العري في الأزمنة

العري في الأزمنة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٣١ يناير ٢٠١٥

الكون سورة نادرة، كلُّ ما فيها آيات فنية رائعة، تحقق وجودها من خلال الإنسان، الذي لولاه ما كان للكائنات مسمى ولا للوجود وجود، ليس غريباً أنْ يكون العري أقرب الأمثلة الطبيعية إلى التوافق مع طابعه الواقعي، والذي بدونه ما كان لمفاهيم الجمال ومقايساته وأبعاده حضوراً ضمن منظومة الفنون المعمارية والنحتية والرسمية، وحتى في جوهر الكلمة البدء ومن ثم اقرأ في كوننا الكلّي، والذي أفقد بحضوره السلطة الدنيوية السفلى، منتقلاً ومتقلداً سلطة عالم الجمال المتمتعة بلمعان الروح وروعة تألقها، فالكون عارٍ أوجده الكلّي الروحي بما فيه الإنسان، وكان بإمكانه أنْ يوجده مرتدياً متكاملاً، إلا أنّه أودع الإنسان ميزة الاشتغال عليه وتصنيعه له، فكيف بنا نمنع عن الإنسان العاقل أي الاجتماعي ميزات فهم خَلقه العاري الأول واستنباط عناصر الجمال من منظومةِ جُغرافيةِ جسده وخرائطها البيولوجية والجينية، وصولاً ببيئاته الأرضية وما تحتويه، ومحيطه وما يغريه، وأفكاره وما يعتريها، وصحيح أنّ الحضارات حاصرت مفهوم التعري عبر أحقابها الزمنية، إلا أنّ عصور النهضة استطاعت اختراق تلك الحضارات، حتى وصل التعري لدرجاته الفنية القصوى بفعل اكتشاف وإنجاز فضاءات جمالية رائعة وعجائبية حُوّلت إلى رموز شديدة الدقة، وأصابت العقلية البشرية برمتها في مفاصلها ومنحنياتها.
العري في الأزمنة يعيد تقديم وجه الآلهة التاريخية، ويُقدم أجساداً تملؤها الفضائل والرذائل، الفرضيات والخرافات، مفاهيم راقية تبرز مع الكياسة وتهذيب اللغة البصرية وترفع من الذائقة الجمالية للمتكون الإنساني، وحينما نخوض غمار هذا المفهوم تكون الإرادة من طرحه أنّه يمثل الواقع الجوهري للعالم، والذي أصبح بفعل تطور العقل البشري وامتلاكه نواصي فهم الفنون ارتقاءً وعرفاً، بل أعرافٌ فنية شكّلت قطب المظاهر البصرية المتجهة لتجسيد جوهر الفلسفة وأسس بنائها التي أظهرت عصر النهضة الأوروبية ضمن حداثوية المشهد المتقدم إلى الأمام، وصولاً إلى عالمنا الحالي، والذي مزج المادية بالتجريد، مستلهماً من الواقعية المنتشرة بين الأجزاء والمفاصل والتفاصيل تحت وَ حَول خطوط البصر، طبعاً مع احترام نسبية اختلاف طباع المتطلعين، ما يأخذ بنا إلى مجموعة الأحاسيس والميول الفردية، التي تسهم إسهاماً كبيراً في تحديد زمنها وقوة أو ضعف عصرها، وكلما اقتربنا من واقعية رؤية الجسد وفهمه المفعم بالروحية والحركة والنضارة، وشموخ مفرداته ووداعتها التي تتألف من تناظر مفردات الوجه والصدر واعتدال القوام والخصر والتأمل العميق حينما يقع بصرنا على أي جسدٍ عارٍ بشكل تام؛ جماد؛ حيوان؛ نبات، والتدقيق فيه من باب علم الجمال لا من باب الشهوة وإسقاطاتها يمنحنا لغة بصرية نوعية تتفوق فيها لغة التطور الإنساني على لغة الشبق المادي، وصحيح أنْ ليس هناك واقعية كاملة في البناء الجسدي لأي كائن حي، ووجود حالتي اللين والصلابة، الرقة والخشونة في آنٍ من خلال المادي واللامادي، إلا أنّ الفعل البصري الجمالي يؤدي إلى اختلاج الجسد العاري، واحمرار وجنات وجهه من خلال تجمع الدماء وظهور انتفاخات في الأعضاء المنتشرة على خريطة الجسد، ومنه نجد تطوير لغة العري البصري يمنح المشاهد فهماً واعياً لحركة الحياة ونُظم بنائها الدقيقة.
مازال عالمنا العربي واقعاً ضمن سيرورة الماضي، يقف خجولاً أمام تقدم الآخر في المنحى الجمالي، وحتى منتقداً له، على الرغم من محاولات البعض اختراق منظومته الصارمة، وخروجه إلى الحياة المعرفية بحثاً عن تطور مجتمعاتنا، أليس ما يقع فيه بين حين وآخر من أزمات يشكل حالة تعرٍ حقيقي يكشف كامل عوراته السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والسيطرة الشهوانية في تلك المحاور على التذوق الجمالي وفكره الخلّاق، لذلك نجد أنّ التأمل في العري وحالات نشر التعري الجمالي تتجه إلى أولئك المتألمين أصحاب الأرواح المدنّسة بلغة الدعارة الخفية، حيث يدّعون بالطهارة الظاهرة، لذلك يتجه العري إليهم مباشرة، يرسم لهم إرادة غاية الطهر والكمال وفهم مضمون التطهر، فخطوط الجسد ممتلئة باللطف والحلاوة والسحر، ومَن منّا لا ينشد ذلك..؟ أليست جميع الأشياء مجردة حولنا..؟ السماء؛ الأرض؛ الجبال؛ الأشجار؛ ألا تحتاج الثمار لتعريتها قبل التمتع بمذاقها لذلك نجدها تأخذنا بسحرها المتحد مع عريها وتمنحنا لغة حياة جديدة، منشئة لنا زمناً جديداً نَضراً، تتوزع فيه آيات الإبداع الخلّابة إلى حدّ الإعجاز، وكأنها لوحة ذات معانٍ ممزوجة لا ينقصها إلا أنْ تتعرى فيها كي تغدو كاملة، كما هي حال صورة الخلق الأول، إنّ حياة الأزمان لا يمكن لها أنْ تتحول إلى دنيا جميلة دون وجود عنصري جمالها الذكر والأنثى من جنس الإنسان، اللذين تعلما لغة التعري ومفاهيم الجنس من المخلوقات العارية وممارساتها الجنسية، فبدون التعري لا تعبير عن مبادئ الحب وسحره الذي يحملنا على استمرار الحياة، ففيه يكمن سرّ الشباب الكامل والحياة النضرة بأحلى مظاهرها، إنْ لم يتعرَ الفكر تتملكه الخيانة الفكرية فلا يصل حتى حدود الإبداع.. وإنْ لم يتعرَ القلم لا يكتب.. وإنْ لم يتعرَ الإنسان لا ينجب.. وإذا أنجب وهو مكسو بأرديته فإنجابه لن يصل مراحل الطهر الروحي، حيث يبقى ضمن دوائر اللهاث الشهواني.
د. نبيل طعمة