سورية .. هوية

سورية .. هوية

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٥ فبراير ٢٠١٤

السوريين لا تعرف سوى السوري؛ بعيداً عما اعتنق من مذاهب وطوائف وأديان، ولا لمن انتمى للعشائر أو المناطق أو الإثنيات، وبالمصارحة لا تعرف السنّي من العلوي من المسيحي من الدرزي من الإسماعيلي، ولا تعرف إن هذا آشوري وذاك كلداني سرياني أرمني أو مرشدي، ولا تفرّق بين من عَبَد الإله ومن اتّبع هواه أو التحق بركب الشيطان، لم تفرِّق يوماً بين أسمر حنطي عربي أو أبيض فينيقي ارتحل إلى بلاد الآيرش أو أسود إفريقي أو أحمر هندي، مؤمنة بأن الرحم بستان، وهي بستان يضم الأشكال والألوان، فكيف لا تكون كذلك وهي منجبة الحياة الحيّة المستمرة أبديّتها فيها، وإلّا لكانت كرماً في أي لحظة يصيبه القحط فتتصحّر، ولذلك هي.. هي كما هي، تمنحنا صورتنا صبغتنا وصيَغنا الكيميائية ومشاهدنا الفيزيائية ضمن معادلة نادرة الوجود نتيجتها نحن.. هي، أي: سورية سوريتنا.
نتحاور معاً، نتفق أو نختلف مع بعضنا، نصل أو لا نصل إلى حيث ما نريد أو لا نريد؛ ضمن جغرافيتنا المحددة التي تحمل اسماً واحداً لم يتغير، ولن يستطيع أحدٌ ولا بقوة من يمتلك القوى أن يغيِّر هذا الاسم (سورية)؛ الذي وُسِمنا و وُشمنا به، حيث لا يمكن اقتلاع أو تغيير أو تحريف أو تبديل هذا الاسم لا من جوهرنا ولا من مظهرنا، ولا حتى من على جغرافيتنا، فنحن جميعنا غدونا سوريين، جواز سفرنا إلى العالم أجمع واحد: هويتنا، على الرغم من ذكر مناطق وخانات مولدنا، وتحديد يوم ولادتنا، وتسجيله في دوائرنا المدنية؛ بدءاً من المختار وانتهاءً بالسجل الذي يحدد خانة الحي والدائرة أو المنطقة التابع لها والمدينة، ولكن في النهاية وعلى تلك البطاقة وكذلك ضمن جواز السفر نشاهدها بالقراءة البصرية - كي يكون إثبات كتابة الرقم الوطني والجنسية - "عربي سوري" وشعاره العُقاب السوري الممهور على البطاقة والجواز: الجمهورية العربية السورية، وذلك بحسب المرسوم الجمهوري الصادر عام 1980.
سورية هويتكم تتشبّث بكم وتسألكم عمّا فعلتم بها.. كبرتم هرمتم شختم في ثلاث سنين، وكأنها تراكم قادمين من العالم السفلي؛ عالم لم يعرف الحضارة يوماً.. حطّمتم أحلامكم، طموحاتكم ومستقبلكم.. هدمتموها في غمضة عين، أضعتم تعب عقود في دقائق، فهل وصلتم إلى معرفة قيمتها. وخلال ذلك اكتشفتم معادن مَن معكم ومَن عليكم.. عايشتم المنافقين والرماديين ومن يحبكم ومن يكرهكم، واختبرتم خلالها مشاعركم بعد أن أحسستم بشعور الظلم والقهر والاكتئاب والفقد والقسوة والحنين والألم والأنين، وأدركتم معنى الأحزان وقيم الصبر والسلوان، عرفتم التوتر وانحباس الأنفاس، دخلتم أتون الحرب وأدخَلَتكم الأنفاق المظلمة.. فهل وصلتم لشعور الأمان والأمن الذي كنتم عليه، وقيمة سورية، وأنها هويتنا؟.
من تاريخ إيبلا السورية؛ المكتشفة بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ومن مقتنيات نفائسها الدالة على حضورها وجود رُقم طيني كُتب عليه: "ليحترم كل واحد منكم إله الآخر.." كان هذا قبل خمسة آلاف عام من اللحظة التي أخطّ بها على صفحات أوراق عنواننا التاريخي، وقبلها كانت عشتار الأم السورية الكبرى ولّادة جميعنا نحن السوريين، وحينما خطّت عبارة "الدين لله والوطن للجميع" فما معنى هذا العنوان الفريد الذي ننضوي تحت مسماه "سوريا التاريخية" "سورية الباقي منه" الذي يدافع المؤمنون بها والمختلفون عليها وعلى وجودها من النشأة إلى الأسباب إلى حقيقة الوجود، وما معنى أن تكون سورية بستاناً؟! وهل يمكن لأي كان أن يتخيل بستاناً بنوع واحد من الشجر أو الثمر أو الزهر أو الخضرة؟! فهي بستان حقيقي.. وللعلم، فإن الأخضر النابت فيها تنوعت تدرجات ألوانه بعدد أيام السنة، فهل لنا أن نتخيل أخضرها، وكيف أن بياضها ناصع، وزرقتها لامعة وسماءها صافية، وشمسها ساطعة، وغيومها خيّرة، ورقّتها سموّ، ولطافتها رقيقة، وحنانها آمن، وحنينها جميل ورائع .. فكيف بنا لا نكون بها؛ وهي التي منحتنا اسمها فغدونا من خلالها سوريين.  
يا أيها الناس، أيها المؤمنون، وإليكم أيها الكافرون، وأعتقد وأصرّ أنه يمكن أن يكفر بعضٌ منّا بما يعتقد، ولكن لا يمكن لأي منّا أن يكفر بسوريته؛ على الرغم من أن الكفر دين، والرسول العربي عليه السلام قال بأخلاقه السامية في الكتاب المكنون (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وهو الذي زارها ودعا لها، وأقسم الله بها حيث جاء قسَمه(والتين)، فهي بلاد التين، تين شجرة آدم التي أكل منها فكشفت عورته، وكان أن نبت منها وشكّل بها جنانه، وكما التفاحة التي علقت في حلقوم آدم بجزأيه الذكر والأنثى؛ كي تُظهره مع التينة في حضوره البهي إنساً وجانّاً. خيراً وشراً. بشراً وشيطاناً، اصطبغ السوريون بكامل الصِّيغ فيهم ما فيهم من تنوع الحياة وتلوّناتها وجيناتها ومعادلاتها الكيميائية والفيزيائية، فكانت نتائجها مادة صنعية قدمت خدمات جلّى للبشرية جمعاء، وروحاً إلهية وزّعتها بين جميع المعتقدات، وعادت لتجمعها في روح واحدة تطبعها على هوية نادرة؛ أطلقت عليها الإرادة الكلية اسماً فريداً (سورية) طبيعية أو مقسّمة، لا يذكر التاريخ منها إلا اسمها التاريخي؛ رغم تجزئته وتحويله من الهلال الخصيب إلى سوريا الطبيعية إلى سورية الجمهورية.. فأين نحن من كل ذلك أيها السوريون؟ وأين أنتم من أبعادكم المادية واللامادية؟!
أيها السوري: سورية أكبر من جميعنا، فهل نحمل بهاءها ونتحدث عن إهابها ونشمخ من شموخ جبالها: شيخها وقاسيونها وعليّيها وطوروسها وعربها، وتأمل امتداد سهولها وشطآنها وباديتها وجزيرتها، تطلّع إلى أوابدها معابدها كنائسها مساجدها، تحنّن وترقق وترفق.. لماذا؟ لأنك سوري، يطلب هويتك حاجز أمني؛ أو أثناء تقدمك بطلب عمل أو تسيير أمور تخصّ (زواجك. أبناءك. تعليمك. تجارتك. صناعتك. زراعتك..) فأول ما تخاطبه وهو ابن جلدتك حينما تزعجك أسئلته: بأنك سوري ابن جغرافيتك، تتحمل إزعاجه ويحتمل غيظك؛ لتبقى العلامة الفارقة أننا حينما نغادر من أو إلى أي بلد آخر: فالسؤال الأول والأخير هو: هل أنت سوري؟ يجيب جميعنا بنعم، فسوريتنا شئنا أم أبينا ممهورة في قلوبنا، وعقولنا، وعلى جوازات سفرنا إلى العالم أجمع، وعلى الهوية الشخصية التي نحملها بين بعضنا.. فكيف بنا لا نعترف ببعضنا وأننا جميعنا سوريون، تجمعنا أرضها، وتظلّنا سماؤها، وترعانا آلهتها المتوحدة في حضور إلهها الكلي الذي يحميها.