ذاكرة الإنسان

ذاكرة الإنسان

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٠ يناير ٢٠١٥

ممتلئة بما قدمته إليها الحياة من خلال التفاعل معها، وغايتها أنْ يكون على شاكلتها، بحكم امتلاكها مخزون أفكار بنائها، وطبعاً تحتوي ضمنها على مصنفاتها؛ خيّرة بنّاءة وشريرة هدّامة، فإما أنْ تأخذ به إلى حضورها فيحضر من خلال فهمه لصيغ الحياة، أو أنْ يذهب هو بذاته للعيش مع متاعبها لهاثاً خلف أشيائها، تتعبه وتدور به بين فراغاتها، فأنْ تكون سعيداً لا يعني أنّ كلّ شيء مثاليٌ، لكن إنْ قررت النظر إلى ما وراء تلك العيوب وهو مهم جداً حينما تسير إلى الأمام، أو عندما تقرر فعل ذلك من باب أنّك خلقت من أجل ذلك، شريطة أنْ تغلق عينيك وتدخل إلى عالم وجودك وأسبابه كي ترى ما لا تريد رؤيته، أو تحب أنْ تراه منجزاً قبل إنجازه، فإنّك تجد المفقود منك، والمطلوب أنْ لا تقفل قلبك ولا تغلق عقلك عن الأشياء التي استقيتها من نظم الحياة. تساعدك على الاستمرار من خلال تحسس مساراتها ومعها تسعى لتكون سخياً، بحيث لا تسمح لأحد باستغلالك، وامنح الثقة لدرجة لا تبدو فيها ساذجاً، واستمع للآخرين دون أن تفقد شخصيتك، وأعطِ الحب ولا تغامر به دفعة واحدة فتفقده سريعاً، كن حذراً فليس كلّ من ابتسم لك صديقاً، ولحظة أنْ تتحدث عن همومك فكّر بأنّ هناك من سيصطادها، ابتسم وقت راحتك وعندما تتألم، وابتسم إنْ تراكمت الهموم، وابتسم إنْ جرح أحد مشاعرك، لأنّ الابتسامة تحمل الشفاء لكثير من الآلام، ولا ضير أنْ تبكي قليلاً شريطة أن تكون ضمن وحدتك، أو ربما كثيراً، بغاية أنْ تكون متواجداً مع ذاكرتك فقط، فبعض الأمور لا نصلها إلا بالسير على الآلام، انتبه لكلماتك ففيها الكثير من الشحنات السالبة والموجبة، فإذا خرجتْ من بين الشفاه انطلقت كالرصاص مسببة الجراح والهدم والخراب والعذاب، وأيضاً تكون كالعسل تداوي كلّ ما تحدثه الأولى منها، لا تنظر إلى ما يرتسم على الوجوه، ولا تستمع إلى ما تقوله الألسن، ولا تلتفت كثيراً للأهواء فهذا حال الإنسان وهو يغيّر حاله كلّ لحظة وكلّ يوم، فالبعض يريد منك ولا يريدك، والبعض يريدك أنت ولا يريد منك شيئاً، فتعْلم أنّك لست وحيداً لحظة أنْ تكون مع ذاتك، أي مع ذاكرتك في هذا العالم، ومن الممكن جداً أنْ تكون وحيداً فيه، الناجح وطالب النجاح يستمران في طلب العلم والاشتغال به حتى آخر رمق، من حيث إنّه لا يفكر في الرمق الأخير إلا بمقدار ما يحتاجه الإنجاز وما يريده، والفرق بينه وبين الفشل هو أنّ الناجح مستعدٌ دائماً لتحقيق الشيء الذي فشل أو خاف أنْ ينجزه الفاشل.
اللقاء المصيري يتجلى لحظة أنْ تقف معها لتتحدث أنّ المرء لا يعود لاستحضار الذاكرة إلا إذا حضر موقفُ استذكارها، أو وجد ذاته تحت ضغط أسئلة الغير عنها، هل من أحد لا يمتلك ذاكرة أو يستطيع القول إنّ ذاكرتي خالية من أي حدث، جدلية الذاكرة تخص جنس الإنسان فقط ما يمنحنا فرصة للاطلاع على فلسفتها وبحكم أنّ الأجناس الأخرى تمتلكها بالغريزة أو الإحساس فقط، إنّ أسوأ ما يحدث للإنسان هو اعتباره للذاكرة على أنّها تخصه وحده فقط، فالمحيط الاجتماعي له فيها كما هو، فإنْ نسي أو تناسى فهناك من يقوم على تذكيره بها، لذلك نجدها تقوم من فعل المتأمل بالأشياء ومقترنة بالسؤال عن شيء ما أو الإشارة إلى شيء ما، فإنْ فُتح الباب ولم يستطع إغلاقه سقط في بحر ذكرياته، لذلك ينبغي عدم السخرية من ذكريات الآخرين فهم كثر، فإذا فعلت استحضروا ما لا تريد تذكره، على الرغم من عدم وجود شخص لا يعاني أو ليس لديه مشكلات مسكونة فيها، فتكون الذاكرة حالة نقاش دائم عندما نخلو لأنفسنا، وكما ذكرت مع الذات أو مع أشيائها، ولا ينبغي إنْ تملكنا الخوف من رأي الناس فينا أنْ يحوّلها إلى مدمر لثقتنا بأنفسنا، لا تعني الوحدة التفاعل مع الأحداث السابقة، إنّما في زيادة نشاطها وفتح ساحات جديدة أمامها، الذاكرة التي ينبغي على جميعنا أنْ يفعّلها، ففيها الكثير لتسجيله ونحن ذاهبون إلى الأمام.
أدمن الإنسان تعاطي الخيال لحظة إرادته الهروب من الواقع، فإما أنْ يحيا على الذاكرة من خلال النظرة الطبيعية الواعية، والغاية التمسك بالسلام والصحة والصحوة، وإما أنْ يذهب لتقبل الواقع بشجاعة لا تهاب الخوف، فيكون الإنجاز في مواجهته، ومهما حاول الإنسان تغيير الحقيقة أو إخفاءها أو إنكارها أو أنْ يكذب بشأنها إلا أنّها ومهما حاولنا تبقى حقيقة، عيب الحياة أنّها تصنع الذكريات، وعيب الذكريات أنّها لا تعود بل تُحفظ فقط.
د. نبيل طعمة