الحمــل ثقيــل

الحمــل ثقيــل

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١٢ فبراير ٢٠١٩

الحياة واسعة، الزمن ثابت، نحن نتغيَّر، لا رجوع للوراء، الكلمة إن لم تترك أثراً لدى متلقيها كمن يصرخ في واد، المقارنة مهمة بين الأفضل والأسوأ، المتساوون إن بقوا على حالهم فهم خاسرون، لأن الأعباء تتضاعف ضمن دائرة الانتظار، هل نقدر على العبور من دون أن نمتلك أدوات، أو بفكر فوضوي غير منظم، ويكون أمامنا جسور من الثقة والإيمان؟ هاتان المفردتان اللتان تنهيان كل أشكال الاختلاف، وتحدثان الوفق والوفاق المؤدي إلى الاتفاق، كلما زاد الحمل تباطأت الحركة، وحدث التململ، وضعُف التفكير، وانتشر الفساد من باب استسهال السطو على الغنائم بعد الوصول لتراكمها، ما أدى إلى انفلات الأخلاق وفقدان معادلة حصانة الإنسان وحقوقه ومتطلباته "الأمن والأمان" خلال تقهقر أمر مديد.

الزمن زلزل هذه المعادلة، وتعود الآن كقضية أولى تستحق البحث وإيجاد الحلول الناجعة، وهي تدعو لأن تكون مستعجلة، فهي ليست سهلة ومركبة في آن، ومفاهيمها غامضة ملتبسة ومتداخلة، لأن اندحار الإرهاب كشف حجم الجهل وأمراضه، هذا يقودنا لأن نسأل: هل نحن دولة حديثة مبنية وفقاً للمعايير العلمية والمقايسات الدولية؟ أم إننا دولة تاريخية تمتلك مزيجاً من الأفكار الروحية والسياسية أو الاقتصادية الدينية الماضية والحاضرة؟ لذلك نراها تتوه بين الحديث والتحديث، بين من يسيطر على من، الديني أم السياسي؟ ومن يرضي من منهما؟ وهنا أوسع السؤال: هل قمنا بإجراء مسح فكري دقيق حول مكونات مجتمعاتنا، وراقبنا أنشطتها ونتاجها، وفرزنا هذا الفكر أو بالأحرى بندناه، مدني حضري، بدوي، ديني، منفتح، متشدد، وسطي، علمي مرتبط ببند من هذه البنود، أو علماني وهمي، أو حقيقي مؤمن بالحياة وتطورها؟ وبعدها نقوم بإخراج نسبة الحديث والمستحدث الذي يحتاج إلى تحديث.

يحق لنا أن نستفهم وألا نكون خلف الاستفهام، فمعرفة الواقع والبحث فيه والاقتناع بأنه أفضل مما كنا عليه في الماضي القريب، حيث كنا نتمنى ونتخيل حضوره، لأنه منهج الحياة المباشرة، فمعرفته سهلة، وإدراكه سريع، والفشل منتظر بينهما من دون وضعه على أجندة المعلومات.

هل نحن نهرب من مواجهة المشكلات الحادة التي تتطلب أن نتجه إليها سريعاً، أم إننا مستمرون في الهروب منها، نعدها نوعاً من أساليب الحياة، ننغمس فيها من دون البحث عن حلول ناجعة لبناء مجتمعنا؟ وهنا لا أدعو للتقليد أثناء البحث، ولا أن نحاول إلباس مجتمعنا لبوس الآخر، فكثيرون من مدعي التحضّر مازال جوهرهم يحمل أشد أنواع التخلف، والأمثلة أكثر مما نتخيل، الحاجة غدت أكثر من ماسة، وأجزم بأننا نتمتع بالشجاعة والإقدام لتطوير بناء الفكر الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، فالظروف جد مناسبة، والرياح أكثر من مؤاتية، لأن التحديات القادمة أكبر مما نتوقع، فإن لم نسرع في إعطاء التعليمات المنطقية المستندة إلى مصادر علمية نابعة من خصوصيتنا وضمن آليات تنفيذية تستخدم سبل التتابع من أجل الاستدامة نكن في حالة تخبط، وربما نصل إلى نجاحات لا شك أنها مؤقتة.

الحمل ثقيل، كيف بنا نتوازعه لا أن ندور حوله أو نبقيه على كواهلنا؟ أين سياسات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتوزيع فرص العمل وتوطين العمل الزراعي والصناعي وبرامج التوزيع الديمغرافي والنمو السكاني وتكاثر التجمعات العشوائية؟ أين برامج بناء الطفولة الواقعية وتحفيز العمل وإجادته؟ هل تعلمنا بناء شركات ناجحة وتعاوناً لا ينقطع، وامتلكنا طموحات تحقق الإنتاج والنمو وشراكات ناجحة؟ وبما أننا بلد يقع وسط المحيط وبين أطراف العالم، وأننا نقطة ربط بين هذه الأطراف، كيف فهمنا هذه النقطة التي ينبغي أن تكون بارقة لامعة وجامعة وقوة دافعة؟ كيف بنا نختار الدماء الجديدة ونضخها ضمن شرايين الدولة الحديثة؟ ألا نحتاج إلى قرارات حاسمة تتنازل عن الأنا لمصلحة المجموع، تعزز الأداء الاقتصادي، وتحقق قفزات نوعية في البناء الاجتماعي؟

نعم تعرضنا لغزو شامل متعدد الأطراف ومن كل الجهات، خرج من تحت الأرض، وهبط علينا من السماء، وتقاسم الجميع إلا الندرة الدفاع والهجوم، وأصابت شظاياه الكثيرة جسدياً ومعنوياً ومادياً، وكانت إرادتهم إسقاط الوطن وشرذمته، وبعد العديد من السنين نجح الجميع في إيقافه، ومن ثم دحره إلى حد كبير، وصحيح أن مخاطره مازالت قائمة، وأن على الجميع المتابعة، إلا أن تحصين المنجزات ذو أهمية كبيرة، بما أن النجاح أخذ طريقه في المنحى العسكري والأمني والسياسي، إلا أن النجاح الاقتصادي مازال أكثر من بطيء، وهذا الذي يحتاج إلى العمل، لأن البطء الاقتصادي يؤدي إلى الفشل الاجتماعي، وهذا أخطر ما يكون على النجاحات في المحاور العسكرية والأمنية، ويؤدي إلى القلق السياسي. هل تبنى الدول من الضرائب والجمارك، أم من زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي والأنشطة التجارية والسياحية والثقافية، ناهيكم عن روافد الاقتصاد؛ النفط والغاز والفوسفات والكثير من المواد الدفينة تحت أرضنا؟

هل تعلمنا التخصص وهل أجدناه؟ هل عرفنا بناء الأسماء التجارية والصناعية وحافظنا عليها كي نورثها للأجيال؟ هل نجحنا في بناء تخصصات إنتاجية، وأشارت علينا الأصابع إلى أننا نمتلك هذا أو ذاك في محيطنا والعالم؟ أم إننا «كثيرو الكارات قليلو البارات» كما يقول المثل العامي؟ أجزم بأننا بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لوضع الأصابع على مواطن الخلل، ومن ثم البدء في العلاج مع وجود استشراف للمنطق الاجتماعي والاقتصادي الواقعي للمستقبل القريب والبعيد، لأن ظهور الخلل وانتشاره بين المجتمع يعني انتشاراً سريعاً للفساد والحديث المستمر عن مكافحته، من دون انتشار الثقة بأن الخطط واقعية وقابلة للتحقق، وتعميم أساليب العمل والإنتاج يبقى التأخير، بل أكثر من ذلك يحوله إلى واقع يفقد القدرة على علاجه.

هل فكرنا بمؤشرات تبادل الثقة بين الحكومة والمواطن، ووضعنا أسساً لترسيخ العلاقة بين القطاعين الحكومي والخاص، وأنجزنا بينهما تعاوناً وثيقاً يصطاد الفرص الحاضرة والمستقبلية، يجيرها لمصلحة الوطن والمواطن ومصلحته؟ هل وصلنا لمنافسة اقتصادنا الوطني لنفسه أولاً، ووضعنا معايير الجودة الحقيقية، كي نقول إننا ننافس في محيطنا ومن ثم الأبعد؟ ربما سيعتبر البعض أن هذا الصوت الذي نتحدث به عالياً، وأنه ضمن لغة كتاب التنظير، ليكن ولتكن دعوة لإثارة الجدل الواقعي من أجل الأفضل، ربما يزعج البعض ويشتت الصمت الذي لم يعد مغرياً لأحد، وربما يربك مصالح البعض، ويهدم قناعات آخرين استسلموا لمناهج بائدة ومصلحتهم في استمرارها، ربما يكون وقع ما أخط سلبياً، إلا أني أقصد بأن نخرج مما نحن فيه، وعليه أن نتجه مرة ثانية إلى الأمام من دون توقف، فلا ينبغي أن يبقى المجتمع على خلاف مع الحكومة، والمجتمع لا يخالف حباً بالمخالفة، إنما يجب أن تكون سبله منارة، ولو في الحد الأدنى، كي لا يبقى يراوح في المكان.

دققوا معي فستجدوا أن لدينا مئات الجمعيات الخيرية بلا فاعلية، وآلافاً مؤلفة من المساجد ومئات الكنائس، وليس لدينا مراكز أبحاث اقتصادية حقيقية، ولا حتى مراكز دراسات اجتماعية، ورغم وجود الندرة منها إلا أنها ظرفية، وتعمل بلغة الفرد لا الجماعة، وغايتها تخضع إلى السلطة لا إلى المجتمع، لذلك أؤكد أن الحمل ثقيل، هذا ما يدركه المجتمع، فكيف بنا نمنحه البريق، ونضيء له الطريق، كي يستمر مؤمناً بما يقدم له وفاعلاً على جغرافيته، وإن لم نسرع في تقاسم همومه وحمل أعبائه والعمل الحثيث على إنزال هذا الحمل وفرده ورمي الوهمي منه والتالف، فسيبقى ثقيلاً وسنبقى نراوح في المكان.

د. نبيل طعمة