الخطاب السياسي

الخطاب السياسي

افتتاحية الأزمنة

السبت، ٩ نوفمبر ٢٠١٣

لعقود طويلة مضت كان فناً براقاً جاذباً للشرائح الاجتماعية، متباهياً بأنه القوة الحقيقية لإقناع المجتمعات والأمم بدلاً من السلاح، والذي نراه اليوم خطاباً فظاً وعنيفاً ممزِّقاً ومجزِّئأً لا جامعاً موحداً، باهتاً لا لمع فيه، اتجه لفرض وجوده بالقوة المفرطة، محولاً العالم إلى ساحات مكر وخداع وتجسّس، صراع هنا وحروب هناك، فأي مكان على كوكبنا الحي يلتقي فيه أكثر من شخصين لابد وأن حرباً ستقوم هناك، فالكل غدا سياسياً، مما يعني أن الحروب قائمة لا محالة، صراع البقاء والوجود والأنا، أزلية الفكرة وديمومتها، وأنا البقاء على قيد الحياة تدعو الجميع للاقتتال، فإن لم تكن الأذكى والأقوى والأكثر شرّاً وعنداً؛ فلا وجود لك، وحتى الأدنى البسيط والساذج ما إن تتوفر له الفرصة حتى يصبح محارباً ومقاتلاً ومتمرداً.
أين نحن من فنِّ حكم الشعوب والأمم..؟
مدخلٌ اخترتُه لفهم آليات الخطاب السياسي، فمحرِّكه الأساس نزعة التملك؛ أي: القواعد الاقتصادية الدافعة والمحرضة دائماً وأبداً لأي فعل أو حركة أو إرادة بالانتقال أو الإصرار على البقاء؛ الذي لابد أن يعود بعد تحقيق ما أراده الواقع الاقتصادي والاجتماعي والديني وبمفهوم عنواننا الذي يحمل علم الأسرار، فيكشف عمّا يريد وفي ذات الوقت يعمل على امتلاك ما لا يريد فيقف بينهما رامياً بهما في لحظة غفلة من السائد والمألوف، حيث النتائج دون أن يخسر، وبدقة أكبر يقبل العمل تحت أجنحة الخطابات الأخرى وهو يدرك أنه يُمسك بها.
هكذا يسير العالم وعلى هذا الشكل سيبقى سائراً، نظرية السياسة وخطابها في إنتاج الممكن والممكن دائماً وأبداً، قاعدته الرئيسة حكم المجتمعات والدول والأمم، والغاية مع مرور الوقت بقاء الخيوط ضمن وبين أناملها ويديها، فالاضطرار يصرّ على بقاء خطابها منفعلاً وفاعلاً ومفعِّلاً للأحداث، وإن استكان كي يظهر جميلاً، فإن جماله البراق حمل فكرة اصطياد ما يصبو إليه الاقتصادي أو الديني أو الاجتماعي؛ لكن جوهره مشتعل ومنشغل بالقادم الذي يخطط له بامتياز. فمن يعدّه، ومن أجل ماذا نبحث عن طموحه؟ الساعي لفلسفة جلب البسطاء والفقراء والطيبين من أجل السيطرة على الخبثاء والفاسدين، والتمايز بعدد مؤيّديه، يقتل بدم بارد عبر أدوات فلا تتلطخ يداه كما يدا الإله، يستعير أو يصنع كرسياً ضمن عملية تقليد كلية؛ إلا أن الفرق بينهما: أن الأول صنع كرسياً وسِع السموات والأرض وأجلس الكون كلّه، أما الثاني فصنع كرسياً بتفصيلة تخص الحالة الاجتماعية القائمة بعلاقته معها وعينه منه على الاقتصاد والدين، وكذلك كان الخطابان، الأول كونيّ لا نهاية له وزّعه عبر رسله، أما الثاني فخطابه منحصر بين نقطتي البداية والنهاية.. الخطاب السياسي لا يترك شيئاً للقدر إنما يستعين به من أجل تجميل مفرداته من باب "إغراء العقول وإيقاعها في شباكه" لذلك نراه لا يستسلم في المظهر ويكون مستسلماً في الجوهر، حتى إذا تعرض مع محيطه لأزمة أو أزمات أو ساده الاضطراب والتشرذم.. وبما أنه كذلك فهو على درجات: صغير. كبير. وأكبر. عظيم. وأعظم.. لغة أفراد يصوغونها فيرتقون السلم الفارغ، أو يزيحون الصاعدين عليه بهدوء أو بالقوة أو من خلال خطابهم النوعي والاستراتيجي، فيؤمنون به مرتكزين على من يؤمن بهم، ويصل بهم بعد ذلك لما يريد لهم أو لما يراد منه مقابل كل هذا الصعود.. أو يُسقطهم من عليه.
أجد من الضرورة بمكان تجديد الخطاب السياسي الذي أصبح أقلّ من عادي أمام تطور الفكر الإنساني والبشري بدرجة كبيرة، حيث أخذ يظهر صغيراً ومُملّاً أمام اتّساع فكر الأجيال القادمة إلى الحياة، وعليه ينبغي تجديد روحه وشكله، وجعْل مضمونه محبباً من خلال إعطاء الروح الجديدة لكلماته، فإذا كانت الكلمة جسداً؛ فروحها المحرِّكة والمحرِّضة والجاذبة للآخر يجب أن تتناغم مع الروح الإنسانية السامية سموّ الكلي المحيط المقنع بلا إقناع بحكم أن خطابه جوهر.
الهدف الرئيس الذي ساد العالم في القرن الماضي على صفحات خطاب الساسة كان ديدنه تمكين البشرية من إثبات وجودها وحقها ومشروعية كفاحها من أجل الحياة، ومع دخول العالم بعوالمه ودوله وإثنيّاته انهار الخطاب السياسي في عقل البشرية، بكونه اتجه مباشرة إلى عولمة الحياة، أي: إفقاد البشرية خصوصيتها ودمجها في بوتقة الطاعة العمياء للفردية أو القطبية ضمن فلسفة إطلاق مشروع التبعية المطلقة، فإن لم تكن تابعاً فأنت منسي؛ مهما كان شكلك أو لونك. ولو كنت غنياً أم فقيراً، عالماً أم مفكراً عاقلاً... أو غير ذلك.
لقد وصلت البشرية إلى حقيقة مفادها أن المطلوب من الخطاب السياسي السائد الآن هو إحداث شلل فكري بشري عام، وبذلك يتساوى هنا السياسي مع الديني، فالخطابان يسعيان إلى حالة استلاب العقل، ويختلفان على الخطاب الاقتصادي الساعي لإفراغ الجيوب، وبالتالي يخدمانه، وأقصد الديني والسياسي بامتياز، مما يزيد الصراع الاجتماعي والطبقي والدولي والأممي.
كيف سيكون شكل العالم إن استمر هذا الخطاب، وإلى أين سيأخذ بنا؟ فالجميع ينظرون إليه على أنه خطاب تحريض على القتل والابتزاز، وتمييع الأخلاق، وتعزيز الثقافة الفردية، والانفلات الخفي أمام الصور الاجتماعية المنضبطة في المظهر، وإن بقي كذلك، فما هي آليات إعادته إلى قدراته الخلاقة، أم أنه قادم من السياسة صاحبة فنِّ القطة السوداء الموجودة في غرفة مظلمة لا نرى منها إلا بريق عينيها.. إلى أين نسير والكثافة البشرية في ازدياد هائل..؟
كيف، مرة ثانية، ستكون السيطرة عليها بدون تجديد عنواننا وما أردنا منه؟.
 
د.نبيل طعمة