دمشق الميلاد والمولد

دمشق الميلاد والمولد

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٣ يناير ٢٠١٥

توءمٌ جسّدا وحدة التجارة والسياسة، الأدب والثقافة، العلم والدين، التجانس والتكامل، وأهم من كلّ هذا وذاك وحدة إنسانية راقية قلَّ وندر أنْ تراها في أي مدينة أخرى من مدن العالم، فما تفسده السياسة تصلحه التجارة، حيث لا عداوة في التجارة، والسياسة تُصنع من خلال فهم عقليتها، فكيف بها مع الميلاد والمولد، وبينهما رأس السنة يطل عليهما ضمن جمال الوحدة ورقي الاتحاد اللذين لم ينفصلا عن بعضهما طيلة مسيرة التاريخ، ومن تظهره دمشق يظهر على سورية، تحميه من أجل أنْ يحميها، تحترمه فيغدو العالم وإنْ تاه لحين محترماً له من احترامه لها، حان الوقت كي يعود جميعنا إلى جميعنا، فلا تكتمل لوحتنا إلا إذا تواجد كلُّ واحد منا في موقعه، فدمشق الحب وميلاد المحبة تثبت للعالم أجمع أنّها صاحبة نواصيه، ولأنّها كذلك تعترف أنّ فيها كلَّ شيء كما هي بقية مدن العالم، ولا شيء مقدسٌ فيها إلا المحبة والإنسان الذي أنجز حولها سوراً فتح فيه عشرة أبواب، شرّعها على كلّ جهات الأرض، اعتمد معمارها منها سبعة راسخة، دلالة على قوة تكوينها وفلسفة إيمان أبنائها، ورؤية المكون الكلّي الذي أسماها بلد التين وأقسم بها، فكانت مستقبلة لكل قادم ونابت ومقيم، له أنْ يقدّس فيها ما يحمله من مقدّسه وطالبته فقط بالمحبة، فنجد أنّ أبناء سورية الذين توافدوا إليها عبر كلّ الحقب القديمة والحديثة وقطنوا بها أحاطوها بمحبتهم، أعطوها فأعطتهم، وتداخلوا معها في أحيائها المهاجرين؛ والصالحية؛ وركن الدين؛ والميدان؛ والمزة؛ والشاغور؛ والقصاع؛ وحي الأمين؛ وحتى الشارع المستقيم، وتآخي معابدها مساجدَها وكنائسَها وكنسها، فكانت بهم هدى للعالمين، ناهيك عن الريف الجميل الذي يطوّقها كعقد فريد.
دمشق مدينة التجارة والسياسة حملت هذه الصفة، فكانت دائماً الجامعة اللامعة، ناهضت التقسيم ورفضت أنْ تكون عبدة للطقوس أو مستعبدة من التقاليد والموروث، لم تفصل وجودها عبر كامل الحقب عن جودها وإيمانها، بل كان انتماؤها لوحدة سورية أماناً في جوهرها، ولعالميتها تاج حضورها، لم تعترف يوماً بعبيد الخرافة والعرافة وفتاوى المارقين الذين لم يدركوا حقائق حياتها وقيمة وقوة مدنيتها، إنّها تستدعي اليوم أبناءها أحبتها وهي تحتفي بميلاد ومولد إيمانها بهم، وحركة زمانها تنادي كلّ من بنوا فيها وزاروا رؤاها، تراها اليوم شاخصة على دروب الهوى تدعو إليها كل من حاروا، تثبت للعالم أجمع أنّها ليست عاصمة ذاتها كما أنّها لن تكون إمارة أو سلطنة أو مشيخة، تعلن بأعلى صوتها أنّها عاصمة الجمهورية العربية السورية، وأنّها لكل السوريين كما آمن بها أبناؤها بأنّها لهم، هاهي ذي تثبت دائماً وأبداً للعالم أجمع بأنّها وتد الأرض، إليها الكلُّ يرتبط، فمنها شعّ نور الحب والميلاد، ونور الحب فيها لا تخبو نسائمه، إنْ كان هناك من يسعى لهدم محبتها، فالمحبون لها جنود شهود صدود على من خاروا.
يا دمشق.. يا كلّ المدائن في مدينة.. لا تحزني من الزمان ولو بغى، فصباحاتك خيرات وبركات تفاؤل مستمر، يتطلع جميعنا من خلالها إلى تحقيق الآمال والأحلام، وتبديد للآلام، نستنشق منها أريج ياسمينك البلدي والعراتلي، يا صاحبة بولص الرسول، وموطئ قدم النبي العربي ورجالات العهود والعصور مما مضى وإلى القادم من الزمن مروراً بحاضرك يا ولّادة الأُباة، تحتفين بهم فيحتفي العالم بما أنجزت لهم من لغة الفرح الأبدي، الذي من خلاله تظهر أسارير السلام والحب والوعد بالعطاء على وجوه إنساننا، إنسان الأرض الذي رفع رايتك وأطلق عليك دار السلام، تهيئي واستعدي فظهورك على العالم من جديد حقٌّ مؤكدٌ لك، سنين قاسية مرت فكنت الحكيمة، تجلت بفضل منظومة الصبر المؤلم التي حملها أبناؤك من خلال إمساكهم الدقيق بحركة الزمن والعمل الحثيث، الخبير بما يجري، لا تهابي الردى وقائدك يعدك بأفول وقت المحنة.. فلنهب معه لنحقق الانتصار فها هو العام الجديد يطلُّ حيث العالم أجمع يستعد للاحتفاء بحضورك، يشارك الخلاص مما أحيك لك.
استعدي يا دمشق.. رتبي مائدة اللقاء وصيغي الحوار عليها.. قوديها بقدراتك الفرحة.. فجميعنا عائدون من أبوابك المشرعة دائماً وأبداً إليك.. يا درة الشرق وحاضرة التاريخ، منك بدأ، عربية أنت والإصحاح قد ذكر، أعلي الحقيقة ففيك الطيب والكرم، إليك نحن.. فأنت العشق والقيمُ.
د. نبيل طعمة