الخطاب الإنساني

الخطاب الإنساني

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١ مارس ٢٠١٤

مفرداته راقية ونوعية، تصيب صميم الفكر البشري،  تحوّله إلى إنسان، بكونها لغة تؤمن بإنسانية الإنسان، وتخترق كبد الحقيقة، من باب أنها أداة نثرية أو لفظية علميّة، تسعى خلف الواقع تشكمه إليها، تمزج الشعر بالأدب، وتبعث فيهما روحاً جامعة جامحة لامعة، تبثّ ألقها في محيط وجودها وما تريد أن تعيده إلى جادة الصواب.. لذلك نجده يتجه إلى العقل البشري المنفلت على أبعاده متحركاً ومتخصصاً في آن، يبحث عن شهواته التي لا تنتهي دون أن يهدأ، قافزاً فوق معرفة المستحيل الساعي لاستفحال تضخّم أناه واعتزازه بذاته؛ مما يؤدي به إلى موافقته على تمزيق مجتمعاته في حال استعلاء شهوانيّته على قدراته الخلقية وأسباب وجوده، حيث النظر إلى المصلحة الضيّقة والتي تمثل له اتساعاً ذاتياً ومادياً على حساب مساحة جزئيّة الروح الإنسانية والمشاعر التكوينية الاجتماعية والثقافية: العلمية منها والإبداعية..
ومنه أشير إلى ضرورة التفريق بين عنواننا الذي نبحث فيه والخطاب العاطفي بشكل خاص؛ المتخصّص بالحب الخيانيّ لا بالوعي الودود التسامحي؛ الذي يحتاجه جميع أشكال الخطاب البشري، فيشد البشر إلى التمتع بعناصر ومحاور الجمال الظاهرة والمنعكسة في الجوهر الإنساني، والتي تعتبر أداة مهمة ورئيسة في تحويل البشر إلى إنسان، والمتجسدة على سلّم الرقي الإنساني؛ الذي تطوره بصرياً بأشكالها المتنوعة: من العمارة التكوينية. إلى الرسم التصويري. والنحت التجسيدي. والرقص المحاكي. والموسيقا السمعية المهذِّبة. والمسرح التشخيصي المشذِّب. والسينما الروائية اللامعة. والشعر الشيطاني المُتخيِّل لحضور الذات في الكلّ. والأدب المنجب للانتظام العقلي ومصدره "نون والقلم وما يسطرون"، حيث به يجري الحراك الإنساني جاعلاً منه خطاباً نوعياً واستراتيجياً في ذات الزّمكان يشعل لغة الحوار المسالم، وينقل الإنسان من حدود التأطير الفردي إلى التلاقي مع الآخر والالتقاء، مُظهراً قدرة الانسجام الخطابي وتطوره، وقوة انتقاله بعد تحقيق مفاهيم سرِّ البقاء المتجلّية في الأثر الإنساني؛ المتشكل في عدم فناء اللامادي الظاهر من إنسانيته، والباحثة أبداً عن فلسفة السمو المتجه إلى الأمام والأعلى، حاملة بين جنباتها صيغ العشق والتشوق والإحساس بالتصرفات البشرية، ومفاتيح فهم أسرار الوجود وأسبابه المتشكلة من: الحب والكره. الصحة والألم. الرضا والغضب. الفقر والغنى. القهر في العبودية والحرية في الإنسانية.
يركّز الخطاب الإنساني على إعادة بناء الشخصية البشرية، ويمنحها حرية فهم تسلسل وجوده واستنباط قدراته الكامنة فيه، وتقديمها كمعرفة وأدوات للتحكم بسبل مصيره، بكونه يسير دائماً على حافة الهاوية.. فالإنسان كجوهر كامن هو كيان تملؤه الحرية بعد أن يُبنى بشكل علمي وموضوعي، فهو ذات من الكلّي، وحقيقة واعية، فإذا فقد إحداهما فقد حريته، واتجه إلى عبودية الأشياء التي تقولبه وتنمذجُه بعيداً عن إنسانية الإنسان..
لذلك نجد أن عنواننا يبحث في أصالة الإنسان ووصله واتصاله، يقدمه للبشرية المنفصلة عن أصالتها وأصلها، لتعود بحثاً عن صلتها الإنسانية ووصلها معها، أي: وحدة وجودها النسبية المراقَبة من وحدة شهودها الكلية، وكلتا الناظرتين تديران الإنسان من الوراء إلى الأمام، وتدفعانه بالحب للتخلص من القيود البشرية المادية، والانطلاق إلى مساحات الحياة المتوافرة فيها بكثرة صور الكمال ومفردات الجمال؛ على النقيض تماماً من العين البشرية الطامعة التي مهما لمعت نراها أسيرة ما تشتهيه ضمن لغة أريد وأريد، "فهل امتلأتِ هل من مزيد"، لا تعرف من الجمال إلّا امتلاكه ومن الحب إلا أسماءه، ومن البناء ما سيعود عليه، ومن الإبداع إلّا ما يخدم بقاءه، ويزيد من قوته، متناسياً أن الحاجات وزيادتها تعني بدء نشوء الصراعات والآلام، فأيّ زيادة في الحاجة إن لم تكن من أجل خدمة الآخر تحوِّلها إلى سجينة كما تحول صاحبها إلى سجّان، فلا ينبغي للإنسان التجرد من عالمه، وفي ذات الوقت يقع على عاتقه التطلع إلى العالم الآخر..
فالبعد الرابع يكمن فيه بكوننا واصلين إليه لا محالة، وهنا يكمن الفرق بين الإنساني المتطلع والبشري المتقوقع؛ ليكون الخطاب الإنساني خطابَ عمل مستمر، يحمل الحلم والأمل بالعمل، والبشري خطاب ألم مستمر، يسوده الصراع على الوجود الممتلَك أو سعيه للامتلاك، قائم على نظرية الجمع، فإذا لم تسمُ النفس البشرية وتسعى لإنسانيتها ستبقى تقتات من أوهام وخيلاء جمالها، فالجمال واقعٌ وحقيقةٌ، وهو شاهد لا يراه إلا الساعون إلى السمو، وطبيعة العالم الحي قائمة على أن الجمال يولِّد الجمال والأمور تتوالد من الأمور، فمن النسبي الإنساني في الاعتراف والسعي يصل إلى الكلّي الجمالي الجميل الذي يحب الجمال.. والخطاب الإنساني إن لم يتمتع بالرقة واللطف والمحبة والتسامح والوداد يبقى بشرياً، والبشري جاف وقاس يظلم بعضه بعضاً؛ بل أكثر من ذلك يسعى دائماً للصراع والقضاء على وجوده الجمالي.
الخطاب الإنساني على تضاد دائم أمام منجزات الخطاب السياسي والاقتصادي؛ الخطابين اللعوبين والمغريَين للعقل البشري بشكل خاص، ومتوافق مع الخطاب الإلهي والديني الإيماني والاجتماعي الراغب في التطور بشكل عام، وبينهما الخطاب الأخلاقي الذي يعتبر توءماً له، أما الخطاب العاطفي فهو أداة تستثمرها جميع الخطب بغاية الوصول إلى أهدافها، فأي خطاب لا يحمل عاطفة؛ يبقى قاسياً وصادماً ومُملاً في كثير من الأحيان..
من كل ذلك؛ يندر الخطاب الإنساني، وتنتشر بقيةُ أشكالِ الخطابات؛ لأن الإنسان غدا قليلاً، والبشر هو السائد، وبشر تعني فيه الباء بدء شر وشراهة بَيّنة ولكل شيء.
 د.نبيل طعمة