيكون الحامي الحقيقي لهم وليس سياسة السلطة، وأن قراره بالتدخل الميداني في الحرب على داعش هو لضمان أمن تركيا والاتراك، واتى هذا التدخّل بعد اعتداء على الاتراك، وبالتالي لا مشكلة لديه في سقوط جنود اتراك للدفاع عن تركيا، فيما كان سابقاً يرفض التدخل تحت ذريعة عدم الغرق في مستنقع الارهاب والارهابيين واستنزاف جنوده وضباطه من اجل مصالح دول وشعوب اخرى أراد أردوغان إغراق تركيا بها بسياسة غوغائية...