المُقامرة

المُقامرة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٩ نوفمبر ٢٠١٤

الكَاسِّينو "Casino" الدولي؛ استطاع من خلال مخططه الخفي أن يستجلب العرب إليه، محولاً جميعهم إلى أوراق بين يديه، وزعها بدقة، وجعل منهم هذا بنتاً وذاك شاباً وآخر "شايباً" وبينهم الأس، ورمى بهم على طاولته وتركهم يتوهون مع دوران الرُولِيت والبَكَرَة، والبوكر أجلسهم جميعاً على طاولة لا رأس لها، جاعلاً جميعهم كيانات، وفي النتيجة الكلُّ خاسر وهو الوحيد الرابح، مع الإيمان بأنّه سيخسر يوماً ما، لعبة الماضي الموغل في القدم استحضرها إلى مدنية الحاضر وحداثويته، التي حولتها إلى ممارسة أقرب إلى التعميم بعد أنْ وفرت لها وسائط جذابة مغرية وخلابة بسيطة، طاولة واحدة تكفي كي يلتئم إليها عدد من المقامرين، أو آلة الحظ "flipper" التي تحتمل أكثر من شخص يلاعبها تحت مسمى فلسفة الربح والخسارة التي تقوم على إلزام الخاسر بالدفع الفوري دون خضوع للعواطف أو القيم أو المبادئ، وإذا دخلنا لتعريفها نجد أنّها قائمة من مفاهيم الصدفة والحظ، حتى إنّ أمهر المقامرين يخضعون لإغراء الفوز ومن ثم الخسارة المؤلمة، لكنهم يستمرون بحكم جذبها لهم ولا توقف معها، فالرابح يغريه الربح، والخاسر يسعى للتعويض فيستمر في خسارته، لذلك يعتبرها المنطق حالة إدمان إنْ تمكنت من المرء لا دواء له، وسلوكاً مرضياً وجريمة بكونها تؤدي إلى الجرائم، لم يستطع القانون المنطقي أنْ يجد لها نصوصاً قاطعة، فنجدها باقية بين التحريم في أحد أضلاع المقدس والتسليم دون تأييد في الباقي منها، لذلك كان المنع والانتشار في بنود القانون الوضعي بين المؤيد والمعارض، وإذا أردنا تعريفها لغوياً نجد أنّ القمار في اللغة العربية من مصدر يقمر، حيث عنى الأرق في الليالي القمرية يقضيه في التخطيط للإيقاع بالآخرين، هي منظومة اللعب السهل أو استسهال الحياة هروباً من التعب فيها والاشتغال لها تاريخياً، يتجه إليها مجموعة من البشر يكتسبونها من بعضهم وينزلقون إليها ومن ثم يتعلقون بها، لكن السؤال الهام والذي يفرض حضوره على جميعنا، أليس كلُّ من يصرّ على الاستمرار في منهج خاطئ أو يصرّ على ارتكاب الخطيئة أو أنّه عَلم أنّ النتائج القادمة من فعله أو أفعاله كارثية ألا يكون من كلّ ذلك مقامراً يقامر بمصيره، فكيف به إنْ كان ربَّ أسرة أو نافذاً مسؤولاً في وعن مجتمع أو أمة؟ أوَ لم يكن نيرون مقامراً وكذلك كان هتلر وموسوليني؟ وأضيف إليهم الآن رؤساء الغرب الاقتصادي، هل القمار يخصّ المقامرين بالمال فقط، وماذا يعني لنا التمسك بالأفكار الهدامة ونظم البناء وثقافة الأنا، ألا تشير إلى أنّ سوادنا الأعظم مقامر بالفطرة، أفراداً ورجال دين واقتصاديين وساسة، حتى العامة من الناس قامروا فكانوا حطب النار وهشيمها، وخسروا ما يملكون بمقامرتهم، وخسروا حتى أنفسهم، وإني لأباعد بين المقامرة والمغامرة على الرغم من التقائهما في نقاط، إلا أنّ المغامرة تعني ظهور مفاجأة مثيرة، أو أنْ يتجه المرء للقيام بحدث خارق مليء بالمخاطر، أو أنْ يرمي المرء نفسه في المخاطر والشدائد ليتحمل أهوالها وتكون له القدرة على الخروج منها أو نهايته ضمنها، والمغامر في كثير من الأحيان تكون شخصيته قوية وفذة تعرف الكيفية التي يتخذ منها القرار، متحملاً أبعاد وتبعات نتائجه، لا يتردد واثقاً بنفسه، ولا يخشى الفشل بحكم إيمانه بالمحاولة إلى درجة التهور، معتقداً أنّه بدونها لا يمكن تحقيق النجاة أو الفوز بما خطط له وأراد، متمسكاً بأنّه مؤثر بينما في حقيقة أمره يكون المدفوع أو المندفع، وحينما نعود لعنواننا نعلم أنّ إيمان المقامر لا يكون إلا بما هو غير أكيد، لا يعترف بالظاهر أو الواضح، يهتم بالغموض ولا يخاف إلا من الحقيقة، معرفته تستند لنظرية الصدفة، يَعد نفسه بضربة كبرى يرتاح بعدها، لكنه متعلق بها إنْ تحققت أو لا، بحيث يبقى دائماً بين رجفات الانتظار ودقائق الإثارة ومشاعر الافتخار، إنّ الإيمان بضربات الحظ يشير إلى فقدان العقل للفكر وقدرته على العمل الخلّاق من أجل تحقيق النتائج، أي بشكل دقيق؛ افتقاره لاستثمار الذكاء والصعود من خلاله والارتقاء وصولاً للأهداف.  
من حقنا أنْ نغامر وأنْ نركب الصعاب مهما بلغت، فأهداف الوطنيين المؤمنين والشرفاء قادرة على أنْ توصلنا إلى الخلاص، حتى وإنْ تعب مجموعنا المغامر، أما المقامرة؛ والتي يبدو أنّها مازالت مستمرة، وفي اعتقادهم أيضاً أنّها تحتاج دائماً للمقامرين بحكم وجود فلسفة المؤامرات، والتي تصرّ على التمسك بالفئات الخطيرة، التي يمتلك جميعها غاية واحدة يجتمعون على طاولتها المنصوص عليها في القوانين وقواعد اللعبة، ألا وهي تدمير البنى التحتية وتشتيت وتقسيم البنى الفوقية، أي البناء والإنسان، وإفلاس الباقي والرابح الوحيد، وكما أشرنا في مقدمة ما نسير منه ليس الكاسِّينو وإنّما أولئك القابعون حوله ومديروهم في ذاك الغرب والشرق، أصحاب مصالح إفلاس البشرية والهيمنة عليها، وبكل الوسائط والوسائل، كي يسهل نهب ثرواتها وخيراتها وتحويل إنسانها إلى أداة تابعة، فهل تعي مجتمعاتنا إلى أين يريدون الوصول بنا، وإلى ماذا يهدفون؟ والباقي من اللاعبين هل يعلمون أنّهم أدوات، أم أنّهم بإرادتهم راضون بذلك؟ إنّها المُقامرة.. فلنَقلِب الطاولة، ولنَعُد لبعضنا نبني مستقبلنا بيدنا بعد أنْ أصاب الإفلاس جميعنا.
 د.نبيل طعمة