الإنسان خطِرٌ

الإنسان خطِرٌ

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٩ فبراير ٢٠١٩

جداً وأشد المخلوقات عملاً وعلماً وجهلاً وخوفاً وهلعاً، فهو السهل الممتنع، القوي الليّن، الصلب المنكسر، القادر المتجبِّر، المنتقم العطوف، الرؤوم الحليم، المحب الكاره، القائد والجندي، الرئيس والمرؤوس، العابد والمتمرد، الأمين والخائن، وإلى ما يحمله من صفات الصلف، وجميعها تركع أمام الوقائع المذهلة والعنيفة على أرض تخصّه، مهما حاولوا إسقاطها نجده واقفاً مستعداً لإسقاط بعضه، وخاصة من أولئك المارقين أو الفاسدين أو الخونة أو المعتدين، فالجغرافيا خاصته تمثل له البيت الواسع، حيث ترى فيه الجميع مهتمين بالحفاظ عليه، فتثق بهم، لكن لا يمكنك أن تثق بالشر المسكون في داخلهم، وما اختياري لهذا العنوان إلا بدوافع التنبه من خلال ما مررنا ونمر به، الذي حفر عميقاً في الذاكرة الإنسانية، وما يحمله عنواني رغبات صادقة تدعو لشحذ الهمم وإيقاظ الفكر وتحليل الدروس والعبر وإثارة النخوة والمروءة وتغذية الكرامة، وهنا لا أزعم بأني أقدم لكم جديداً، إنما أذكركم باستبعاد ما نردده دائماً من مقولات تحمل في طياتها الاستكانة والاستهانة، فالكرامة تحتاج إلى القيم والأخلاق، والعزة تدعو للعمل والالتزام والانتماء بالأداء، صحيح أننا تعرضنا لغزو شامل أصاب ما يخصنا بكارثة هائلة، وشهدنا منه الوحشية والهمجية، وتابعنا كناجين من أهواله قتل الأطفال وحرق الرجال والنساء وتدمير الحياة المادية، ومن الضروري استمرار استذكار هذه المشاهد المرعبة التي لا شك أنها ستمنع العودة إلى حدوثها، وأننا أيضاً أدركنا أن سبب حدوثها هو فسادنا ونفاقنا وتفرقنا وعدم تمسكنا بصيغ التلاقي وإيماننا بأرضنا وحدودها، وأن نطور مفاهيمنا التي استكانت لأفكارنا المتحولة إلى مسلمات، فسهل غزونا من كل الجوانب، ولولا البعض من الإنسان لكنا في خبر كان.

من يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال: هل الإنسان هو ألد وأخطر أعداء الإنسان وأشد مخلوقات الكون عنفاً وإجراماً وإرهاباً؟ فمهما بلغت قوة القوانين الروحية التي هضمها مع المشروبات الروحية كي يصنع منها الوضعية المادية لم تمنع تطوير خطره، حقاً يستطيع الإنسان أن يصادق أي شيء من المخلوقات إلا الإنسان الذي لا يدري متى ينقلب عليه رغم اختراع الأنثى له والوصول تاريخياً وروحياً لفلسفة التزاوج والسكنى من خلال الميثاق أو العقد أو الاتفاق، إنه في لحظة يتم تدمير البناء ويُهدم، ولذلك كتبت ذات مرة أن صداقة مع الكلب تنجح، ومع الإنسان تفشل، وقلت: كلبٌ صديق في حينها خيرٌ من صديق كلب، لأن الصديق إذا استكلب كانت الطامة الكبرى، فكيف به إذا تحول إلى عدو أو استعدى آخر؟ هذا الإنسان الذي ولد مقاتلاً شرساً صنع بفكره الحروب من باب أنه يريد كل شيء، وازداد نهمه وشرهه أكثر.

تفكروا في هذا، هي مصارحات وخواطر فكرية، أخطُّ معها تساؤلات عن هذا الإنسان الذي ولد في الغاب، وفهم قوانينها، وخرج منها إلى مدنيته، وقال عنها: إنها شرائع الغاب، ونظم القوانين من أجل تدميرها، إلا أنه في حقيقة الأمر مارس أعنفها، ومازال يمارس تحت أثواب ادعائه بالمدنية استعباد بعضه واستغلال الأضعف، وأكثر من صحيح أن الإنسان لا يقدر أن يواجه الحياة بأيدٍ فارغة، فكيف به يواجه الآخر من جنسه بالأيادي ذاتها؟ مؤكد أنه سيخضع له، والسؤال الأصعب هو: كيف قدر الآخر على التملك وبقي الكثرة دونه، طبعاً باستخدام العقل والإصرار على الاستثمار فيه؟

إن الإنسان عندما يفقد تصالحه مع ذاته يغدو عدو نفسه، ومن ثمّ تتطور عداواته، فتظهر على الآخر، وهنا أقول: التاريخ لا يعيد نفسه، إنما نخطئ الخطأ القديم ذاته، فيغدو المشهد متطابقاً، هذا يحدث لحظة عدم إدراكنا حجم ما جرى، ونبني أو نعيد البناء من دون الاستفادة مما حدث.

هل يمكن لغاصب أو معتدٍ أو إرهابي ادعاء الحفاظ على إنساننا ووحدة بنائه وسلامة وجوده؟ ألا تكون أهدافه الأولى والأخيرة هي النهب والقتل والتدمير واستلاب الأرض واستباحة العرض؟ إنه إنسان مثلنا تماماً، مهما اختلف مسمى الدولة التي يحيا عليها، فهو الذي يقودها، وأياً كان دينه أو معتقده أو لونه أو من أي قارة أو في القارة ذاتها، فالمشكلات معه حصراً، أي مع الإنسان الذي يقود الحياة، يستثمر الأرض ويستكشف الفضاء، يزرع الزرع ويحصده، ينبش الأرض ليستخدم ما فيها لمصلحته، يصطاد الطير في السماء، ويغوص إلى أعماق البحار، يشكم الحيوان، يستفيد منه، يربيه ثم يأكله أو يركبه، إنه العدو الأول والأخير لجنسه ولكل الأجناس، كيف يكون ذلك؟

ألا نتفكر كيف نتجه للإله؟ نعبده أو نؤمن به، أو نثق به، فالإنسان لديه مقدس قرآني إنجيلي توراتي بوذي إلى كل من يؤمن بشيء ما يعبده أو يقدسه، الكل لديه الوصايا العشر، وقيم ومبادئ مستخلصة من عبادته، وهي جميعها تدعو للإنسانية والحفاظ عليها، وأهم ما فيها: لا تقتل، لا تزنِ، لا تحلف باسم الله بالباطل، لا تخن ولا تأكل مال اليتامى، ولا تشتهِ ما لغيرك «جنس أو مال».

كيف بنا نؤمن بذلك ونفعل بإصرار كل ذلك، وتعلو الكثرة الحسد والغيبة والنميمة والاعتداء واستلاب الحقوق؟ مادامت عقولنا متمسكة بوثنياتها فنحن في خطر، وأرى أن سوادنا الأعظم يتوارثها، لأن أي تطور في المعتقد بظنهم سيقلب هذا المعتقد رأساً على عقب، وهذا يؤكد الابتعاد عن الجوهر الإنساني الجامع، لأن الجوهر إيمان، والمظهر أديان وعقائد وأفكار، هذه التي أوجدت حالة سكون في المعتقدات، منعت عن مريديها أي تطور أو تحديث، على الرغم من أن إنسانها يحمل قيمة ليست بالزهيدة ولا الخفيفة في ميزان الحياة، هذا الإنسان الذي يدفن الإنسان في القبور، ثم يقوم بذاته من دون لغة بأجنحة من صفاء الفكر وإبداع العقل وسلامة المنطق، هذا الإنسان الذي رفع مُثله للحق في الفكر، هو ذاته الذي يهدمها بالضغينة، هذا الإنسان الذي وضع بمنزلة القداسة هو ذاته شيطان الحياة.

هذا الإنسان المبدع في الخير والشر، سواده اتكالي وغيبي وظلامي انعزالي وانهزامي، مشعوذ يؤمن بالخرافة، رغم أنه كائن خرافي أزلي، هل يقدر هذا الإنسان على إنجاز التعاون الصادق مع أخيه الإنسان، أياً كان موقعه أو طبقته أو لونه؟ هذا ما أدعه برسم عقولكم أنتم معشر بني البشر القلقون باستمرار على مصائركم، حيث طمأنينتكم لا تألف أجواء القلق والخوف والحزن والفساد، هل نحن أبناء العصور المتأخرة الغابرة المقتنعون بأن الحضارة لا يمكن لها أن تبلغ كمالها من غير الحزن والرعب والقلق والألم؟ وهل يمكن لأي مجتمع أن يتمدّن من دون أن يقسو على بعضه وتضغط عليه الحياة إلى أن يجد السبيل الذي يأخذ بيده إلى صناعة التحضّر؟ وهل من يرغب في أن يبقى متأخراً؟ لا أعتقد إذاً أين تكمن المشكلة.

متى ننتفض على التسليم؟ أليس من يقود الإنسان إنساناً مثله نظيره في الحياة؟ فمن ينظم شؤون الإنسان إنسان، أليس الأخذ بيده وتحفيزه على الحياة أفضل من تركه لتعبث به يد الفوضى الإنسانية؟ وإذا كنا نؤمن بأننا قادرون على صناعة التحضّر ألا ينبغي أن نري بعضنا أفعالنا، فتتقوّم من خلال تبادل العلم والمعرفة؟ وإن كنا نمتلك حضارة، أليس الأفضل أن نذيعها وننشرها على الملأ، فنرى الجمال ونعمل على إزاحة القبح بتصنيع جمال بديل منه؟ يجب ألا ننكر أن الإنسان الحقيقي يحتاج إلى القوة ليحمي بها أسرته ومجتمعه ووطنه، ومن دونها يفسح المجال كي يستبيحه الإنسان الخطر.

د. نبيل طعمة