العدالة رجلاً

العدالة رجلاً

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٣ أغسطس ٢٠١٤

اغتصبها كونه حمل سمة الذكورة, ففيها يكمن كمال جمال الأنثى الذي حوّلها إليه, مظهراً إياها على شكل الذكر, قدّمها وفسّرها بإرادته أن تكون كذلك, وكأن به القدرة على تحقيقها أو إنصافها على أقل تقدير, بحث عنها طويلاً, وتأمل وجودها ملياً, وقبض عليها كالقابض على جمرة من نار, حصّنها وسوّر حضورها, وسعى لإسكانها العقول البشرية جمعاء, وكأنّه مبدعها أو منتجها الخاص, وجدها في الطبيعة الكونية فسطا عليها, ودقق بين سور وآيات ومزامير المقدس فعرف أنّها الحقّ ففسرها على هواه, وقولبها ضمن ما ابتغى وأراد, وقدّمها بلغة القمع والرهبة, وأزرها بحبال المشانق وحدود السيوف وحجارة الرجم, وهيأ التُهم وبنّدها بين الخيانة الفكرية والجنسية والوطنية, ودعمها بالخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان الذي تراوح بين المدني والمسلّح, وادّعى بها على كل من خرج أو أراد أن يخرج أو فكّر في الخروج بالإلحاد والهرطقة والزندقة ومقاومة النهج والمنهج والأسلوب والمنحى والمسرَب, دافع عنها بقواه المادية واللامادية رافضاً الإقرار بأنّها أنثى, مؤكداً على أنْ تكون ذكراً فحلاً لا يضاهيها ذكر, ولها وحدها يخضع الجميع, مصراً على رؤيته حتى وإنْ كانت على غير ذلك.
العدالة مخلوقٌ مزعجٌ, والبشر مخلوقٌ يستحق الإزعاج بعد أنْ فرض سطوته عليها سابياً إيّاها, معتبراً ذاته أنّه العادل والمقوِّم, وغدا يحلل ويحرم, ويمنح ويعطي, ويكشف ويستر, ويرعد ويزبد إلى أنْ أوصل العدالة للأرض, جاعلاً حضورها المقيّد يقف على  شفير الهاوية, راسماً صورها منه على شاكلته, مجسداً صيغ قمع الرجل للرجل, وقمع الرجل للأنثى, وقمع الأنثى للأنثى, وقمع الجنس البشري للأجناس الأخرى من الحيوان والنبات والجماد من دون رحمة أو هوادة تحت مسمى عدالته الذكورية, الكلُّ لبس لبوس القمع بعد أنْ تعلق أولاً بالشكل الديني الذي أظهره المُفسر على أنّه قمعُ الأول للثاني بمفهوم العبودية, والظاهر للباطن, والمادي للامادي, وتماهى في شكله مع السياسي الذي عَمّد العدالة متماثلاً مع التعميد الديني, فمن استلبوا العدالة صاغوها دينياً لا إيمانياً, وفقهاً لاهوتياً لا روحياً, وتاجروا بها سياسياً لمجرد دخولهم على فكرة الغايات تبرر الوسائل والمسموحات تبيح المحظورات, فتظهر الأهداف النبيلة وخفاياها مؤلمة وقاسية من خلال حاجة الشعوب للحكم والاحتكام, كما الإدارة تحتاج المدير, والدول تحتاج الرئيس ووزارة فيها وزير للعدل ومحامٍ وقاضٍ ومتهمٍ وبريء.
قد يحتمل الإنسان فكرة غياب العدالة لحين من الدهر, لكنه لا يحتمل فكرة انعدامها أو انتفائها من الوجود, وطالما أنّها أنثى أي إنّها الوَلود المستمرة, والكلي المحيط الأزلي, رسمها في محكم تنزيله, ووثقها على صفحات مثلث قداسته الذي اعتبره البشر والإنسان مقدساً, فكيف بمفسريه يحوّلونها إلى ذكرٍ دَيِّنٍ, وبدوره يتحول إلى سياسي والسياسي يعود ليستند عليه كلما انحصر في موقفٍ أو تكالبت عليه الخطوب والأزمات أو وقف أمام مأزق أو محنة, وعندما نعود للعدالة ونعرف أنّها ليست ذكراً, وفي علم اللغة تصنف بين جنس الأنثى, نعلم أنّ الرجل يخاف ويهاب الأنثى أي يهاب ويخشى العدالة, فنجده من خلال ما قدمناه حاول جاهداً ويحاول وسيبقى يحاول استلاب العدالة وتأطيرها والحكم بها بعد شكمها بقوانينه الذكورية التي تظهر ضمن مجتمع صاغَ كل شيء على شاكلته, معتبراً أنّ الأزلي ذكر,ٌ وكل ما في الوجود هو له, ممثلاً ذاته بخليفته حاضراً كان أم غائباً.
هل العدالة متوفرة بين البشر وطبقاته الفقيرة والمتوسطة والغنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الدينية والدنيوية, طبعاً وبالتأكيد لا, بحكم حياتهم المقدرة بين مسافة الزمن المحسوبة عليهم والمستمرة من الأزل وإلى ما سيأتي من المستقبل, أي إنّ الزمن ثابت, والبشر متحرك رافقنا في رحلة البحث عنها لنصل إلى فلسفة وجود المخلص الذي أُسكن ضمن العقل البشري كبديل عنه, فكان منه الانتظار, وعلى جميعنا أن ينتظر المخلص لننتهي بعد أن نكون قد أورثنا الانتظار للذي يحضر بعدنا وبعده ولن يحضر, ولن يأتي أحد من الوراء ويخبرنا ما الذي حصل تحت أو فوق, إنما هي لغة الأقوى, الكل يأخذ بعضه ويأكل بعضه, ذكراً كان أم أنثى, حيواناً أم نباتاً, حتى إنّ الجماد المتجسد في الأرض ينفذ عدالته فيزلزلها ليأخذ ما عليها, والماء أيضاً ينقض من الشواطئ على اليابسة أو ينهمر من السماء فلا يُبقي ولا يذَر, وكذلك الطبيعة بسلطانها, فأين نحن جنس البشر من العدالة, وهل لأننا بشر لا نمتلكها, وإنْ وصلنا إليها التهمناها أو أخفيناها عن بعضنا, فلم نستطع حتى اللحظة التطور إلى إنسان ومهما فعلنا لن نطولها.
العدالة حالة كونية حكمها البشر بالقوانين الوضعية, حبسوها في خزائنهم وأقفلوا عليها, لأنّ أحداً لا يريد حضورها, يتمتعون بها قليلاً ثم يخفونها, كونها أنثى رائعة الجمال يغتصبها الذكر بعد أن شرّع قوامته عليها.
د.نبيل طعمة