الدولة العميقة

الدولة العميقة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٥ نوفمبر ٢٠١٤

تفتح أبوابها السياسية، تشرّعها كي يعلم القاصي والداني أنّها مبنية من أسس واقعية استحضرت تاريخ وجودها، فكان أنْ ظهرت على الوجود دون دراية من محيط هش لم يعلم، أو حتى لم يكلّف نفسه عناء البحث حول منظومتها الوجودية، طبعاً أتحدث عن سورية الوطن والإنسان التي دخل عليها حافظ الأسد بحركته التصحيحية يوم السادس عشر من تشرين الثاني بعد أنْ كشف عن أساساتها، وبدأ رحلة تدعيمها وإظهار أسسها، وربط أوتادها وتوزيعها بدقة بين أركانها ومحاورها وتقاطعات علاقاتها مع بعضها، ومن ثم بدأ البناء عليها، حيث لم تكن ظاهرة بقواها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وحتى السياسية. معه بدأت ورشة عمل كبرى وأخذت بالتنامي، وعلى كل الأصعدة بالتوافق والتزامن، فحققت حرب تشرين التحريرية بعد أنْ أنجزت لغة عسكرية وأمنية جديدة أُطلِق عليها توازن الرعب، وانفرجت الحالة الاجتماعية اقتصادياً وعمرانياً بشكل قوي قل وندر حصوله في دولة أو لدى مجتمع، وأنقذها من براثن الوقوع في عدة حروب أحيكت لها، فكان تعامله معها تعامل المفكر القارئ، والسياسي المستقرئ لكل قادم من فنون الشر المحاكة لوطنه وله، وقف مع إيران إبان حربها مع العراق فحمى العرب، وأقصد هنا الخليج برمته، والكلّ يعترف منهم حتى اللحظة بفضل تلك الوقفة، من مبدأ صحيح أنّنا أمتان، ولكن ما يجمعنا من نظرية الإخاء الإسلامي أكبر بكثير مما كان يراد للأمتين. ووقف مع الكويت لحظة أنْ اجتاحها صدام حسين، وكان ضمن تحالف، هدف من تلك الوقفة استعادة الكويت لحضوره وحقوقه ورفع رايته من جديد، وقف مع العراق إبان حصاره، وبين هذا وذاك كانت وقفته النادرة من مشروع معسكر داوود، وأنقذ سورية من عدة حروب كان مخطط أنْ تُفرض على سورية وعليه في لبنان قادها بنجاح وعكس اللعبة ضمن استراتيجيات مقاومة، فغدت المقاومة مشروعاً مرعباً لأعداء الأمة، ليس سورية ولبنان وفلسطين، وإنّما للأمة العربية والإسلامية برمتها، عمم مشروعها وربطه بالممانعة لكل أشكال الظلم والعدوان، فاحترمه العالم، وأجمع على أنّه شخصية استثنائية محترمة تصنع من سورية سورية القوية والحديثة.
نعم قَدّم حافظ الأسد بناءً استثنائياً، وشيّد فلسفة أُطلق عليها "الدولة العميقة"، أي إنّ جذورها راسخة ومتينة وقوية، فاستحق لقب القائد الخالد من خلودها، لم يدركوا فلسفته الخلّاقة في تشييدها التي ضم بها جوهره إلى جوهرها، فكانت عصية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ولذلك نرى اليوم، ونجمع في لحظة استحضار حضوره مع حلول ذكرى التصحيح، أنّ استمرار سورية بقيمها وقامتها وقوتها ما كان ليكون لولا ذاك البناء العميق والمنتشر تحت كل ذرة من تراب جغرافيتها المحددة، وأيضاً يدعم هذا البناء حضور إيهاب الشخصية العربية السورية بشخص الرئيس بشار الأسد، الذي أمسك بنواصي هذه الدولة، وأصر على تعزيز عمقها وتحديث بنيانها، وتحمّل من أهلية نادرة صعوبات جسام لو مرت على أي دولة صغيرة أو كبيرة لأنهكتها أو أنهتها أيضاً، ضم سورية بين جنباته متفاعلاً مع ما عصف بها من أزمات، وكان ظهوره الدائم عليها دليلاً جديداً يضاف إلى عمق هذه الدولة، وعلى الرغم من أربع سنوات إلا نيّف، حاول الكلّ من المحيط السلبي؛ عربي؛ خليجي؛ وطوراني تركي وغربي أميركي صهيوني تدمير هذه الدولة، إلا أنّ استمرار نهج التصحيح واختلاف آليات تحقيق الوصول إلى الأهداف ضمن فوارق الشخصيتين وأدبيات كل منهما، أبقتهما متفقين مع شعبهما الواحد على تعزيز ونجاح فلسفة الدولة العميقة.
اليوم تحل ذكرى السادس عشر من تشرين بحضور قائد فذ لم ترهبه الصعاب، ولم تزعزع أركانه الخطوب والمحن، نجده مع شعبه شامخاً عزيزاً لا يلين كشموخ قاسيون وحرمون والأقرع وجبال الساحل وبوادي الجزيرة وبواسل الجيش العربي السوري الأبي، نتابع فنشهد على أنّ ملحمة سورية التي تكتب الآن من خلال اللحمة المنصهرة في بوتقتها، والتي تغلي وتفور طالبة تحقيق الوصول إلى النصر، مؤمنة بتحقيق الانتصار على الطغاة والمارقين وشذاذ الآفاق المرهوبين من قوة سورية الدولة العميقة، الذين حاولوا الوصول إلى أعماقها، لكنهم أدركوا بأنّهم منتهون من على سطحها، فإلى أولئك المتحولين إلى إرهابيين وأصوليين متشددين، القادمين من أصقاع الأرض لقتالها، إلى الذين حوّلوا الإسلام السمح إلى قاعدة وهابية وإلى أخوان متأسلمين بإرادة استباحة هذه الدولة الماجدة نقول لهم: إنكم منتهون.
في هذه الذكرى؛ يستذكر جميعنا، نحن السوريين، ورغم قسوتنا ضمن هذه الأزمة على بعضنا، ورغم ما حل بنا من أذى ودمار، ورغم ما قدّمنا ونقدّم من شهداء وجرحى وتضحيات، سوريتنا والبَنّائين الحقيقيين الذين عملوا على استنهاض بنائها وتكوينها، وإنّنا نؤمن بأنّنا قادرون على الوصول إلى بعضنا بسهولة ومرونة، وبالحوار الواقعي نعيد بناء بعضنا أولاً، وما تهدم ثانياً، فهذه الذكرى تدعونا لاستحضار أربعة وأربعين عاماً، نناقش بعضنا حول كيف كنا وإلى أين وصلنا، وماذا نريد من الغد وبعده، المستقبل ينتظرنا، فلنؤمن أنّ في يوم الذكرى نتعاهد جميعنا على أنْ لا تحلّ الذكرى القادمة إلا ونكون في حالة ورشة إعمار سورية الأرض والإنسان. وإني لأقتبس مما تحدث به القائد الخالد حافظ الأسد حيث قال: (إنّ الأمة التي انتصرت في تشرين هي الأمة التي تعرف الطريق إلى تشرين آخر).
د. نبيل طعمة