المادي مسيَّر

المادي مسيَّر

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٧ فبراير ٢٠١٥

الروحي مخيَّر، جميع المصنوعات مسيَّرة، آلات، سفن، طائرات، حاسبات، مركبات، على اختلاف ما تحتاجه نظم وجود الإنسان، حتى التي تنتظر الاستخراج والتصنيع يقرر شكلها ونوع خدمتها وقيمة وقوة حاجتها إنسان الحياة، بحكم أنّ الحياة عُرفت بالإنسان الذي عَرّف من خلال وجوده المخيّر باقي الأجناس من الحيوان والنبات والجماد، وحينما اختار طرق عيشه آمن بها، وأدرك بأنّه لا يقدر أنْ يحيا بدون خيارات، وعليه يَتكون ويُكون من اختيار طريقة حياته ليؤمن بها، مدركاً بأنّه اِستثني من بين الأجناس الأخرى على الرغم من روحية الباقي إلا أنّها بقيت غريزية تحيا برغبة الاشتهاء، وتفكيرها ينحصر ضمن شهوة بقاياها فبقدر ما يقدِّم لها تقدِّم، إلا أنّ طبيعتها أقوى من أي علاقة تقوم بينها وبين الإنسان الذي يستطيع ومهما بلغ من ضعف أو قوة أنْ يسيطر عليها، وتتعلق قيمتها لديه بما تحققه له من مكاسب أو فوائد، الإنسان الروحي الوحيد يفهم معاني القوة والضعف، النجاح والفشل، الحب والكراهية، فنجده يختار ويمايز، يُقرب ويُبعد ويبتعد، ينقلب ويتحصن، يؤمن ويلحد، ينتصر وينكسر، جبار عتيد وطيب رحيم، وما بينهما تقع مفاهيم الحياة المخيِّرة له، وله منها أنْ يختار.
نسأَلُ بعضنا أنا وأنت، وهو وهي، هل نحن مسيّرون ما معنى الحق والباطل، الصح والخطأ، النار والماء، القتل والإحياء، إذا كنا كذلك فإرادته إما أنْ نكون ملائكة لا نخطئ وإما أنْ نكون إنساناً فنخطئ، الأجناس الأخرى لا تخطئ بحكم عدم امتلاكها لهذه الميزة، وإذا كنا كذلك أي نمارس فعل الخطيئة، فلماذا نحاسب بعضنا كونه هو الذي سيحاسب، ولماذا قال في متن مقدسه ولكم في القِصاصِ حياة يا أولي الألباب، وإذا كنا نخطئ فهذه طبيعة بشرية، إنْ أصلحنا خطأنا الطبيعي فمؤكد أنّنا نغفر لبعضنا، أما إنْ كان قصدنا ارتكاب الخطيئة فنحن مسيّرون بين الصح والخطأ، وإنْ كنا غير ذلك أي مخيّرون من باب امتلاك العقل للفكر وأدواته، فماذا نريد بين هذا وذاك، الحرية أم العبودية، الاختيار أم التسيير، الإيمان بالمنطق الكوني الكلّي السرمدي الأزلي الذي يدعونا للتفكر والتأمل والاكتشاف والتصنيع والإبداع من صفوفه أي من الحياة المنجزة من زهرتها الحاملة لتسع وتسعين صفة حيث كل صفة تمنح الإنسان درجة، ولذلك كان وجودنا على درجات وطبقات، وحاجة حياتيه تدعونا للأخذ بها من باب اختيارنا للأفضل، حيث المنطق العاقل يدلّنا عليه، وله إرادة أنْ لا نكون على ذلك، أي مسيّرين، وهنا تكمن عظمة الإنسان وقواه الفكرية التي تظهره حرّاً، والحرّ يختار القداسة من كل شيء كي يتطهر بها، أما فلسفة العبودية التي تنتظر المُخلّص والخلاص دون فعل إرادة الحرية ففيها يسكن القهر بالتسيير، وأنّ لا حول ولا قوة إلا في الخضوع والإكراه مجبراً ذاته على الطاعة العمياء دون فكر وتفكير، فيغدو مسيّراً، وهنا يتحول إلى غريزي، يشتهي، يقتل، يدمر، يحلم، يأمل دون أي فعل إنساني، أي ينتهي الحب، أو حتى إنّه لا يعرف الحب ولا يرتجي منه أنْ يحيا, حتى وإنْ ادّعى ذلك، وإذا ما تابعت حركته وجدتها لا مسؤولة تكره الحرية بقوة التراكم التاريخي المسكون ضمن عقل الأمة، وتوارثها لأفكار الانصياع لمنطلق التسيير الكوني، وبشكل أدق للعبودية الروحية التي لا تطلب مطلقاً أنْ يكون المخلوق الإنساني عليها، من باب أولاً أنّه خليفة الكلي المكوّن، وثانياً منحه قدرة الصنع والخلق المادي بعد أنْ دعاه ليحكم ويشكم الطبيعة برمتها إليه.
الحياة أهم من العيش الذي يتمثل به الوسيلة، فإنْ قَدّم العيش عليها غدا عبداً لاهثاً وراء كلّ شيء، وفيها تكون الخطيئة، وما أنْ تحل حتى يفقد الإنسان حريته وينضوي إلى قافلة المسيّرين، متوافقاً مع الحب الغريزي، لا يمتلك طريقاً إلى الحياة الكونية المرتبطة بالكلّي المحيط.
ينبغي على جمعينا دحي الخطايا وسحلها والسير عليها، فلا يجب للإنسان الحق أنْ يستسلم لها وينتظر أنْ تلتهمه خطاياه، فإذا كنا مخيّرين، ونحن وجدنا كي نكون كذلك، فعلينا هزم التسيير القادم من الخطيئة، وحده الحب للحياة ينجز التكوين فيتجلى عليه المكون، وأنْ نمهّد دائماً له بيته الذي صنعه هو بيده كي يسكننا، فإذا كان فينا كنا على شاكلته، وليعلم جميعنا أنّنا معه وحدة وجود، وافتراقنا عنه ضعف الموجود، لذلك يجب علينا أنْ نكون به كي يكون بنا.
إنّ من يعتقد أنّ المكوّن أوجده ليكون تابعاً له فهو على خطأ، فوجودك منسوب في حقيقة الأمر له إلا أنّه أرادك أولاً وأخيراً أنْ تكون على شاكلته كي تكون مخيّراً، لا يحتاجك مسيّراً فقط وإلا لماذا أوجدك؟ لنتفكر، نحن حينما نخطئ حينها نشعر بأننا مسيرون، نلجأ إليه كي يكون المخلّص، فإنْ واجهنا الخطيئة وهذا ما يريده نكون أحياء لا نموت، موتة العيش التي يمر بها السواد الأعظم من البشرية المؤمنة بالتسيير.
د. نبيل طعمة