الكتاب والكاتب

الكتاب والكاتب

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٥ أبريل ٢٠١٤

بدونهما لما كان هنالك قراءة وعلم منجب للمعرفة والثقافة، ولذلك نجدهما استندا إلى فلسفة أن الكلمة بدء، حيث شكلت معادلة بتلازمها مع نون والقلم ورقوق مسطورة؛ نتيجة اقرأ من خلال انتسابها إلى أبعاد مرتبة ومؤطرة، تتجلى بصياغات صورها المادية وباطنها لا مادي، تتجسّد عليها؛ مما تحيكه الحياة، مستفيدة من حاسّة البصر، تحوّلها إلى بصيرة، ومن ثم تفيض بها عملاً يقوّمه الآخر، فيصنّفه بين الضعف أو المقبول، مروراً بالجيّد، وصولاً إلى الإبداع، وبين كل هذا وذاك يعترف جمهرة الكتّاب أن هذه السِّمة لا يُستحصل عليها إلا من قبل المعترفين بها من خارج الذات؛ أي: المنظور والمقروء من المحيط أصحاب النفي أو الإثبات، وللعلم فإن الأدب والكتابة والعلوم الإبداعية جميعها خارج القوانين الوضعية، وتدخل في الحقوق الشخصية للإنسان، بكونها حاجة تأمّلية تفكرية لازمة للإنسان الساعي لترك بصمة في الحياة، وبحكم وجودها بين مفاهيم اللامادية؛ أي أنها تخضع لنظريتي الخيال والاحتمال المسكونتين ضمن الحرية والشخصية للفرد، واللتين تتحملان كامل المسؤولية، بكون الكتاب قادماً من تأويل الفكر وإبداعاته، فإما أن يحوِّل كاتبه إلى اسم يدخل التاريخ بحكم واقعية الحاجة إلى أفكاره، أو إلى كاتب فريسي أو إلى محرِّف للكلم عن مواضعه، ويكثر النموذجان الأخيران بين كتّاب الكتاب، حيث يطلق عليهم: الكتبة أو الناقلين بلا معنى، أو الناقلين بالضغائن، أو المعترضين بغاية خلط الأوراق وتمييع المفاهيم وإفناء الأسس للانحراف بها عن الأهداف.
إن معنى الكاتب يشير إلى وجوده ضمن مجتمعات الحياة، وكذلك بين خطوط التماس المباشر والتأمل القريب أو البعيد، ليظهر إمّا كقابض على الجمر وإما كنافخ في النار، حيث أشار إليهما العلم والمقدّس، رغم تنافرهما تحت مسمّيات الصراع بين المادي واللامادي، وفي اعتقادي، إن أهم كاتب هو ذاك المتعلق بوحدة كليهما، مؤمن بالتصالح الذاتي الذي يولد الانتشار الأفقي والعمودي، وهذا وذاك يتعلقان دائماً بمناخات الضغط والانفلات والتبعية والعبودية والحرية الإبداعية؛ منطلقة من الظروف الراهنة التي توفر فرص استقراء المستقبل، مستندة إلى الماضي من باب أن الأثر يدل على المسير، وكذلك إثبات وجوده من خلال نصِّه الذي يكتبه، بغية التفرّد به؛ بحكم أنه منتج إبداعي ينعكس ذلك على شخصيته..
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل الكتابة مهنة يكتسبها المرء بالتطور، أم أنها وحي وإلهام، أم أنها تأمل وتفكّر وبحث، وماذا ينشد الكاتب من خلال ما يؤلِّفه من مخطوطات تتحول إلى كتب من خلال النشر؟؟.
إن أول كاتب بالإيحاء عرفَته الحياة الكلية هو الإله صاحب الكلِّ من كلِّيته، صانع الكرسي الذي وسع السموات والأرض، وغايته نشر معرفته ورؤيته بالإحاطة الأحدية، التي منحته من خلالها مفهومَي الحب والخشية، ومنها دخل الفكر بعد انتشار كتُبه السماوية بأنه الكاتب الروحي الأحدي ضمن مثلث القداسة، واعتبر كل ضلع منه يخصه، وهذا النجاح الأزلي أوجد فرصة الإبداع لكل إنسان في أن يكتب كتاباً يرتقي به إلى مستوى الكاتب الأحدي، ولكن وعبر كامل الحقب التاريخية بقي هو صاحب الشريعة والخطاب والمنهج الحياتي للبشرية جمعاء، أوحى بها لأنبيائه ورسله الذين تحدثوا إلى مجتمعاتهم ليستمدّ منهم كتبتُهم الرؤى الروحية المعمّمة بين العالمين بكافة مشاربهم، حيث استفاد البشر من تلك اللغة المقدّسة متجهين إلى الكتابة، وتوزعوا ككُتّاب وناقدين وناسخين ومدوّنين يسعفون الناس بآرائهم وأفكارهم ومبادئهم وقيمهم، ومنهم من اتجه إليها كمهنة، فحمل اسم الكاتب؛ كـ: الكاتب بالعدل، والكاتب الموظف و..، لكن تبقى كلمة كاتب والتي أُطلق عليها "القوة المبدعة" التي تسهم في تهذيب المادي واللامادي، وتنمّ عن الحضور الفكري لأيِّ فرد أو مجتمع أو أمة تبقى معنونة بالإطار الثقافي؛ أي: ثقافة الناس كافة، نقيِّمها على روائز تُظهر لنا صورة المجتمع وقيمة حضوره وقوة حركته..
أعتقد أنه من الصعب تأطير مفهوم الكاتب أو تحديده بحكم اختلاف الإجابات حوله من باب "أن الكاتب كثيراً ما ينحو بفرديّته نحو خيال طوباوي" حيث يخرج من إطار وجوده ليعتبر وجوده في ذاته حرية مطلقة.
منه أجد أن تعريفه يتعلق بالتجاذبات الشخصانية أولاً، والاجتماعية ثانياً، وظروف الانتماء المسؤولة من أسباب نشأته وتطور وجوده، كذلك قدرته على الاستكشاف وحمْله ذاكرته المتصلة من الأساس الأصلي الموجود بين المنبت والاتصال الجيني إلى الحضور الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، فكيف يعرِّف الكاتب الحرية ضمن الضغوط النفسية المركبة من خلال تكاثف المعطيات وحالة استنباط الكلمة التي من خلالها تتفكك أسرار الفكرة كي تغدو عائمة لامعة وجامعة..
إنني أختصر كل ذلك في أن سرّ الكاتب يكمن في نفس الذات الإنسانية التي تبقيه كاتباً مخفيّاً ضمن جوهره؛ من باب أن الانتقال إلى الحياة الثالثة تجعله يحمل كتابه بيمينه، فالحياة الأولى في الرحم، والثانية فعْله وانفعاله وحركته، والثالثة هي التي تخلّده أو تفنيه بمحو آثاره من خلال قراءة الناس لكتابه المنشور من حالتي حمْله باليمين أو نُطقه وتدوينه، فالكتاب يخصُّ الآخر؛ فإن لم يصل إليه من المسطور وصَله من المتناقل اللامنظور، وبعدها إما أن يكون كاتباً أو مكتوباً، وإما فلا كاتب ولا مكتوب ولا كتاب.
د.نبيل طعمة