الطيبة

الطيبة

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٩ يوليو ٢٠١٤

بغيت البحث في منطق عنواننا المتواجد بين جنبات القوة، كما أنها مرقّقة حين وجود الضعف، ومتحركة ضمن منظومة السلوك، تظهر على الإنسان كصفة يمارسها عند التماس بالآخرين، لا تنتظر مردوداً مادياً؛ إنما يشار إلى شخص حاملها بالبنان، وتلصق به سمة الطيب، فترفع من شأنه، على العكس تماماً مما يشير إليه الناس على أن الطيبة صورة ضعف وسذاجة إنسانية، وكثير من الناس يتهمون المتمتعين بها بالغباء، أو أنهم مغفلون.. بوصفها عيباً من العيوب الشخصية، معتبرين إياها حالة رخوة من اليقظة، ومن السهولة بمكان تنفيذ الاحتيال على أصحابها، مستهينين بحامليها، لزيادة الفرص في اصطيادهم والتلاعب بحقوقهم.. إنها على عكس كلِّ ما وُصفت به تماماً، فلا تعني في مفهومها الاجتماعي البساطة أو الفقر ولا هزّ الرؤوس من الدراويش، ولا فعل الخير فقط؛ من "باب الواجبات القادمة من النظام الأخلاقي"..؛ إنما هي سلوك اعتباري يأخذ الإنسان لاصطفاء مناهل السعادة.. فمن الطبيعي أن تكون ضد العنف والشر، تتوافق جداً مع الوازع من الضمير، تظهر عليه من خلال الإشارات الصادقة؛ حيث توقف بحضورها تصاعد الشرّ وانتشار الخطيئة.. إنها لا تعني لطف الضعفاء ولا خير الأغنياء، وصحيح أنها مرنة تستوعب الكثير من الضد؛ إلا أنها في لحظات معيّنة تكون حازمة وجازمة ومتطلبة بالحق، قواعدها تشير إلى رزمة من البنود تكون على جدول الصفات الأخلاقية، فالتسامح والتواضع والعفو والمبادرة واللطف والإيثار ونقاء السريرة وبساطة المعاملة، إضافة إلى الكرم، فكل واحدة من هذه البنود تكفي كي تصنع إنساناً طيباً، فكيف بها إذا اجتمعت جميعها ضمنه لتشكل له أناقته القادمة من ثوب الروح، فكيف للإنسان القدرة على التخلّي عنها؟!.
هل هي جين وراثي، أم أنها تعلّم كسبي؟ فإذا كان جوهرها قائماً من فعل طاب أي حسُن وراق وغدا حلالاً وصار لذيذاً ونضج، ومنه ما يُتطيّب به، فلمَ لا تكون الطيب الأفضل من كل شيء!! ومعها أيضاً يكون طيب العيش، وطيب الحياة، فالطيب الكلمة الحسنة، والنفس الطيبة راضية، تحمل جمال طباع الطبيعة، والطيب كل ماخلا من الأذى والخبث، رافقت الطيبة البلاد وتربتها، ومساكنها، ونفوس عبادها، ونكهة طعامها، ومذاق مشربها، وروائح ريحها، وصفاء نوايا حاملها، كيف نختبرها من أجل أن نعرف أننا طيبون؟! وأعتقد أن الضدّ يُظهر حسنه الضدُّ؛ أي: النظر إلى أفعال الآخر، والالتقاء به يشير بالتعامل والتبادل إلى ما يحمله من خصالها؛ فترى نفسك فيه أو تختلف عنه، وإذا كانت متجردة عن الأنا وإرادة الإنسان حرة في اختيار ما تنحو إليه، ومستلبة عندما يكون داخلاً في عبودية الشيء؛ إلا أنها تبتعد عن هذه وتلك بحكم طبيعة الإنسان القادمة من الطبيعة المحيطة؛ أي حمْله للخير والشر، والقوة والضعف، والجمع والصرف، والحب والكره، وليس فعل الخير يدل على الطيبة، ففي سلسلة الواجبات هو واجب لكنه مرتبط بما يليه من الاستمرار، ومقرون بالنوايا والأهداف البعيدة، أو قائم من فلسفة: "لكل فعل رد فعل".. والانتظار هنا يفقدها قيمة وقوة حضورها، أي بماذا سيعود عليه، ولذلك نمايز بينها وبين فاعلي الخير ولطف الضعفاء المغلّف أو طاعة الفقراء العمياء إلى أن تتقوى، واستجداء المحتاجين وغير المحتاجين.
لقد غدت الطيبة في وقتنا الحاضر صفة سلبية، يوصم بها الإنسان ويهرب منها الناس، من خلال ما ذكرناه؛ بعد أن كانت سِمة تفاخر وتنافس على معانيها وتحقيق مقاصدها، حيث كان يقال: الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، ويشار إلى الطيب بالبنان والرفعة والاحترام، لما كان يقدمه الطيبون من إيثار على أنفسهم، وتقبّل للأعذار، وتسامح فيما بينهم حينما يقع ظلمٌ مادي أو حتى معنوي، أي العفو عند المقدرة، والتسامح مع الخطيئة المحرجة، وتقديم النصح على المذمّة والعنف، فهي نقاء السريرة، وفعل الأخلاق الحميدة، وكذلك نجدها تشكل رافعة في شخصية الإنسان، ويشار إليه بالاحترام، فطيبة الإنسان أمام أخيه الإنسان تزيّن حضوره الحياتي شكلاً ومعنى، فكيف بنا الآن ننظر إلى الطيبة والطيبين؟! وما أحوجنا إليها، وحينما نتحدث عنها يجب أن نفرِّق بينها وبين اللطف الظاهر؛ والجمال المزيّف وجمال الشرِّ الذي يغري حتى التصديق.. إنها أي الطيبة قدرة الأقوياء في طبيعة البسطاء، وقيمة البسطاء في طبع الأغنياء، وحضور الفقراء بكرامتهم لا بالاستجداء والاستعطاف..
دعوة صادقة للعودة للطيبة المحبّبة من جميعنا، لأن فيها سرّ أصالتنا وأصولنا؛ بعد أن وصلنا وتملّكتنا مشاعر وأحاسيس أن القوي يأكل الضعيف، والضعيف يستقبل القوي، وأن الأقوى هو اللئيم والخبيث، والتي تحولت في زمننا الحادث إلى أفكار تسكن عقول الجميع، فأين نحن من إنسانية الإنسان، وأناس يسعون لبناء الوطن والأوطان؟!!.
د.نبيل طعمة