فشل «عاصفة الجنوب» يكشف صورة العلاقة بين الأردن و«مجاهديه»

فشل «عاصفة الجنوب» يكشف صورة العلاقة بين الأردن و«مجاهديه»

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ١ يوليو ٢٠١٥

تشعر في عمان أن ثمة تفاوتاً في مستويات التعاطي الرسمي مع ظاهرة «السلفية الجهادية»، فالموقف الأردني حاسم لجهة رفض أي دور لهذه الجماعات على الجبهة الجنوبية في سورية، لكن في الداخل الأردني تبدي السلطات مقداراً كبيراً من الهدوء في تعاملها مع ملفاتهم الداخلية. ما جرى أخيراً في معركة «عاصفة الجنوب»، لجهة فشل الفصائل السورية المعارضة في دخول درعا، فسره مراقبون في عمان بصفته استنكافاً أردنياً عن مد هذه الفصائل بأسباب الأنتصار، وذلك لسببين، الأول أن هزيمة النظام السوري في درعا ستفتح الطريق أمام حصار مطبق على دمشق، وهو ما لا يبدو أن أحداً مستعد له حتى الآن، لا سيما في ظل العجز السوري والإقليمي والدولي عن إنتاج بديل، والسبب الثاني هو مشاركة فصائل «جهادية» في «عاصفة الجنوب» مثل «جبهة النصرة» و «أحرار الشام»، وهو ما لا تقبله عمان، خلافاً لأنقرة التي كانت وراء قيام «جيش الفتح» في شمال سورية.

التمنع الأردني عن مد أي تحالف «جهادي» بأسباب الحياة عبر الحدود الأردنية لا يكشف عن توتر بين السلطات في عمان وبين البيئات «الجهادية» في الأردن. وطبعاً لا يعني ذلك أن ثمة علاقة إيجابية. كما أن هناك تفاوتاً بين بيئتي «داعش» و «النصرة» في علاقتهما بالسلطات، ذاك أن «داعش» يُمنع تأييده أو مبايعته في الأردن، أما «النصرة» فيتفاوت تعاطي السلطات مع جماعاتها الأردنية تبعاً لمستويات نشاطهم.

المؤكد أن السلطات صارمة في منع عبور الحدود لـ «الجهاد» في سورية. كما أن العائدين من هذا «الجهاد» هم عرضة لملاحقات ومساءلات وأحكام قضائية. ومن الواضح أن وظيفة هذا المنع مزدوجة، وتتمثل من جهة في تفادي إعادة تشكل المجاهدين في مغترباتهم «الجهادية» مع ما يُمثله ذلك من خطر على المملكة عندما يعودون، ومن جهة ثانية منع «الجهاديين» الأردنيين من الالتحاق بـ «النصرة» على الطرف السوري من الحدود، هناك حيث يقيم «أمراء» النصرة الأردنيون، ممن هم مستمرون بالتواصل مع جماعاتهم في الأردن.

لطالما دعا الشيخ وفيق النداف «الشباب المؤمن» الذي كان يقصد المسجد في عامي 2013 و2014 للتوجه إلى «الجهاد» في سورية. كان ذلك قبل ظهور «داعش» على ما يقول، لكنه كف عن دعواه بعد هذا التاريخ. والنداف داعية سلفي يشرف على مسجد في مدينة الزرقاء الأردنية بناه بيده قرب منزله، ولا يتبع المسجد لوزارة الأوقاف. ويقول أن أربعة شبان «خرجوا» من مسجده ونفذ أحدهم عملية انتحارية في سورية.

وفي اليوم الذي زرنا فيه النداف في منزله قرب المسجد، كانت وسائل التواصل الاجتماعي في الأردن تضج بخبر حضور السفيرة الأميركية في عمان اجتماعاً للمثليين الساعين لتأسيس جمعية لهم في الأردن، وكان الشيخ مذهولاً بالخبر، ومعتقداً أن السفيرة ستضغط على البرلمان الأردني لتشريع قانونٍ يُحل المثلية.

وشيخ المسجد الذي كف عن دعوة الشبان إلى «الجهاد» في سورية، فعل ذلك بعد إقدام «داعش» على إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة. وهو، أي النداف الذي لا يُنكر على البغدادي خلافته بالمطلق وإنما يشرطها بـ «استتباب الأمر له»، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، يشير إلى أن واقعة إحراق الكساسبة كانت حاسمة في «ارتداد الناس عنه»، وقبلها كان يُغَنّى للبغدادي في الأعراس ويتوجه الفتية إلى تنظيمه بالمئات. ويقول منفعلاً: «لقد عرضت أن أذهب للبغدادي وأقنعه بإطلاق معاذ، ولو قبلوا معي كنت سأذهب».

والحال أن ما ينقله شيخ المسجد الزرقاوي هو جزء من الحقيقة، ذاك أن «السلفية الجهادية» في الأردن تكابد فصاماً بين شيوخها ومريديهم. فالشيوخ يؤيدون «النصرة» فيما السواد الأعظم من الناشطين يرون أن «الدولة» هي الخيار. وفي الزرقاء، ركيزة الحضور السلفي الجهادي في الأردن، ينجلي هذا الانقسام على نحو أوضح. فمن المدينة خرج المؤسس الأول لـ «الدولة» قبل أن تُصبح «داعش»، أي أبو مصعب الزرقاوي في أواسط العقد الفائت، والمدينة كانت مسرحاً للخلاف الأول بين الزرقاوي وشيخه «أبو محمد المقدسي» الذي أنكر على مريده أعمال الذبح و «استحلال دماء عوام الشيعة». ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم شكلت الزرقاوية مادة إغراء أكبر لشبان «الجهاد»، فيما تعرض شيخها، المقدسي، لحصار ولحملات تشهير.

في تفسيره لابتعاد «الجهاديين» عنه وعن صديقه أبو محمد المقدسي يرى أبو قتادة (عمر محمود عثمان) أن «التيار في الأردن نما في فترة الجهاد في العراق، بعد أن تحول الأخير إلى الحديقة الخلفية للحالة الجهادية الأردنية. وأن المرحلة الأفغانية بصفتها مرحلة مؤسسة للوعي الجهادي تضمنت دورات علمية وإعداد ديني للمجاهدين. أما في العراق فقد تقدم الإعداد العسكري على كل اعتبار». وفعلاً يرتسم خط الانقسام بين «النصرة» و «داعش» عند حده الأفغاني العراقي، لكنه يبقى ضمن البيئة الواحدة، فالطبيب الجهادي رائف سمارة لطالما مثل جيلاً من «السلفيين» الذين تشكل وعيهم «الجهادي» في المرحلة الأفغانية، وهو اليوم قريب من المقدسي وأبو قتادة وبالتالي من «النصرة»، فيما سائقه ومساعده الشاب قال أنه يرى أن «الدولة» هي خياره، وأن النصرة خرجت عن البيعة وتحالفت مع الجيش الحر الذي يسميه الشاب «الجيش الكر».

المقدسي الذي اختبر «كذب داعش» خلال المفاوضات على مبادلة الطيار الأردني معاذ الكساسبة بعدد من سجناء «داعش» في الأردن، يجزم أن التنظيم يتحكم به بعثيون لا صلة لهم بالسلفية الجهادية. وهو في أعقاب بث «داعش» شريط إحراق الكساسبة جزم بأن من أقدم على الفعلة هم بعثيو التنظيم وليس شرعيوه. وأشار إلى أن «الخليفة الحقيقي» هو أبو علي الأنباري وليس أبو بكر البغدادي، والأول هو ضابط بعثي اسمه الحقيقي سعيد الحنيطي.

وبالفعل تمكن ملاحظة ما قاله المقدسي في وجوه مؤيدي «الدولة» الأردنيين، ذاك أن قيم القوة وفرض السلطة تتقدم في وجوههم على علامات «التسلف» التي يشعر المرء بأنهم أضافوها إلى وجوههم في اللحظات الأخيرة. مع العلم أن ثمة مستجداً على هذا الصعيد يتمثل في تحول الشيعة إلى هوية مضادة ساعدت «داعش». ففي الأردن، حيث لا أثر للتشيع، أظهرت دراسة أن نسبة كبيرة من الأردنيين انتقلوا من تصنيف أنفسهم بصفتهم مسلمين إلى تعريفها بصفتهم مسلمين سنّة. ولاحظ معدو الدراسة أن هذا التعريف تم في بلد لا أثر فيه لنزاع سنّي - شيعي.

قتل في سورية حوالى 350 «مجاهداً» أردنياً وفق الناشط السلفي محمد الشلبي (أبو سياف)، علماً أن أعداد الأردنيين الذين توجهوا إلى سورية منذ بداية الحرب فيها يترواح بين 2500 و3000 آلاف مقاتل. ومدينة الزرقاء هي أكثر من أرسل مقاتلين إلى سورية وتأتي بعدها عمان، ثم إربد والسلط ومعان. والتوزيع المناطقي لأصول «المجاهدين» يكشف أن الخروج إلى «الجهاد» غير خاضع لانفصام الهوية الأردنية بين أردنيين من أصل فلسطيني وشرق أردنيين من أبناء العشائر. ولكن، يبدو أن الخصائص والظروف المحلية لكل مدينة ومنطقة جعلت لـ «الخروج» دلالة ومعنى مختلفاً، فالزرقاء المدينة الفلسطينية في الأردن تقدمت في عدد «الخارجين إلى الجهاد» من أبنائها على المدن الأردنية الأخرى لأسباب كثيرة أولها أنها مدينة أبو مصعب الزرقاوي، والأخير كان مخترقاً نسيجي المجتمع الأردني، ذاك أنه شرق أردني من بني حسن، لكنه كان ابن مدينة فلسطينية الغلبة. أما السلط، وهي من مدن الشرق، وأبناؤها عشائر تشكل ركيزة من ركائز السلطة في عمان، فلـ «خروج» عشرات من أبنائها للقتال في سورية مؤشرات أخرى، تتمثل في تمكن «السلفية الجهادية» من تصديع بنى عشائرية تقليدية، كما يشكل هذا الخروج اضطراباً في علاقة هذه العشائر مع السلطة في عمان. وهذا الأمر يصح أكثر على مدينة معان في أقصى الشرق الأردني، ذاك أن معان شهدت اضطرابات مطلبية ترافقت مع ظاهرة «خروج» مئات من أبنائها لـ «الجهاد» في سورية. ولعل واقعة إقالة قادة أجهزة أمنية أردنية بعد تمكن شبان من معان من السيطرة على سيارة للشرطة ورفع علم «داعش» عليها يشكلان مؤشراً إلى طبيعة التوتر الذي يسود بين السكان وبين السلطات الأردنية.

«داعش» يحظى بغلبة في بيئة السلفيين الجهاديين في الأردن، وعلى رغم أن التوتر على أشده بين مناصري الجماعتين، أي «النصرة» و «داعش»، إلا أن المرء يشعر بأن البيئة المولدة لهما واحدة، وأن الانتقال من جماعة إلى أخرى ليس أمراً عسيراً ولا يحتاج إلى مراجعات ذات قيمة. ففي مقابل إغراء شيوخ «النصرة» ومخضرميها من «الجهاديين» هناك إغراء القوة والفعالية والخلافة التي يشكلها «داعش». المسافة قصيرة وغامضة بين الخيارين، واجتيازها رياضة سهلة ومسلية أحياناً لشبان المدن الأردنية النائية والفقيرة. هذا بالنسبة لـ «المجاهدين» قبل خروجهم لـ «الجهاد»، أما التوجه إلى سورية والالتحاق بإحدى الجماعتين، ثم العودة إلى الأردن، فهذا ما يجعل الانتقال صعباً ومحكوماً بخبرة الصراع العسكري والميداني.

يروي «أبو مجاهد» كيف هاجم «داعش» مقار «النصرة» التي كان مقيماً في إحداها في ريف إدلب، وكيف أقامت الحد على صديقه الأردني الذي لم يبلغ الـ18 من عمره. و «أبو مجاهد» الذي عمد خصومته لـ «داعش» في الدماء السورية، راح بعد عودته يُراجع فتاوى شيوخ «القاعدة» وخلص إلى نتيجة مفادها أن هذه الجــماعة «تطبق الحدود قبل تطبيقها الدين».

التجوال في مدن «المجاهدين» الأردنيين بعد أكثر من أربع سنوات من «الجهاد» في سورية يكشف عن ظواهر مرافقة للظاهرة الأصلية المتمثلة بـ «الخروج للجهاد». اليوم ثمة أكثر من ثلاثمئة عائلة خلفها «مجاهدون» قُتلوا في سورية. هذه العائلات هي أيتام هذه المدن. فقرهم مدقع وأطفال في طريقهم إلى الفتوة والمراهقة ومحملون بقصص آبائهم وأصدقاء آبائهم من المجاهدين، ونساء يسعين للحصول على وثائق وفاة لأزواجهن ولا ينجحن لعدم ثبوت الوفاة وعدم وجود قرائن على حدوثها باستثناء اتصال هاتفي يتيم أجراه «أمير» من سورية لـ «يزف» للعائلة خبر مقتل معيلها.

وفي الوقت الذي تشعر فيه بأن الأردن نجح في ضبط «مجاهديه» على المستوى الأمني، وفي موازنة العلاقة العنفية معهم تبعاً لمصالحه، تشعر في المقابل بأن البيئة التي أنتجت هذه الظاهرة في مدن الهامش الأردني متروكة لوحدها، وبأن الطموح الحكومي على المستويات غير الأمنية لا يشملها، وأن «أسباب الجهاد» قائمة سواء استمرت الحرب في سورية أم توقفت.