تدجين بالمعنى الأخلاقي

تدجين بالمعنى الأخلاقي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٢ فبراير ٢٠١٤

تطالب به عملية البناء الكبرى ضمن مفاهيم: "المعارف. التعليم. التربية" وتسلسلها الفكري. كي تغدو "التربية والتعليم والمعارف" آليات حقيقية تدجّن الشعب، تمنعه من الانفلات والجموح الفوضوي، تنظم توازنه، سامحة له بالتألق والمسير الصحيح إلى الأمام، مظهرة إياه في الوضع السليم والمعافى، والمتطلّع إليه يشير بالبنان من خلال رؤية أن العربة خلف الحصان، وهذا لا يتم إلا إذا اتجهنا سريعاً إلى الدخول في عصر نهضة عربي جديد بشكل عام، وسوري بشكل خاص، بحكم أن سورية صاحبة تاريخ العرب، وولّادة العروبة، وحاضنتها الدائمة والمستمرة منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم وإلى ما سيأتي من الزمن، غير آبهة لما مرّت به أو مرّ بها، بحكم أنها تجدّد حضورها بعد كل خلاص، ولا ضير من استحضار ماضي الشعوب الأخرى التي مرّت قبل ما يقرب من خمسة قرون بما نمرّ به، ووصلت إلى ما وصلت إليه؛ فأصبحت حلماً لأي شعب. طبعاً، هي الشعوب الأوروبية التي عملت بعد خلاصها من عصر الظلمات ودخولها إلى عصر النهضة على البناء الجمالي الفكري، وأدواتها البصرية والسمعية، واستثمرت هاتين الحاسّتين من أجل تطوير الحواس الأخرى: التذوّق والشمّ واللّمس، محوّلة هذه الحواس الخمس إلى حاستي العقل والنطق اللتين تُظهران قيمة وقوة الشخصية الإنسانية الفاعلة بعِلميّتها وروحانيتها.
الأخطاء في بناء الشخصية العربية كثيرة وكبيرة ومجحفة بحق حضورها، فإنسانها روحانيٌّ ومسيّس في آن منذ ولادته إلى انتهاء أجله، يمارسها لغةً، يعلّمها صورةً لا جوهراً.. ولن نخوض كثيراً في الأسباب التي أوصلتها لما هي عليه، وبما أننا نتدارس غمار مخاض وضَع جميعنا في النفق المظلم؛ حيث بتْنا ليل نهار نبحث عن خلاص ومخرج كي نلج الحياة من جديد..
وإنني لأجدها جدّ مناسبة، وأعني الحالة التي وصلنا إليها، والتي تتشابه تماماً مع عصر الظلمات الذي عاشته الشعوب الأوروبية، والفارق ما يقرب من خمسمئة عام، فما فعلته من أجل تجاوزها لذلك العصر وانتقالها نحو النهضة أنها اتجهت مباشرة للبناء الجمالي وهدْم الموروث المشوّه، فاستنهضت مفكريها. أدباءها. كتابها. مثقفيها. معمارييها وفنانيها: ممثلين وراقصين ومسرحيين، ودفعت بهم دفعة واحدة إلى الحياة، وطالبت شعوبها بالاستمتاع ومتابعة ما يجري، ومن ثم تقرير مصيرهم، بعد أن طالبت الكنيسة بأن تعود إلى داخل أسوارها، لم تمنعهم ولم تدعهم أن يخرجوا منها، وطالبت في ذات الوقت شعوبها بأن الدين لله والوطن للجميع، أي: إن من يريد أن يمارس طقوسه عليه الولوج إلى داخل الأسوار؛ ولكن بعد أن يخرج من أبوابها عليه أن ينخرط مباشرة في الحياة العملية، أي في عملية البناء الكبرى: صناعة. زراعة. تجارة. اقتصاد. وسياسة، وأهم من كل هذا وذاك أن يبني مجتمعاً منطقياً واقعياً علمياً.. فهِمنا منها أنها في مجموعها صورة أطلقنا عليها العلمانية الأوروبية، والتي يتّهمها مجتمعنا العربي المتديّن بالإلحاد؛ والمتعلم منه ركِب موجتها دون معرفة دقيقة بها؛ فلا لجم روحانيته ضمن جوهره ولا امتلك نواصي العلم، تاركاً الأسوار منفلتة فيما بينه وبينها، فلم يصل لا لهذا ولا لذاك.. وللعلم، إن تلك النهضة العلمانية الأوروبية لم تنهِ العلمية الدينية ولم تشطبها من ذاكرة شعوبها؛ بل العكس تماماً أخذت بيدها إلى الحضور العلمي الإنساني، لم تلغِ المذاهب والطوائف التي قامت عليها ديانتها، واستقبلت الديانات الأخرى وتعاملت معها على أنها خصوصية إنسانية لا أكثر ولا أقل، وأنجزت بين كل هذا وذاك القوانين الناظمة للعلاقة الشخصية والعامة، وعلاقتهما بالنظام العام والخاص المسيِّر للحركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فتربّعت بما وصلت إليه على عرش العالم الأول.
نحن العالم الثالث؛ نسأل بعضنا لماذا نحن في هذا الموقع وأمام هذا الواقع؛ كيف ندجّن المجتمع العربي؟ وأقصد هنا بأن التدجين يعني حدود حرية الإنسان والْتزامه تجاه ذاته والآخر، بشكل عام والسوري فيما بينه بشكل خاص، العربي الذي مازال يعيش حالات الانفلات اللامنطقي، وكأنه في العصور الوسطى أو حتى في جاهلية البربرية الأوروبية، أما ما قيل عن جاهلية ما قبل الإسلام، وأعتذر من ذلك العصر الذي كان ممتلئاً بالعلمانية وبثقافة قبول الآخر، حيث كان الوثني مع الصنمي مع الصابئي مع الحنيفي مع النصراني واليهودي في حالة تعايش نادرة الوجود.. في زمن ظهور الإسلام أتى كفعل متمّم لتلك الأخلاق التي كانت سائدة في ذلك العصر، فكيف بنا نطلق عليه "جاهلي"، ونحن نعيش بعد ألف وأربعمئة عام ونيّف جاهلية الفكر وشريعة الغاب؟! كيف بنا نناقش حالنا وأحوالنا ونحن نوصِّف إيماننا بالخرافة والعرافة والفرقة والتشرذم والقتل والدماء والأحزان؟! أين هو الإيمان بالعروبة والقومية والإسلام السمح الوسطي؛ الذي عاش في الشام أخوّة وقبولاً للآخر، وقبله عاشته دمشق تجانساً ووئاماً نادر الحدوث على جغرافيّة كوكبنا الحي؟ أين نحن من كل هذا وذاك؟..
لحظة تأمل تمنحنا الجواب.. هو التدجين بالمعنى الأخلاقي أعتقد أنه من الضرورة بمكان اللجوء إليه وإلّا سنبقى في حالة دوران في الفراغ ونزول نحو العالم الرابع أو أكثر!!.
 د.نبيل طعمة