الفكري سلمي

الفكري سلمي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ١٤ ديسمبر ٢٠١٣

خلاق بشكل دائم، بكونه متجلياً بين حدثين أو جيلين أو فكرتين، شكله متأمل باحث، ينظر إلى الأحداث، علَّه يصطاد منها فكرة أو حلاً مطوِّراً لحضورها، أو إحداث إبداع، أو إيجاد ثغرة ضمن أزمة ما، يدخل منها ويعمل على تفكيكها، أو نزع فتيلها، لذلك نجده أفضل بكثير حينما يُستعان به؛ بقصد تطوير آلية ما تدعو لتطوير فعل ما؛ حيث وجوده السلمي للسير من الألف إلى الياء، أو استخدام منظومة العدِّ من الواحد إلى العشرة..
معادلة يستخدمها الفكري، يمتصّ بها غضبه وغضب الآخرين بدلاً من اللجوء إلى القوة أياً كان شكلها: بسيطة أو عنيفة وما بينهما، أي: لا يضطر بعد امتلاكه لتلك الأدوات الفكرية إلى استخدام الحروب القتالية؛ من أجل إحداث التغيير التي يرفض فكرتها جملة وتفصيلاً؛ من باب "أنها تستند إلى غير الممكن" مستبعدة الممكن، وبها تعتقد أن أدوات القتل تحصد نتائج سريعة عبر تدخلات عملياتية عاجلة وخاطفة، مستندة إلى أن الحالة الزمنية قد لا يتكرر حضورها، مستثنية أن هناك في المقابل عالماً فكرياً سِلْمياً حوارياً تُستخدم فيه أدوات العقل: من وعي للمجريات من الأمور، والحكمة، والدراسات الموضوعية لعملية النتائج الممكنة أثناء إجراء مقاربات بين الربح والخسارة، وأفضلية استثمار أحدهما.. ومهما حققت أدوات القوى المفرطة وأدواتها الحربية، فإن النتائج سواء أكانت نجاحاً أم فشلاً، فإنها تعود لتجلس إلى طاولة الفكري السلمي بإرادة منها أو رغماً عنها تحت مسمّى "مشاريع الحدود السياسية الاقتصادية الاجتماعية".
وحينما تُسأل المجتمعات على اختلاف طبقاتها وتنوعاتها وانتماءاتها الروحية والعقائدية والسياسية عن مستقبل أفرادها، وعلى أية جغرافيا كانوا يحيَون، وقضية ما وصلوا إليه؛ حيث يتمحور السؤال حول النتائج بين العلميين والعلمانيين والمؤمنين والملحدين؛ لنجد أن مستقبلهم يدعوهم دائماً من حاضرهم بالإجماع على ولادة الفكرة المتحولة إلى عبرة تتراكم، تنجز الخبرة التاريخية التي تنادي بالعودة إلى إعمال الفكر، بغاية الوصول إلى السلمية، أو في الحد الأدنى المسالمة، أي الفرق بين العيش المشترك والتعايش القسري.. كل ذلك من أجل إحداث تغيير منطقي عاقل قابل للتطبيق والحياة؛ على الرغم من تقلبات الطبع البشري الساعي دائماً للسيطرة، وابتلاع مقدرات بعضه ونتاجه، لكنَّ بارقة أمل فكرية تعمل دائماً على تخفيف الانخراط في الأعمال الحربية، وتعيد للفكر السلمي حضوره بقوة..
وإذا ما دُعينا للاطلاع على المشهد التاريخي للمسار البشري؛ سندرك أن عدم الاستقرار على الجغرافيا العالمية هو السائد، وكل ذلك نتاج النهج البشري التسلطي الذي استثنى وبشكل دائم أفكار العقل الإنساني المحاور؛ الذي يقدّم السلمية على الدخول في العراك العقيم، مديراً للأمور، منجباً حلاً في إدارتها، وأيضاً نسأل عند أيِّ حرب أو توتّر: أليس العقل منجب الأفكار المسالمة، يسارع إلى تهدئتها، ومن ثم نزع فتيلها عبر تدخّلها الهادئ؟ على العكس تماماً من تسارع أفكار الحرب الطائشة، فالإدراك اللاحسِّي يتحول إلى حسِّي من أجل تغيير أي معادلة، مقتنعاً ومقنعاً أن الحروب لا يمكن لها أن تُحدث التغيير؛ وإن أحدثته فإن آثارها المدمرة تنتج أحقاداً دفينة تتطور رويداً، ومن ثم تعود ولو بعد حين، فأيُّ تغيير تحدثه تلك الحروب؟ ناهيك عن تراكم الأحقاد والاحتقان المزمن، وإن خمد في الداخل الإنساني إلا أنه ينتهز الفرصة لينفجر كبركان من جديد.
 إذاً، الحرب لغة شواذِّ الفكر المسالم، تسود العالم البشري الفكري القابع في الشمال، على الرغم من وجود قوانين مهمة لديه تنظّم علاقة بعضه ببعض..
والملفت أن دول الشمال أنهت الحروب الساخنة فيما بينها وحوّلتها إلى باردة بفضل القانون، وصنعت قوانين تستخدمها حينما تُجري تجاربها ضمن عالم الجنوب؛ الذي تمنع عنه الفكر السلمي، وتدعه يخوض حراكاً ساخناً، تتسلط عليه بقوانينها، بكون إنسانه روحياً أكثر من فكري ومادّي، فالصورة المادية للإنسان في التكوين وضعت العقل في أعلى جسد الإنسان، أي: ضمن رأسه، والشهوة والجنس والمادة في وسطه، والصرف الصحي عبر ثقوبه السفلية.. كيف يكون هذا الوضع اللامادي مسكوناً في صورته الإنسانية ولا ينتبه له؟!..
فإذا أعدنا الرقابة على أجسادنا عرفنا كيف يستفيد العقل من أدواته التي ذكرناها؛ وهي صورة العالم الكلّية: شمال وجنوب، غني وفقير، سيّد وعبد، آمر ومأمور، منتج ومستهلك...  
د.نبيل طعمة