من لا يركب يغرق

من لا يركب يغرق

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٢٥ يناير ٢٠١٤

والذي يغرق ينتهي، ويغدو أثراً بعد عين، فهذا آخر مركب، فالذي يعتقد أن هناك مراكب أخرى فهو في خسران واهم، إذ الأمواج المتدافعة تعلو قادمة ستبتلعه ولن تمنحه فرصة النجاة، ومراكب الغزاة لن تمنح إن وصلت إلا الذلّ والعار ومهانة الاستجداء، إن من يركب فلن يغرق وسينجز آثاراً وليس أثراً واحداً؛ واستمراراً، حتى أن فلسفة التزاوج قامت من مبدأ المركب والربان؛ والمنتَج من خلالهما أبناء وبناء وعمار وإعمار، فكرة جلجامش وأنكيدو وعشتار الأم السورية الكبرى وقضية الخلود أثر، أي الصعود والنزول والركوب وإيصال الماء، والماء سرّ الخلود المنظور من الشمس والقمر والنجوم المهلِّلة لها من: هلّلوليا. إلى هلا لا لا لَيّا. إلى هلّ هلاك. إلى الترحيب بأهلاً من الأهِلَّّة،  وسهلاً هي الأرض المعطاء بحدودها وأنهارها وشطآنها، والرابط بينهما: المركب والبحّارة والركاب والربان مربع التكوين.  
معادلة كيميائية وفيزيائية وهندسية، مثلث يتوافق مع مثلث القداسة؛ حيث سورية التاريخية والحداثوية فعّلت الأولى، واستقبلت الثانية وحمَتها، فكانت عبر كل العصور مركباً نادر الوجود؛ مَثلها كمثل مركب نوح عليه السلام؛ الذي غدا رمزاً يتعاقب مع كل طوفان يأتي عليها، فيندفع من خلالها ربانٌ وبحارة وركاب يحمون سفينها، كما حدث هذا مع نوح الذي أودعه الإله سلاماً في العالمين، بكونه أنقذ المؤمنين من أمّته والخلائق أجمعين.
فالمركب جاهزٌ ينتظر؛ ثابتة سلالمه؛ متينة رغم اهتزازها؛ إلا أنها قادرة على أن تحمِل المنتقلين عبرها إليه، الأمواج حوله تتلاطم، أنجبت شعارات طنانة أغرت سواد العامة وكثيراً من الخاصة وندرة من خاصة الخاصة، طالبت ربان المركب في سنته الأولى بالرحيل أولاً وهو ينتظر، ودَعته للتنحي ثانياً فازداد صموداً وقوة ورسوخاً وشموخاً، تناقلت شعاراتِ الهائمين على وجه الغرق شعوبٌ وقيادات وتيارات من العالم أجمع مع فورة ما جرى ويجري ضمن عالم العوالم العربية، حيث مراكب كثيرة تحطمت واستسهلت ربابنتها أمواج تلك الفورات، فالذي اعتقل، والذي استسلم، وآخر هرب، ومنهم من قُتل.. مركب واحد وربان قائدٌ تمسك بمركبه مستنداً على جبله محبّيه ومريديه والمؤمنين من بحارته، فكانت مرساته متينة ومؤمنة بتجذر شواطئه وحدوده، ورغم المحاولات الكثيرة للإخلال بمركبه عمل بدأب مع فريقه والمؤمنين بالوصول إلى شواطئ الأمان نجد أنهم عملوا جميعا على حمايته أمام أمواج عاتية؛ منها البسيط ومنها العنيف، تقبّل منها الواقعية العاقلة وقاوم اللاواقعية التخيّلية والخيلائية، فرَّق بين القبيح والوقح، وتفاعل مع الجميل المقنع، وفهم وأفهم المناورات والمؤامرات، وترك للجميع مشاهدة حجم المخطط لهذا المركب العظيم ولربّانه وبحّارته وركّابه.
أيها البحارة شدّوا الهمة.. فهِمَمُكم قوية هيلا.. هيلا.. المركب يحتاجكم، الركاب تشدّ من أزركم، شدّوا الهمة الهمة قوية، فالمركب أمين يحملكم كما حمل مَن قبلكم، وينشد من الربان حكمته وإيمانه بالحرية والاستقلال، وتحرير الجميع من الاستعمار والتخلّف والتبعية والتعصب والتسلط، وأن نكون جميعنا أولاً وأخيراً متطلعين للنجاة وأن لا تركع ركبة إنسانية للذل والخنوع، وأن لا يكون سجودنا إلا لله والوطن، وأن نبقى واقفين شموخاً بعزة وشرف، وإن كان لا مجال من رحيلنا ومُحال رحيلنا من أرضنا، فإلى أرضنا كرامتنا وعزتنا ووجودنا معاً عليها..
لا أنشد من هذه الحوارية إلا الثبات، فبعد أن انتابت الكثيرين في السنة الأولى- كما أسلفت- مشاعرُ الرحيل، وقد رحلت السنة الأولى وتعلّق البعض بالتنحي، فتنحّت السنة الثانية، واستشعر الكثرة ضرورة البقاء في السنة الثالثة، ونحن على أبواب السنة الرابعة نقول: إن البقاء لله وللمؤمنين بالمركب والربان، فما نمرّ به نحن السوريين ونوح النبي عليه السلام مؤسّس كونية الكتلة التاريخية السورية وسفينه الذي رسا على جبل الجودي بعد أن حمله الطوفان العظيم؛ والذي أنقذ به الشرفاء والخُلّص من المؤمنين بالله وبه ومعهم الطير والشجر والحجر وكثير من البشر. نؤمن بأن البقاء والخلود استمرار كان في فكر نوح الربان العظيم والذي توارثناه جينات وخلقاً وتخلقاً إيمانياً استمرّ ويستمرّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
 هي رمزيةٌ نستعيرها ونعلم أن قدرنا هو الثبات، فمن لا يثبت في وجه العواصف تذروه ريحها، وأكثر من ذلك تقتلعه من جذوره.
إذاً، ونحن ننتظر دخول العام الرابع؛ بعد أن آمنّا بأن العام الثالث هو عام البقاء، واقتنع القاصي والداني بذلك، فالعام الرابع هو مستقبل المركب والركاب والبحارة والربان.. فهل سمع أحد عبر تكوين الخليقة بأن أرضاً غادرت مكانها، وأن بحارة يحرسونها عاهدوا وجودهم على حمايتها، وأن ركاباً بنوا وأسسوا وعمروا وورثوا وتوارثوا قد انتقلوا إلى شواطئ أخرى!! وأن رباناً مؤمناً بهم غادرهم وتركهم في مهبِّ الريح، هل يعقل هذا؟!
من كل ذلك نقول: إننا مؤمنون ببعضنا، وطالما أننا مؤمنون راسون وراسخون ومتمسكون؛ فنحن ناجون بإرادة الكلي إرادتنا بالنجاة والخلاص.. تعالوا جميعنا نركب فالمركب يتّسع للجميع. 
د. نبيل طعمة