حراس الحضارة

حراس الحضارة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٧ سبتمبر ٢٠١٤

مَثلهم كمَثل حراس الهيكل أو فرسان المعبد، ضبابيون، يتنطّعون للدفاع عنها متماهين بمواجهة أعدائها.. عنوان اتجه إليه الكَثرة من الساسة والمفكرين والمثقفين والأئمة من المدّعين الحاملين لواءَ الدفاع عن الإسلام، وكذلك العروبة وحضارتها، دون عناء البحث والاستكشاف وتقصي حقائق ما يجري، أو الأسس التي ظهرت منها حضارة العروبة والإسلام، والبحث عن بقايا أولئك المستمرين من خلالها، ما حدث ويحدث للجغرافيا العربية بخاصة منها شرقها الخلاق وإنسانها المتواصل ضمن الحياة التي لم تنقطع منه وعنه، رغم ما مرّ عليه من هزائم بُرّرت بشكل أو بآخر على أنّها نتاج لحركة التطور؛ بل أكثر من ذلك أوجد لها مسوقون تحركوا بين مفاصل النظام العربي الحداثوي وأنجزوا معه ثقافة الهزيمة، وضرورة التعامل الواقعي معها، حراس الحضارة عشقوا الغربة واستهوتهم الغرابة، لم يسعَ أحدهم أو جلّهم بل جميعهم إلى التجدّد أو التجديد، والتعمق أو الغوص إلى العمق والعميق، على الرغم من ادّعاء أنّهم لم ينزلوا لتلامذتهم ومريديهم وأبنائهم كي يشرحوا معنى العداوة والأعداء، وإيضاح الكيفية التي يتكونون عليها، فبنوا دون دراية عداوة الاستعداء والإقصاء والتمرد والعصيان، وغدوا بذلك أعداءً للحضارة أمام أنفسهم؛ قبل أن يكونوا أمام أعدائهم، واكتفوا - أقصد الحراس- بالمجاملات الثقافية والفكرية، والأكثر من ذلك السياسية، وانحصروا أيضاً بين أطر الحداثوية، فباتوا مجرِّدين للنص، مؤوِّلين فيه، مبتعدين جداً عن الواقعية التنويرية، وانشغلوا ببناء ثقافة الأنا، معتقدين أنّ بها يصلون أطراف المجد وحصد الجوائز.
حقيقة.. مجتمعاتنا العربية تحتاج لثورة فكرية عارمة، تنفض عنها الموروث السلبي وتخترق حدود المسكوت عنه، تلتقط من خلالها خفايا الحياة العربية القابعة في مجاهل التاريخ؛ رغم ظهورها عليه في زمننا الحاضر، تعيد الوهج لأجياله المتلهفة لحضور الأمان الفكري؛ كي تشتغل للحضارة الحقيقية، وتسهم في بنائها وحراستها في آن، هل هناك حوامل تدفع جميعنا لاستحضار الزمن أو استرداده من أولئك المدّعين؟ وإني لأشير إلى الزمن الجميل المريح الذي تعتبره الأجيال مناخ تحقيق التطور والإنجاز والإبداع؛ بدلاً من بقائها في حالة تأزم؛ ضمن حداثوية المشهد واستماعها لترانيم المعرفة، تتابعها من باب التنوع المعرفي واللغوي فقط، مبتعدة عن الدخول إلى عمق الصيغ الجمالية، وضرورة توافره في عمليات البناء الفكري، والذي تعتبره العوالم الأخرى ركناً أساسياً، ومكوناً مهماً في بناء حضورها الاجتماعي والإنساني.
حراس الحضارة كرّسوا ثقافة القلق، ومازالوا يجتهدون للحفاظ على تصفّح مواطن الخلل، ما أدى إلى تسطيح الفكر العربي، واحتفاظه بشعارَي الحب والعاطفة اللذين يؤديان إلى إنجاز مفهومَي العداء والكراهية، وتطوير رغبات التضاد والعداوة بدلاً من الانخراط مع الأجيال والعمل معها، وبناء علاقة حيوية حيّة أسُسها جديد الماضي أو تجديده، ورؤية المستقبل، والعمل للوصول إليه من الحاضر..
وما نراه من مدّعي الحراسات، ما هو إلا حالة تواطؤ خطيرة مع منظومة العالم المهيمن على مقدرات الشعوب الفكرية قبل المادية، والذي يعبث بالمنظومة الفكرية للأجيال العربية، ويعمل بشكل مبرمج ودقيق على تفتيتها وتشظّيها، وغايته الأولى والأخيرة عدم قيامة هذه الأجيال وإبقاؤها تحت مظلة الرهبة والخوف من المستقبل، ليبقى الحراس حراساً متخلفين بالأجرة.. فأيّ حضارة يحرسون وأيّ قيم ومبادئ ينشرون.
حراس الحضارة يهدمون الأجيال الجديدة، يراهنون دائماً وأبداً على إفشال آمالها وأحلامها، يأخذونهم إلى تفاصيل حياتية، وهمية، يشاغلونهم بها، يدفعونهم للتقاتل على تقسيمات الروحي المنتشر بينهم؛ لكنهم في حقيقة الأمر أجيال تملؤهم الدهشة، وبدأت تظهرهم على أنّهم قادمون إلى الحياة من الحاضر إلى المستقبل، فالمتغيرات في عالم الحداثة سريعة، وسرعتها تخمد الفردية، وتسهم في إنشاء الحياة والطبيعة، وقيم الفن، إلا أنّهم مصرّون بأحاسيسهم العلمية على إنجاز تحضّرٍ راقٍ قائمٍ من الحفاظ على قوة وقدرة حضارتهم على البقاء؛ أي على حضورهم، فيغدون بذلك حراسها الحداثويين الحقيقيين.
د.نبيل طعمة